{ إِنْ كَانَتْ } أي : كانت عقوبتهم { إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي : صوتا واحدا ، تكلم به بعض ملائكة اللّه ، { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } : قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم ، وانزعجوا لتلك الصيحة ، فأصبحوا خامدين ، لا صوت ولا حركة ، ولا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار ، ومقابلة أشرف الخلق بذلك الكلام القبيح ، وتجبرهم عليهم .
وقوله : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } : يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه ، غضبًا منه تعالى عليهم ؛ لأنهم كذبوا رسله ، وقتلوا وليه . ويذكر تعالى : أنه ما أنزل عليهم ، وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم ، بل الأمر كان أيسر من ذلك . قاله ابن مسعود ، فيما رواه ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عنه أنه قال في قوله : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } أي : ما كاثرناهم بالجموع الأمر كان أيسر علينا من ذلك ، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } قال : فأهلك الله ذلك الملك ، وأهلك أهل أنطاكية ، فبادوا عن وجه الأرض ، فلم يبق{[24724]} منهم باقية .
وقيل : { وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } أي : وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم ، بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم .
وقيل : المعنى في قوله : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ } أي : من رسالة أخرى إليهم . قاله مجاهد وقتادة . قال قتادة : فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله ، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } .
قال ابن جرير : والأول أصح ؛ لأن الرسالة لا تسمى جندًا .
قال المفسرون : بعث الله إليهم جبريل ، عليه السلام ، فأخذ بعضادتي باب بلدهم ، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم ، لم يبق فيهم روح تتردد في جسد .
وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عليه السلام ، كما نص عليه قتادة وغيره ، وهو الذي لم يذكر عن{[24725]} واحد من متأخري المفسرين غيره ، وفي ذلك نظر من وجوه :
أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله ، عز وجل ، لا من جهة المسيح ، كما قال تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } إلى أن قالوا : { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ يس : 14 - 17 ] . ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح ، عليه السلام ، والله أعلم . ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : { مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } [ يس : 15 ] .
الثاني : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ؛ ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتَاركة ، وهن القدس لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها ، والإسكندرية لأن فيها{[24726]} اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة{[24727]} والشمامسة والرهابين . ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطَّدَه . ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها ، كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين ، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله{[24728]} ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم{[24729]} ، فالله أعلم .
الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف : أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ، ذكروه عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } [ القصص : 43 ] . فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن [ العظيم ]{[24730]} قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا . أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة ، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك ، والله ، سبحانه وتعالى ، أعلم .
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتري ، حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني ، حدثنا حُسَين الأشقر ، حدثنا ابن عُيَيْنة ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن{[24731]} ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السُّبَّق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب " ، {[24732]} فإنه حديث منكر ، لا يعرف إلا من طريق{[24733]} حسين الأشقر ، وهو شيعي متروك ، [ والله أعلم ] . {[24734]}
وقرأ الجمهور «إلا صيحةً » بالنصب على خبر «كان » ، أي ما كان عذابهم إلا صحية واحدة ، وقرأ أبو جعفر ومعاذ بن الحارث{[2]} «إلا صيحةٌ » بالرفع ، وضعفها أبو حاتم{[3]} ، والوجه فيها أنها ليست «كان » التي تطلب الاسم والخبر ، وإنما التقدير ما وقعت أو حدثت إلا صحية واحدة ، وقرأ ابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود{[4]} إلا زقية «وهي الصيحة » من الديك ونحوه من الطير{[5]} ، و { خامدون } ساكنون موتى لاطون بالأرض{[6]} شبهوا بالرماد الذي خمدت ناره وطفئت .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.