وقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي : صل به في سائر أوقاته . { نَافِلَةً لَكَ } أي : لتكون صلاة الليل زيادة لك في علو القدر ، ورفع الدرجات ، بخلاف غيرك ، فإنها تكون كفارة لسيئاته .
ويحتمل أن يكون المعنى : أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين ، بخلاف صلاة الليل ، فإنها فرض عليك بالخصوص ، ولكرامتك على الله ، أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك ، وليكثر ثوابك ، وتنال بذلك المقام المحمود ، وهو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون ، مقام الشفاعة العظمى ، حين يتشفع الخلائق بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، وكلهم يعتذر ويتأخر عنها ، حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ، ليرحمهم الله من هول الموقف وكربه ، فيشفع عند ربه فيشفعه ، ويقيمه مقامًا يغبطه به الأولون والآخرون ، وتكون له المنة على جميع الخلق .
( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) . . والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل . والضمير في )به )عائد على القرآن ، لأنه روح الصلاة وقوامها .
( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) . . بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به ، وبهذه الصلة الدائمة بالله . فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول [ ص ] يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به ، وهو المصطفى المختار ، فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم . فهذا هو الطريق . وهذا هو زاد الطريق .
وقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال : " صلاة الليل " {[17721]} .
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد : ما كان بعد نوم . قاله علقمة ، والأسود وإبراهيم النخعي ، وغير واحد وهو المعروف في لغة العرب . وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يتهجد بعد نومه ، عن ابن عباس ، وعائشة ، وغير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، كما هو مبسوط في موضعه{[17722]} ، ولله الحمد والمنة .
وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء . ويحمل{[17723]} على ما بعد النوم .
واختلف في معنى قوله : { نَافِلَةً لَكَ } فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة . رواه العوفي عن ابن عباس ، وهو أحد قولي العلماء ، وأحد قولي الشافعي ، رحمه الله ، واختاره ابن جرير .
وقيل : إنما جعل قيام الليل{[17724]} في حقه نافلة على الخصوص ؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وغيرهُ من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه ، قاله مجاهد ، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه{[17725]} .
وقوله : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } أي : افعل هذا الذي أمرتك به ، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحسدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم ، تبارك وتعالى .
قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن{[17726]} أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، عن حذيفة قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عُراة كما خلقوا قيامًا ، لا تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادى : يا محمد ، فيقول : " لبيك وسعدَيك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهديّ من هَدَيْت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت " . فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل{[17727]} {[17728]} .
ثم رواه عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، به{[17729]} . وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري ، عن أبي إسحاق ، به{[17730]} .
وقال ابن عباس : هذا المقام المحمود مقام الشفاعة . وكذا قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد . وقاله الحسن البصري .
وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض{[17731]} ، وأول شافع ، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }
قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا تشريفات [ يوم القيامة ]{[17732]} لا يشركه فيها{[17733]} أحد ، وتشريفات لا يساويه فيها أحد ؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض{[17734]} ويبعث راكبا إلى المحشر ، وله اللواء الذي آدم فمن دُونَه تحت لوائه ، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردًا منه ، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق ، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ، فكل يقول : " لست لها " حتى يأتوا إلى محمد{[17735]} صلى الله عليه وسلم فيقول : " أنا لها ، أنا لها " كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع ، إن شاء الله تعالى . ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار ، فيردون عنها . وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته ، وأولهم إجازة على الصراط بأمته . وهو أول شفيع في الجنة ، كما ثبت في صحيح مسلم . وفي حديث الصور : أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم . ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم . وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة ، لا تليق إلا له . وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة{[17736]} شفع{[17737]} الملائكة والنبيون والمؤمنون ، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم{[17738]} إلا الله ، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك . وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب " السيرة " في باب الخصائص ، ولله الحمد والمنة .
ولنذكر الآن{[17739]} الأحاديث الواردة في المقام المحمود ، وبالله المستعان :
قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، سمعت ابن عمر [ يقول ]{[17740]} : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقامًا محمودًا{[17741]} .
