{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }
يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم ، المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها ، فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر .
وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا ، ويوافق بعضها بعضًا . فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا يمكن صدقها .
وفي قوله : { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم ، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم ، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } وهذا جزاء من جنس ما عملوا ، كما تركوا الحق ، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق ، فجعلوا الباطل حقا والحق باطلا ، جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق ، وردها على أدبارها ، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } بأن يطردهم من رحمته ، ويعاقبهم بجعلهم قردة ، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } كقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب - اليهود - دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم ؛ وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم . ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخاص ، الذي عليه دينهم ، والله لا يغفر أن يشرك به . . وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة ؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود :
( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . . وكان أمر الله مفعولا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيمًا ) . .
إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين ؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين :
( يا أيها الذين أوتوا الكتاب ، آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ) . .
فهم أوتوا الكتاب ، فليس غريبا عليهم هذا الهدى . والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم . فليس غريبا عليهم كذلك . وهو مصدق لما معهم . .
ولو كان الإيمان بالبينة . أو بالأسباب الظاهرة . لآمنت يهود أول من آمن . ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح . وكانت لها أحقاد وعناد . وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة . . كما تعبر عنهم التوراة بأنهم :
" شعب صلب الرقبة ! " . ومن ثم لم تؤمن . ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي :
( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . وكان أمر الله مفعولا ) . . وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها ؛ وردها على أدبارها ، دفعها لأن تمشي القهقرى . . وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي ؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم ؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت [ وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت ، وهو محرم عليهم في شريعتهم ] هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير . . كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم ، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم ، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب . والكفر بعد الإيمان ، والهدى بعد الضلال ، طمس للوجوه والبصائر ، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد .
وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك . فهو التهديد الرعيب العنيف ؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة ؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة !
وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد : كعب الأحبار فأسلم :
أخرج ابن أبى حاتم : حدثنا أبى . حدثنا ابن نفيل . حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن جليس ، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني ، قال : كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب . وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله [ ص ] قال : فبعثه إليه ينظر : أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة . فإذا تال يقرأ القرآن يقول : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . . . ) فبادرت الماء فاغتسلت ، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ! ثم أسلمت .
يقول تعالى - آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم{[7655]} الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهددا لهم أن{[7656]} يفعلوا ، بقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } قال بعضهم : معناه : من قبل أن نطمس وجوها . طمسها{[7657]} هو ردها إلى الأدبار ، وجعل أبصارهم من ورائهم . ويحتمل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقي لها سمع ولا بصر ولا أثر ، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار .
قال العوفي عن ابن عباس : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } وطمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين{[7658]} من قفاه .
وكذا قال قتادة ، وعطية العوفي . وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ]{[7659]} } [ يس 8 ، 9 ] إن هذا مثل [ سوء ]{[7660]} ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى .
قال مجاهد : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } يقول : عن صراط الحق ، فنردها{[7661]} على أدبارهم ، أي : في الضلالة .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، والحسن نحو هذا .
قال السدي : { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة .
وقال ابن{[7662]} زيد{[7663]} نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز .
وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية ، قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم ، قال : ألستم تقرؤون في كتابكم{[7664]} { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ ]{[7665]} أَسْفَارًا } وأنا قد حملت التوراة . قال : فتركه عمر . ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلا من أهلها حزينا ، وهو يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } الآية . قال{[7666]} كعب : يا رب آمنت ، يا رب ، أسلمت ، مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين{[7667]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس{[7668]} عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثه إليه ينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس ، ثم أسلمت{[7669]} .
وقوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } يعني : الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد ، وقد مسخوا قردة وخنازير ، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف .
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : إذا أمر بأمر ، فإنه لا يخالف ولا يمانع .
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها ، يعني الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا ، أو في الآخرة . وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير ، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوها فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار ، أو نردها إلى حيث جاءت منه ، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير ، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء ، أو من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة . { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت ، أو نمسخهم مسخا مثل مسخهم ، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود . والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الالتفات ، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء ، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم وقد آمن منهم طائفة . { وكان أمر الله } بإيقاع شيء أو وعيده ، أو ما حكم به وقضاه . { مفعولا } نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا .
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل ، وتبصّرها في الحق ، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة ( 11 ) إذ قال : « فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت ، وفَاتَ قولُ لَيْت ، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة ، متَأبِّطاً لِهِرَاوة ، فقال : لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون » الخ ، لذلك جيء بقوله : { يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقاً لما معكم } الآية عقب ما تقدّم .
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } [ آل عمران : 23 ] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شُرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيباً منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يُؤتَوْه .
وجيء بالصلتين في قوله : { بما نزلنا } وقوله : « بما معكم » دون الإسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : { بما نزلنا } من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله : { لما معكم } من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه ، على حدّ قوله : { كمثَل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] .
وقوله : { من قبل أن نطمس وجوهاً } تهديد أو وعيد ، ومعنى : { من قبل أن نطمس } أي آمنِوا في زمن يبتدىء من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيَّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازاً على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ .
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به ، وفي الحديث " أمَا يخشَى الذي يرفع رأسه قبلَ الإمام أن يَجعل الله وجهه وجه حمار " . وأصْل الطمس إزالة الآثار الماثلة . قال كعب :
عُرْضَتُها طَامِسُ الأعلام مَجْهُولُ
وقد يطلق الطمس مجازاً على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه .
ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها .
وقوله : { فنردّها على أدبارها } عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب ؛ أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمسُ والردّ على الأدبار ، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء ، وإن كان الطمس هنا مجازاً وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجرُ أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيّد جهته في عصر الهجرة .
والردّ على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازاً بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا ، أي إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام .
والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبّب معاً ، والكلام وعيد ، والوعيدُ حاصل ، فقد رماهم الله بالذلّ ، ثم أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات .
وقوله : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مراداً به المسخ فاللعن مراد به الذلّ ، وإن كان الطمس مراداً به الذلّ فاللعن مراد به المسخ .
و { أصحاب السبت } هم الذين في قوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقد تقدّم في سورة البقرة .