{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
أي : أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله ؟ لا يحسن هذا ولا يليق ، لأنه لا أحسن دينا من دين الله { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } أي : الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا ، وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم ، وكرها وهم سائر الخلق ، حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه ، ولا امتناع لهم منه ، وإليه مرجع الخلائق كلها ، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل .
إن دين الله واحد ، جاءت به الرسل جميعا ، وتعاقدت عليه الرسل جميعا . وعهد الله واحد أخذه على كل رسول . والإيمان بالدين الجديد واتباع رسوله ، ونصرة منهجه على كل منهج ، هو الوفاء بهذا العهد . فمن تولى عن الإسلام فقد تولى عن دين الله كله ، وقد خاس بعهد الله كله .
والإسلام - الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له - هو ناموس هذا الوجود . وهو دين كل حي في هذا الوجود .
إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام . صورة كونية تأخذ بالمشاعر ، وترتجف لها الضمائر . . صورة الناموس القاهر الحاكم ، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد وشرعة واحدة ، ومصير واحد .
فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل . .
ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله ، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه ، وفي نظام حياته ، وفي منهج مجتمعه ، ليتناسق مع النظام الكوني كله . فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه ، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه ، في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون ، وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني . . والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره ، وفي واقعه وارتباطاته ، وفي عمله ونشاطه ، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها . وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق ؛ أو لا يؤدي - على كل حال - وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له . وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه ، يملك معرفة أسرارها ، وتسخيرها ، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة ، ويعفيهمن الخوف والقلق والتناحر . . الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون ، ولكن ليطبخ بها ويستدفىء ويستضيء !
والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون ، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي . فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب ، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه ، فيشقى ويتمزق ، ويحتار ويقلق . ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب - على الرغم من جميع الانتصارات العلمية ، وجميع التسهيلات الحضارية المادية !
إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير . خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها . . حقيقة الإيمان . . وخواء حياتها من المنهج الإلهي . هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه .
إنها تعاني من الهجير المحرف الذي تعيش فيه بعيدا عن ذلك الظل الوارف الندي . ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق !
ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب ؛ وتحس الخواء والجوع والحرمان ؛ وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات ؛ وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء ، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام ! وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير . . . لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها .
إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف . يطاردها فتهرب منه . ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير !
وما من أحد يزور البلاد الغنية الثرية في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون ! هاربون من أشباح تطاردهم . هاربون من ذوات أنفسهم . . وسرعان ما يتكشف الرخاء المادي والمتاع الحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل ، عن الأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والقلق والمرض والجنون والمسكرات والمخدرات والجريمة . وفراغ الحياة من كل تصور كريم !
إنهم لا يجدون أنفسهم لأنهم لا يجدون غاية وجودهم الحقيقية . . إنهم لا يجدون سعادتهم لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون ، وبين نظامهم وناموس الوجود . . إنهم لا يجدون طمأنينتهم لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون . .
يقول تعالى منكرًا على من أراد دينا سوى دين الله ، الذي أنزل به كتبَه وأرسل به رسلَه ، وهو عبادته وحده لا شريك له ، الذي { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : استسلم له من فيهما طوعا وكرها ، كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ الرعد : 15 ] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ . وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم لله كرها ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم ، الذي لا يخالف ولا يمانع . وقد ورد حديث في تفسير هذه الآية ، على معنى آخر فيه غرابة ، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :
حدثنا أحمد بن النضر العسكري ، حدثنا سعيد بن حفص النُّفَيْلي ، حدثنا محمد بن مِحْصَن العكاشي ، حدثنا الأوزاعي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } أمَّا مَنْ فِي السَّمَاواتِ فَالْمَلائِكَةُ ، وأمَّا مَنْ فِي الأرضِ فَمَنْ وُلِدَ عَلَى الإسْلامِ ، وأمَّا كَرْهًا فَمَنْ أُتِي بِهِ مِنْ سَبَايا الأمَمِ فِي السَّلاسِلِ والأغْلالِ ، يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ وَهُمْ كَارِهُونَ " {[5275]} .
وقد ورد في الصحيح : " عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلاسِل " {[5276]} وسيأتي له شاهد من وجه آخر ولكن المعنى الأول للآية أقوى .
وقد قال وَكِيع في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } قال : هو كقوله :
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ } [ لقمان : 25 ] .
وقال أيضا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } قال : حين أخذ الميثاق .
{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي : يوم المَعَاد ، فيجازي كلا بعمله .
{ أفغير دين الله يبغون } عطف على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار ، أو محذوف تقديره أتتولون فغير دين الله تبغون ، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار والفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو وعاصم في رواية حفص ويعقوب ، وبالتاء عند الباقين على تقدير وقل له . { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } أي طائعين بالنظر واتباع الحجة ، وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق ، والإشراف على الموت . أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لا يقدرون أن يمتنعوا عما قضى عليهم { وإليه يرجعون } وقرئ بالياء على أن الضمير لمن .
تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء .
وقرأه الجمهور { تبغون } بتاء الخطاب فهو خطاب لأهل الكتاب جارٍ على طريقة الخطاب في قوله آنفاً : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة } [ آل عمران : 80 ] وقرأه أبو عَمرو ، وحفص ، ويعقوب : بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إعراضاً عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب . وكله تفريع ذكر أحوال خلَف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به . والاستفهام حينئذ للتعجيب .
ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان ، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله .
ومعنى { تبغون } تطلبون يقال بَغى الأمرَ يبغيه بُغَاء بضم الباء وبالمد ، ويقصر والبُغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر ، وقيل اسم ، ويقال ابتغى بمعنى بغى ، وهو موضوع للطلب ويتعدّى إلى مفعول واحد . وقياس مصدره البغي ، لكنه لم يسمع البغي إلاّ في معنى الاعتداء والجور ، وذَلك فعلُه قاصر ، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء ، فأماتوا المصدر القياسي لبَغَى بمعنى طلب وخصّوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم : قال تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } [ الشورى : 42 ] ويقال تَبَغّى بمعنى ابتغى .
وجملة { وله أسلَم } » حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى : { فقل أسلمتُ وجهي للَّه } [ آل عمران : 20 ] .
ومعنى { طوعاً وكرهاً } أنّ من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له ، ومنهم من أسلم بالجبلّة والفطرة كالملائكة ، أو الإسلام كرهاً هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة ، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لاَ إكراه في الدين .
والكرهُ بفتح الكاف هو الإكراه ، والكُره بضم الكاف المكروه .
ومعنى { وإليه ترجعون } أنه يرجعكم إليه ففعل رجع المتعدّي أسند إلى المجهول . لظهور فاعله ، أي يرجعكم الله بعد الموت ، وعند القيامة ، ومناسبة ذكر هذا ، عقب التوبيخ والتحذير ، أنّ الربّ الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن دينٍ أمره به ، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختاراً قبل أن يسلمها اضطراراً .
وقد دل قوله : { وإليه ترجعون } على المراد من قوله : { وكرهاً } .
وقرأ الجمهور : وإليه تُرجعون بتاء الخطاب ، وقرأه حفص بياء الغيبة .