ورواه حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا{[17742]} شعيب بن الليث ، حدثنى{[17743]} الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشمس لَتدنو حتى يبلغ{[17744]} العَرَقُ نصفَ الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا{[17745]} بآدم ، فيقول : لست صاحب ذلك ، ثم بموسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد فيشفع بين الخلق{[17746]} ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا " . [ يحمده أهل الجنة كلهم ]{[17747]} .
وهكذا رواه البخاري في " الزكاة " عن يحيى بن بُكَيْر ، وعبد الله بن صالح ، كلاهما عن الليث بن سعد ، به{[17748]} ، وزاد " فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا ، بحمده أهل الجمع كلهم " .
قال البخاري : وحدثنا علي بن عَيَّاش ، حدثنا شعيب بن أبي حَمْزة ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته ، حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة " . انفرد به دون مسلم{[17749]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فَخْر " {[17750]} .
وأخرجه الترمذي ، من حديث أبي عامر عبد الملك بن عَمْرو العَقَديّ ، وقال : " حسن صحيح " . وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به . وقد قدمنا في حديث : " أبي بن كعب " في قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره : " فقلت : اللهم ، اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق ، حتى إبراهيم عليه السلام " {[17751]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجتمع{[17752]} المؤمنون يوم القيامة ، فيلهمون ذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ، فأراحنا من مكاننا هذا . فيأتون آدم فيقولون : يا آدم ، أنت أبو{[17753]} البشر ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كلّ شيء ، فاشفع لنا إلى ربك{[17754]} حتى يريحنا من مكاننا هذا . فيقول لهم آدم : لست هناكم ، ويذكر ذنبه الذي أصاب ، فيستحيي ربه ، عز وجل ، من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا نوحًا ، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . فيأتون نوحًا فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئة{[17755]} سؤاله ربه ما ليس له به علم ، فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن . فيأتونه فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا موسى ، عبدًا كلمه الله ، وأعطاه التوراة . فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس{[17756]} فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني " . قال الحسن هذا الحرف{[17757]} : " فأقوم فأمشي بين سِماطين من المؤمنين " . قال أنس : " حتى أستأذن على ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو : خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني " . قال : " ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا ، فأدخلهم الجنة " : " ثم{[17758]} أعود{[17759]} إليه الثانية ، فإذا رأيت ربي وقعت{[17760]} - أو : خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني . ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود في الثالثة ؛ فإذا رأيت ربي وقعت - أو : خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة . ثم أعود الرابعة فأقول : يا رب ، ما بقي إلا من حبسه القرآن " . فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فيخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرَّة ثم يخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " .
أخرجاه [ في الصحيح ]{[17761]} من حديث سعيد ، به{[17762]} وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بطوله{[17763]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري ، عن النضر بن أنس ، عن أنس قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط ، إذ جاءني عيسى ، عليه السلام ، فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون - أو قال : يجتمعون إليك - ويَدْعُون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ، لغمّ{[17764]} ما هم فيه ، فالخلق مُلجَمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكْمَة ، وأما الكافر فيغشاه الموت ، فقال : انتظر حتى أرجع إليك . فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش ، فلقي ما لم يلق مَلَك مصطفى ولا نبي مرسل . فأوحى الله ، عز وجل ، إلى جبريل : أن اذهب إلى محمد ، وقل له : ارفع رأسك ، وسل تُعطَه ، واشفع تشفع . فشفَعتُ{[17765]} في أمتي : أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا . فما زلت أتردد إلى ربي ، عز وجل ، فلا أقوم منه مقامًا إلا شفعت ، حتى أعطاني الله من ذلك ، أن قال : يا محمد ، أَدْخِلْ [ من أمتك ]{[17766]} من خلق الله ، عز وجل ، من شهد أن لا إله إلا الله يومًا واحدًا مخلصًا ومات على ذلك " {[17767]} .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر ، أخبرنا أبو إسرائيل ، عن الحارث بن حَصِيرة ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه : أنه دخل على معاوية ، فإذا رجل يتكلم ، فقال بريدة : يا معاوية ، تأذن لي في الكلام ؟ فقال : نعم - وهو يرى أنه يتكلم بمثل{[17768]} ما قال الآخر - فقال بريدة : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة " . قال : فترجوها أنت يا معاوية ، ولا يرجوها عليّ ، رضي الله عنه ؟ !{[17769]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا سعيد بن زيد ، حدثنا علي بن الحكم البُنَاني ، عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود قال : جاء ابنا مُلَيْكَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا إن أمَّنا [ كانت ]{[17770]} تكرم الزوج ، وتعطف على الولد - قال : وذكر الضيف - غير أنها كانت وأدت في الجاهلية ؟ فقال : " أمكما في النار " . قال : فأدبرا والسوء يرى في وجوههما ، فأمر بهما فَرُدَّا ، فَرَجَعَا والسرور{[17771]} يرى في وجوههما ؛ رجاء أن يكون قد حدث شيء ، فقال : " أمي مع أمكما " . فقال رجل من المنافقين : وما يغني هذا عن أمه شيئًا ! ونحن نطأ عقبيه . فقال رجل من الأنصار - ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه - : يا رسول الله ، هل وعدك ربك فيها أو فيهما ؟ . قال : فظن أنه من شيء قد سمعه ، فقال : " ما شاء الله ربي وما أطمعني{[17772]} فيه ، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة " . فقالَ الأنصاري : يا رسول الله ، وما ذاك المقام المحمود ؟ قال : " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم ، عليه السلام ، فيقول : اكسوا خليلي . فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش ، ثم أوتي بكسوتي فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد ، فيغبطني فيه الأولون والآخرون . ويفتح نهر{[17773]} من الكوثر إلى الحوض " . فقال المنافقون : إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حاله المسك ، ورضراضه التُّوم " . [ قال المنافق : لم أسمع كاليوم . قلَّما جرى ماء قط على حال أو رضراض ، إلا كان له نبتة . فقال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له نبت ؟ قال " نعم ، قضبان الذهب " ]{[17774]} . قال المنافق : لم أسمع كاليوم ، فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق ، وإلا كان له ثمر ! قال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له ثمرة ؟ قال : " نعم ، ألوان الجوهر ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، من شرب منه شربةً{[17775]} لا يظمأ بعده ، ومن حرمه لم يَرْوَ بعده " {[17776]} .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا يحيى بن سَلَمَة بن كُهَيْل ، عن أبيه ، عن أبي الزّعْرَاء ، عن عبد الله قال : ثم يأذن الله ، عز وجل ، في الشفاعة ، فيقوم روح القدس جبريل ، ثم يقوم إبراهيم خليل الله ، ثم يقوم عيسى أو موسى - قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما - قال : ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعًا ، فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع ، وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }{[17777]} .
حديث كعب بن مالك ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله [ بن كعب ]{[17778]} بن مالك ، عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي ، عز وجل ، حلة خضراء{[17779]} ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود " {[17780]} .
حديث أبي الدرداء ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن ابن جُبَير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه ، فأنظر إلى ما بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك " . فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم ، فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : " هم غرّ مُحَجَّلُون ، من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يُؤتَونَ كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى{[17781]} بين أيديهم ذريتهم " {[17782]} .
حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حَيَّان ، حدثنا أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فَرُفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فَنَهَسَ منها نَهْسة{[17783]} ، ثم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممّ ذاك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يُسْمعهم الداعي ويَنفذُهم البصر ، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ{[17784]} والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون . فيقول بعض الناس لبعض : [ ألا ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم عز وجل ؟ فيقول بعض الناس لبعض ]{[17785]} : أبوكم آدم ! .
فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ؛ فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي ، نفسي ، نفسي ! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .
فيأتون نوحًا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدًا شكورًا ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة{[17786]} على قومي ، نفسي ، نفسي ، نفسي ! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم .
فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، [ اشفع لنا إلى ربك ]{[17787]} ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته نفسي ، نفسي ، نفسي [ اذهبوا إلى غيري ]{[17788]} اذهبوا إلى موسى .
فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى .
فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - قال : هكذا هو - وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر ذنبا ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد .
فيأتوني فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدًا لربي ، عز وجل ، ثم يفتح الله عليّ ، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي . فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، يا رب أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي ! فيقال : يا محمد : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده لما بين مِصْراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وَهَجَر ، أو كما بين مكة وبُصْرَى " . أخرجاه في الصحيحين{[17789]} .
وقال مسلم ، رحمه الله : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا هِقْلُ بن زياد ، عن الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني عبد الله بن فرُّوخ ، حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مُشَفَّع " {[17790]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن داود بن يزيد الزّعافري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ، سئل عنها فقال : " هي الشفاعة " {[17791]} .
رواه الإمام أحمد عن وكيع وعن محمد{[17792]} بن عبيد ، عن داود ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } قال : " هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه " {[17793]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة ، مدّ الله الأرض مدّ الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه{[17794]} . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن{[17795]} والله ما رآه قبلها ، فأقول{[17796]} رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي . فيقول الله تبارك وتعالى : صدق ، ثم أشفع . فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض " ، قال : " فهو المقام المحمود " {[17797]} ، وهذا حديث مرسل .
وقوله { ومن الليل } { من } للتبعيض ، وقتاً من الليل أي وقم وقتاً ، والضمير في { به } عائد على هذا المقدر{[7668]} ويحتمل أن يعود على «القرآن » وإن كان لم يجر له ذكر مطلق كما هو الضمير مطلق ، لكن جرى مضافاً إلى الفجر ، و { فتهجد } معناه : فاطرح الهجود عنك ، والهجود النوم ، يقال هجُد يهجُد بضم الجيم هجوداً إذا نام ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
ألا طرقتنا والرفاق هجود . . . فباتت بعلات النوال تجود{[7669]}
فحياك ود ما هداك لفتية . . . وخوص بأعلى ذي طوالة هجد{[7670]}
وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتأثم وتحنث ، ومثله { فظلتم تفكهون }{[7671]} معناه تندمون ، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم{[7672]} وهي انبساط النفس وسرورها ، يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك ، فالمعنى وقتاً من الليل اسهر به في صلاة وقراءة ، وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود : «التهجد » بعد نومة ، وقال الحجاج بن عمرو إنما «التهجد » بعد رقدة ، وقال الحسن : «التهجد » ما كان بعد العشاء الآخرة ، وقوله { نافلة لك } قال ابن عباس وغيره : معناه زيادة لك في الفرض ، قالوا : وكان قيام الليل فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم{[7673]} .
قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الآية أن يكون هذا على وجه الندب في التنفل ، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد هو وأمته كخطابه في قوله { أقم الصلوات } الآية . وقال مجاهد : إنما هي { نافلة } للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم ، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته ، لأن هذا إما أن تجبر بها فرائصهم حسب الحديث ، وإما أن تحط بها خطاياهم ، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل فيكون تنفله فضيلة ، كنصراني يسلم وصبي يحتلم ، وضعف الطبري قول مجاهد{[7674]} . وقوله { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } عزة من الله عز وجل لرسوله ، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه السلام ، والحديث بطوله في البخاري ومسلم ، فلذلك اختصرناه{[7675]} ، ولأجل ذلك الاعتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال : «أنا سيد ، ولد آدم ولا فخر »{[7676]} و { عسى } من الله واجبة ، و { مقاماً } نصب على الظرف ، ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى ، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس وينطلقون من الموقف ، فيذهب لذلك ، وينص بإثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار ، فمعناه الاقتضاب والاختصار . لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف ، ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار ، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء ، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي »{[7677]} .
قال القاضي أبو محمد : وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه لأمته وغيرها ، أو يقال إن كل مقام منها محمود ، قال النقاش : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات ، شفاعة العامة ، وشفاعة السبق إلى الجنة ، وشفاعة في أهل الكبائر ، والمشهور أنهما شفاعتان فقط ، وحكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : «المقام المحمود » هو أن الله عز وجل يجلس محمداً معه على عرشه ، وروت في ذلك حديثاً ، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول ، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد ، ولا ينكر مع ذلك أن يروى ، والعلم يتأوله ، وقد ذكر النقاش عن أبي داود السختياني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا .
عطف على { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] فإنه في تقدير جملة لكونه معمولاً لفعل أقم [ الإسراء : 78 ] .
وقدم المجرور المتعلق ب تهجّدْ على متعلقه اهتماماً به وتحريضاً عليْه . وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء . وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها ، وهو استعمال فصيح . ومنه قوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وقول النبي : ففيهما فَجَاهِدْ ، وتقدم عند قوله تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } في سورة [ براءة : 7 ] .
وجَعل الزجاج والزمخشري قوله : { ومن الليل } في معنى الإغراء بناءً على أن نصب { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] على الإغراء فيكون { فتهجد } تفريعاً على الإغراء تفريع مفصل على مجمل ، وتكون ( من ) اسماً بمعنى ( بعض ) كالتي في قوله : { من الذين هادوا يحرفون الكلم } [ النساء : 46 ] وهو أيضاً حسن .
وضمير { به } للقرآن المذكور في قوله : { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] وإن كان المعاد مقيداً بكونه في الفجر والمذكورُ هنا مراداً مُطلقهُ ، كقولك . عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا نصف الدرهم الذي عندك .
والتهجد : الصلاة في أثناء الليل ، وهو اسم مشتق من الهجود ، وهو النوم . فمادة التفعل فيه للإزالة مثل التحَرج والتأثم .
والنافلة : الزيادة من الأمر المحبوب .
واللام في { لك } متلعقة ب { نافلة } وهي لام العلة ، أي نافلة لأجلك . وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر للوجوب . وبذلك انتظم في عداد الصلوات الواجبة فبعضها واجب عليه وعلى الأمة ، وبعضها واجب عليه خاصة ويعلم منه أنه مرغب فيه كما صرحت به آية سورة [ المزمل : 20 ] { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك } إلى قوله : { ما تيسر منه } وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له ، ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاماً محموداً . فجملة { عسى أن يبعثك } تعليل لتخصيصه بإيجاب التهجد عليه ، والرجاء من الله تعالى وعد . فالمعنى : ليبعثك ربك مقاماً محموداً .
والمقام : محل القيام . والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم ، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا ، وإلا فهو المجلس .
وانتصب { مقاماً } على الظرفية ل { يبعثك } .
ووصفُ المقام بالمحمود وصف مجازي . والمحمود من يقوم فيه ، أي يحمد أثره فيه ، وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام ، ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن عمر " أن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً بضم الجيم وتخفيف المثلثة أي جماعات كل أمة تتبع نبيئها يقولون : يا فلان أشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " وفي « جامع الترمذي » عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا } قال : هي الشفاعة . قال : هذا حديث حسن صحيح .
وقد ورد وصف الشفاعة في « صحيح البخاري » مفصلاً . وذلك مقام يحمده فيه كل أهل المحشر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن الليل فتهجد به نافلة لك}، بعد المغفرة؛ لأن الله عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما كان من عمل فهو نافلة...
{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}، يعني: مقام الشفاعة في أصحاب الأعراف يحمده الخلق كلهم، والعسى من الله عز وجل واجب...
قال الشافعي: واعلموا أن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته في يوم القيامة حق، والدليل عليه قوله تعالى: {عَسى أَنْ يَّبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} يعني الشفاعة العظمى، وقوله صلى الله عليه وسلم: « ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وقوله عليه الصلاة والسلام: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: أوتيت جوامع الكلم، ونصرتُ بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا، وأعطيت الشفاعة». ولأنه حسن المغفرة عنها بالتوبة، فبأن تحسن المغفرة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، لأن فيه رفعة لمنزلته، وترغيبا في الطاعة والإيمان به. (الكوكب الأزهر شرح الفقه الأكبر: 29-30.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "ومن الليل "فاسهر بعد نومة يا محمد بالقرآن، "نافلة لك" خالصة دون أمتك. والتهجد: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. وأما الهجود نفسه: فالنوم...
وأما قوله: "نافِلَةً لَكَ" فإنه يقول: نفلاً لك عن فرائضك التي فرضتها عليك.
واختُلف في المعنى الذي من أجله خصّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كون صلاة كلّ مصلّ بعد هجوده، إذا كان قبل هجوده قد كان أدّى فرائضه نافلة نفلاً، إذ كانت غير واجبة عليه؛
فقال بعضهم: معنى خصوصه بذلك: هو أنها كانت فريضة عليه، وهي لغيره تطوّع، وقيل له: أقمها نافلة لك: أي فضلاً لك من الفرائض التي فرضتها عليك عما فرضت على غيرك... [روي عن ابن عباس]
وقال آخرون: بل قيل ذلك له عليه الصلاة والسلام لأنه لم يكن فعله ذلك يكفّر عنه شيئا من الذنوب، لأن الله تعالى كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فكان له نافلة فضل، فأما غيره فهو له كفارة، وليس هو له نافلة... [روي عن مجاهد]... وأولى القولين بالصواب في ذلك، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل دون سائر أمته. فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ عليه "لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ" وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد مُنْصَرِفه من الحديبية، وأنزل عليه "إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْحُ" عام قبض، وقيل له فيها "فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا" فكان يُعدّ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مئة مرّة، ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد...
وقوله: "عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمودا" وعسى من الله واجبة، وإنما وجه قول أهل العلم: عسى من الله واجبة، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه إذا هو تعاهده ولزمه، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الإطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته، أو على فعل من الأفعال، أو أمر أو نهى أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإنه موف لهم به، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها، قالوا: عسى ولعلّ من الله واجبة.
وتأويل الكلام: أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك، لعلّ ربك يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده، وتغبط فيه.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود؛
فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم...
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن داود بن يزيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمودا سُئل عنها، قال: «هِيَ الشّفاعَةُ».
حدثنا عليّ بن حرب، قال: حدثنا مَكّيّ بن إبراهيم، قال: حدثنا داود بن يزيد الأَوْدِيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا قال: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي»...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: النافلة الغنيمة كقوله: {يسألونك عن الأنفال} (الأنفال: 1) أي الغنائم، وقوله {نافلة لك} أي غنيمة لك تغنم بها الغنائم أو كلاما نحو هذا... وقال الحسن: قوله {نافلة لك}: أي خالصة لك، وخُلُوصُهُ له هو أنه لا يغفل هو عن شيء منها في حال من الأحوال، وغيره من الناس يغفلون فيها عن أشياء...
{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال (بعضهم): {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} تحمد عاقبته بالتهجد، أي يبعثك ربك مقاما تحمد أنت تلك العاقبة جزاء تهجدك في الدنيا. وقال بعضهم: {مقاما محمودا} ما يحمده كل الخلائق الأولون والآخرون... وجائز أن يكون هو صلة ما تقدم من قوله: {فتقعد مذموما مخذولا} (الإسراء: 22) وقوله: {فتقعد ملوما محسورا} (الإسراء: 29) وقوله: {فتلقى في جهنم ملوما مدحورا} (الإسراء: 39) وما سمع من المواعيد؛ لما سمع هذا؛ وقرع سمعه ذلك، أخافه وأفزعه، فنزل قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} إن عبدت الله وأطعته في جميع أموره ونواهيه، وأقمت الصلاة والصيام...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمِنَ اليل} وعليك بعض الليل {فَتَهَجَّدْ بِهِ} والتهجد: ترك الهجود للصلاة... {نَافِلَةً لَّكَ} عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، وضع نافلة موضع تهجداً؛ لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد... ومعنى المقام المحمود: المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
والمراد من الآية قيام الليل للصلاة، وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه} ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخاً في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} وبقي الوجوب ثابتاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى {نافلة لك} أي زيادة لك يريد فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة، كما ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال:"صلاة الليل"...
واختلف في معنى قوله: {نَافِلَةً لَكَ} فقيل: معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة...
وقيل: إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيرهُ من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه، قاله مجاهد، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه...
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا أبو الأحوص، عن آدم بن علي، سمعت ابن عمر [يقول]: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقامًا محمودًا... عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس لَتدنو حتى يبلغ العَرَقُ نصفَ الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، فيقول: لست صاحب ذلك، ثم بموسى فيقول كذلك، ثم بمحمد فيشفع بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا". [يحمده أهل الجنة كلهم]. وهكذا رواه البخاري في "الزكاة "عن يحيى بن بُكَيْر، وعبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث بن سعد، به، وزاد" فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، بحمده أهل الجمع كلهم"...
عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة". انفرد به دون مسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم حث بعدها على التهجد لأفضليته وأشديته فقال تعالى: {ومن} أي وعليك بعض، أو قم بعض {الّيل فتهجد} أي اترك الهجود -وهو النوم- بالصلاة {به} أي بمطلق القرآن، فهو من الاستخدام الحسن {نافلة لك} أي زيادة مختصة بك؛ قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب: وأصل النفل الزيادة، ومنه الأنفال الزائدة على الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة، وقال أبو عبد الله القزاز: النوافل: الفواضل، ومن هذا يقولون: فلان ممن ترجى نوافله -انتهى. فهو زيادة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الفرض وللأمة في التطوع، وخص به ترغيباً للأمة لأنهم يعلمون أنه لا يخص إلا بخير الخير، لأنه الوقت الذي كني فيه عن استجابة الدعاء بالنزول إلى السماء الدنيا اللازم منه القرب الوارد في الأحاديث الصحيحة أنه يكون في جوف الليل، لأن من عادة الملوك في الدنيا أن يجعلوا فتح الباب والقرب منه ورفع الستر والنزول عن محل الكبرياء أمارة على قضاء الحوائج، وكل ما يعبر به عن الله تعالى مما ينزه سبحانه عن ظاهره يكون كناية عن لازمه، وبين ذلك حديث رويناه في جزء العبسي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"إن في الليل ساعة يفتح فيها أبواب السماء فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟" إلى آخره، فهذا شاهد عظيم لهذا التأويل.
ولما أمره سبحانه بالتهجد والتذلل، وكان السياق للعظمة رجاء في النوال بما يليق بالسياق فقال تعالى: {عسى أن} أي لتكون بمنزلة الراجي لأن {يبعثك} ولما كان السياق قد انصرف للترجية، عبر بصفة الإحسان فقال تعالى: {ربك} أي المحسن إليك بعد الموت الأكبر وقبله، كما بعث نفسك من الموت الأصغر إلى خدمته {مقاماً} نصب على الظرف {محموداً} وذلك لأن "عسى "للترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه، وقد يضعف ذلك فيلزم الشك في الأمر، وقد يقوى فيأتي اليقين، وهي هنا لليقين، قالوا: إن عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع أحداً في شيء ثم حرمه كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يفعل ذلك، وعبر بها دون ما يفيد القطع لأن ذلك أقعد في كلام الملوك لأنه أدل على العظمة، وللبخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع! يا فلان اشفع! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
أي فيظهر ما له من الحظ من اسمه أحمد ومحمد في ذلك الحين بحمد كل ذي روح بإيصال الإحسان إلى كل منهم بالفعل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا كان الرسول [صلى الله عليه وسلم] يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به، وهو المصطفى المختار، فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم. فهذا هو الطريق. وهذا هو زاد الطريق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على {وقرآن الفجر} [الإسراء: 78] فإنه في تقدير جملة لكونه معمولاً لفعل أقم [الإسراء: 78]. وقدم المجرور المتعلق بتهجّدْ على متعلقه اهتماماً به وتحريضاً عليْه. وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء... وتكون (من) اسماً بمعنى (بعض)... وهو أيضاً حسن... فجملة {عسى أن يبعثك} تعليل لتخصيصه بإيجاب التهجد عليه، والرجاء من الله تعالى وعد. فالمعنى: ليبعثك ربك مقاماً محموداً... والمقام: محل القيام. والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا، وإلا فهو المجلس...
لكن ما علة هذه الزيادة في حق رسول الله؟ العلة في قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (سورة المزمل 5): وكأن التهجد ليلاً، والوقوف بين يدي الله في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة والطاقة اللازمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه، ألا وهي مسئولية حمل المنهج وتبليغه للناس... والمقام المحمود، كلمة محمود: أي الذي يقع عليه الحمد، والحمد هنا مشاع فلم يقل: محمود ممن؟ فهو محمود ممن يمكن أن يتأتى منه الحمد، محمود من الكل من لدن آدم، وحتى قيام الساعة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} في يوم القيامة، أو في الدنيا والآخرة... وربما كان ذلك نظراً إلى مقام الشفاعة الذي جعله الله للرسول (صلى الله عليه وسلم) في يوم القيامة، بما يحمده عليه جميع الخلائق، لو كان الخطاب موجهاً للنبي (صلى الله عليه وسلم)، أما إذا كان موجّهاً إلى كل إنسانٍ فإن المراد به والله العالم هو المقام الذي يناله المؤمن المخلص في صلاته، وذلك لما يمنحه الله من الثواب والكرامة والرضوان عنده...