تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

{ 89 } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ }{[277]}

أي : في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو ، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد ، أو عقدها يظن صدق نفسه ، فبان بخلاف ذلك . { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أي : بما عزمتم عليه ، وعقدت عليه قلوبكم . كما قال في الآية الأخرى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } { فَكَفَّارَتُهُ } أي : كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ }

وذلك الإطعام { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } أي : كسوة عشرة مساكين ، والكسوة هي التي تجزئ في الصلاة . { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع ، فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة فقد انحلت يمينه .

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } واحدا من هذه الثلاثة { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ } المذكور { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } تكفرها وتمحوها وتمنع من الإثم .

{ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } عن الحلف بالله كاذبا ، وعن كثرة الأيمان ، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ، إلا إذا كان الحنث خيرا ، فتمام الحفظ : أن يفعل الخير ، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير .

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } المبينة للحلال من الحرام ، الموضحة للأحكام . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } اللهَ حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون . فعلى العباد شكر الله تعالى على ما منَّ به عليهم ، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها .


[277]:- في ب كتب الآية كاملة
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق :

( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم . واحفظوا أيمانكم . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .

فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة - وأمثالها - من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه ، فردهم رسول الله [ ص ] عن الامتناع عنه ، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم ، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به . كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر . فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبر ، فعليه أن يفعل ما هو أبر ، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية .

قال ابن عباس : سبب نزولها : القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم . حلفوا على ذلك . فلما نزلت ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قالوا : كيف نصنع بأيماننا ( فنزلت هذه الآية ) .

وقد تضمن الحكم أن الله - سبحانه - لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغوا . .

فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :

( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) .

وطعام المساكين العشرة من( أوسط )الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله . . و( أوسط )تحتمل أن تكون من " أحسن " أو من " متوسط " فكلاهما من معاني اللفظ . وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن " المتوسط " هو " الأحسن " فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام . . أو( كسوتهم )الأقرب أن تكون كذلك من ( أوسط ) الكسوة . . أو ( تحرير رقبة ) لا ينص هنا على أنها مؤمنة . . ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه . . ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . . وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى . . وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها . والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال . فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه . إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للإيمان من الإستهانة بها ؛ وهي " عقود " وقد أمر الله - سبحانه - بالوفاء بالعقود . فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبر فعل الأبر وكفر عن اليمين . وإذا عقدها على غير ما هومن حقه كالتحريم والتحليل ، نقضها وعليه التكفير .

ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه . . فأما من ناحية " خصوص السبب " فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب ، وما حرمه فهو الخبيث . وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له . من وجهين : الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق ، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله ، ولايستقيم معه إيمان . . والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات ، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات ، التي بها صلاحه وصلاح الحياة ؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات . ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده . ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا . . ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح ، والتوازن المطلق ، والتناسق الكامل ، بين طاقات الحياة البشرية جميعا ، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية ؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان ، تعمل عملا سويا ، ولا تخرج عن الجادة . ومن ثم حارب الرهبانية ، لأنها كبت للفطرة ، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء ، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها . . لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد ، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله . والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة . لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع . والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة ، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله .

وخصوص السبب - بعد هذا - لا يقيد عموم النص . وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع - كما أسلفنا - وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة . .

ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده ؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة - كما هو شأنه وحقيقته - قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين . ولقد جعلت كلمة " الحلال " وكلمة " الحرام " يتقلص ظلهما في حس الناس ، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح ، أو طعاما يؤكل ، أو شرابا يشرب ، أو لباسا يلبس ، أو نكاحا يعقد . . فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا : حلال هي أم حرام ! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات

والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله ! فالنظام الاجتماعي بجملته ، والنظام السياسي بجملته ، والنظام الدولي بجملته ؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس ، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام !

والإسلام منهج للحياة كلها . من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله . ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله ، وخرج من دين الله . مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم . فاتباعه شريعة غير شريعة الله ، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله .

وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية ، وتجعلها قضية الإيمان بالله ، أو الاعتداء على الله . . وهذا هو مدى النصوص القرآنية . وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن ، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

قد تقدم في سورة البقرة الكلام على لغو اليمين ، وإنه قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله ، بلى والله ، وهذا مذهب الشافعي{[10255]} وقيل : هو في الهَزْل . وقيل : في المعصية . وقيل : على غلبة الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد . وقيل : اليمين في الغضب . وقيل : في النسيان . وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك ، واستدلوا بقوله : { لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ }

والصحيح أنه اليمين من غير قصد ؛ بدليل قوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } أي : بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموها ، فكفارته إطعام عشرة مساكين يعني : محاويج من الفقراء ، ومن لا يجد ما يكفيه .

وقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم .

وقال عطاء الخراساني : من أمثل ما تطعمون أهليكم . قال{[10256]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي قال : خبز ولبن ، خبز{[10257]} وسمن .

وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، حدثنا سفيان بن عييْنَة ، عن سليمان - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون وبعضهم قوتًا فيه سعَة ، فقال الله تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : من الخبز والزيت .

وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : من عسرهم ويسرهم .

وحدثنا عبد الرحمن بن خَلَف الحِمْصِي ، حدثنا محمد بن شُعَيب - يعني ابن شابور - حدثنا شَيْبان بن عبد الرحمن التميمي ، عن لَيْث بن أبي سليم ، عن عاصم الأحول ، عن رجل يقال له : عبد الرحمن ، عن ابن عمر أنه قال : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والخل .

وحدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر في قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : الخبز والسمن ، والخبز والزيت ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم : الخبز واللحم .

ورواه ابن جرير عن هَنَّاد وابن وَكِيع كلاهما عن أبي معاوية . ثم روى{[10258]} ابن جرير عن عُبَيدة والأسود ، وشُرَيح القاضي ، ومحمد بن سِيرِين ، والحسن ، والضحاك ، وأبي رَزِين : أنهم قالوا نحو ذلك ، وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضًا .

واختار ابن جرير أن المراد بقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : في القلة والكثرة .

ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم ، فقال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن حُصَيْن الحارثي ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي [ رضي الله عنه ]{[10259]} في قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : يغذيهم ويعشيهم .

وقال الحسن ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزًا ولحمًا ، زاد الحسن : فإن لم يجد{[10260]} فخبزًا وسمنًا ولبنًا ، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخلا حتى يشبعوا .

وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بُرّ أو تمر ، ونحوهما . هذا قول عمر ، وعلي ، وعائشة ، ومجاهد ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعي ، وميمون بن مِهْران ، وأبي مالك ، والضحاك ، والحاكم{[10261]} ومكحول ، وأبي قلابة ، ومُقَاتِل بن حَيَّان .

وقال أبو حنيفة : نصف صاع [ من ]{[10262]} بر ، وصاع مما عداه .

وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي ، حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا زياد بن عبد الله بن الطُّفَيل بن سَخْبَرَة بن أخي عائشة لأمه ، حدثنا عمر بن يعلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كفَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر ، وأمر الناس به ، ومن لم يجد فنصف صاع من بُرٍّ .

ورواه ابن ماجه ، عن العباس بن يزيد ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عُمر{[10263]} بن عبد الله بن يعلى الثقفي ، عن المنهال بن عمرو ، به . {[10264]}

لا يصح هذا الحديث لحال عُمر بن عبد الله هذا فإنه مجمع على ضعفه ، وذكروا أنه كان يشرب الخمر . وقال الدارقطني : متروك .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن{[10265]} داود - يعني ابن أبي هند - عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : مُدٌّ{[10266]} من بر - يعني لكل مسكين - ومعه إدامه .

ثم قال : ورُوِي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وأبي الشعثاء ، والقاسم{[10267]} وسالم ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، ومحمد بن سيرين ، والزهري ، نحو ذلك .

وقال الشافعي : الواجب في كفارة اليمين مُدٌّ بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين . ولم يتعرض للأدم - واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينًا من مكيل يسع خمسة عشر صاعًا لكل واحد منهم مُدٌّ .

وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري ، حدثنا محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا النضْر بن زُرَارة الكوفي ، عن عبد الله بن عُمَر{[10268]} العُمَري ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدًا من حنطة بالمد الأول .

إسناده ضعيف ، لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بَلْخ ، قال فيه أبو حاتم الرازي : هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة ، فالله أعلم . ثم إن شيخه العُمَري ضعيف أيضًا .

وقال أحمد بن حنبل : الواجب مُدّ من بر ، أو مدان من غيره . والله أعلم .

وقوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال الشافعي ، رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقْنَعَة أجزأه ذلك . واختلف أصحابه في القلنسوة : هل تجزئ أم لا ؟ على وجهين ، فمنهم من ذهب إلى الجواز ، احتجاجًا بما رواه ابن أبي حاتم :

حدثنا أبو سعيد الأشج ، وعمار بن خالد الواسطي قالا حدثنا القاسم بن مالك ، عن محمد بن الزبير ، عن أبيه قال : سألت عمران بن حصين عن قوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : لو أن وفدًا قدموا على أميركم وكساهم{[10269]} قلنسوة قلنسوة ، قلتم : قد كُسُوا .

ولكن هذا إسناد ضعيف ؛ لحال محمد بن الزبير هذا ، والله أعلم . وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الاسفرايني{[10270]} في الخف وجهين أيضًا ، والصحيح عدم الإجزاء .

وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه ، إن كان رجلا أو امرأة ، كلٌّ بحسبه . والله أعلم .

وقال العَوْفي عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين ، أو ثَمْلَة .

وقال مجاهد : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت .

وقال لَيْث ، عن مجاهد : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان .

وقال الحسن ، وأبو جعفر الباقر ، وعطاء ، وطاوس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وحماد بن أبى سليمان ، وأبو مالك : ثوب ثوب .

وعن إبراهيم النخعي أيضًا : ثوب جامع كالملحفة والرداء ، ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعًا .

وقال الأنصاري ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، والحسن : ثوبان . {[10271]}

وقال الثوري ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها .

وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى ؛ أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من مُعقَّدة البحرين .

وقال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن المعلى ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن مقاتل بن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن أبي عياض ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : " عباءة لكل مسكين " . {[10272]} حديث غريب .

وقوله : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أخذ أبو حنيفة بإطلاقها ، فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال الشافعي وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة . وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل ؛ لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب ولحديث معاوية بن الحكم السلمي ، الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم : أنه ذكر أن عليه عتق رقبة ، وجاء معه بجارية سوداء ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا ؟ " قالت : رسول الله . قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " . الحديث بطوله . {[10273]}

فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين ، أيُّها فَعَلَ الحانثُ أجزأ عنه بالإجماع . وقد بدأ بالأسهل فالأسهل ، فالإطعام أيسر من الكسوة ، كما أن الكسوة أيسر من العتق ، فَرُقىَ فيها من الأدنى إلى الأعلى . فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام ، كما قال تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ }

وروى ابن جرير ، عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام .

وقال ابن جرير ، حاكيًا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه قال : جائز لمن لم يكن له فضل عن رأس مال يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام ، أن يصوم إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه .

ثم اختار ابن جرير : أنه الذي لا يفضل عن قوته{[10274]} وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين . {[10275]}

واختلف العلماء : هل يجب فيها التتابع ، أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق ؟ على قولين : أحدهما أنه لا يجب التتابع ، هذا منصوص الشافعي في كتاب " الأيمان " ، وهو قول مالك ، لإطلاق قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } وهو صادق على المجموعة والمفرقة ، كما في قضاء رمضان ؛ لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] .

ونص الشافعي في موضع آخر في " الأم " على وجوب التتابع ، كما هو قول الحنفية والحنابلة ؛ لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيرهم أنهم كانوا يقرءونها : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .

قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .

وحكاها مجاهد ، والشعبي ، وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود .

وقال إبراهيم : في قراءة عبد الله بن مسعود : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .

وقال الأعمش : كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك .

وهذه{[10276]} إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترًا ، فلا أقل أن يكون خبرا واحدا ، أو تفسيرًا من الصحابي ، وهو في حكم المرفوع .

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا محمد بن جعفر{[10277]} الأشعري ، حدثنا الهيثم بن خالد القرشي ، حدثنا يزيد بن قيس ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله ، نحن بالخيار ؟ قال : " أنت بالخيار ، إن شئت أعتقت ، وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .

وهذا حديث غريب جدًا . {[10278]}

وقوله : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } قال ابن جرير : معناه لا تتركوها بغير تكفير . { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي : يوضحها وينشرها{[10279]} { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }


[10255]:في ر: "وهذا مذهب يأتي".
[10256]:في أ: "وقال".
[10257]:في ر: "وخبز".
[10258]:في أ: "وروى".
[10259]:زيادة من أ.
[10260]:في ر: "فإن لم تجد".
[10261]:في ر: "والحكم".
[10262]:زيادة من أ.
[10263]:في ر: "عمرو".
[10264]:سنن ابن ماجة برقم (2112).
[10265]:في ر: "هو".
[10266]:في ر: "مدًا".
[10267]:في ر: "وأبي القاسم".
[10268]:في ر: "عمرو".
[10269]:في أ: "فكساهم".
[10270]:في ر: "الاسفراييني".
[10271]:في ر، أ: "ثوبان ثوبان".
[10272]:وفي إسناده مقاتل بن سليمان البلخي، كذبه وكيع والنسائي. وقال البخاري: سكتوا عنه. وإسماعيل بن عياش روايته عن غير أهل الشام ضعيفة.
[10273]:الموطأ (2/777) ومسند الشافعي برقم (1196) "بدائع المنن" وصحيح مسلم برقم (537).
[10274]:في أ: "مؤنته".
[10275]:تفسير الطبري (10/559).
[10276]:في أ: "وهذا".
[10277]:في أ: "أحمد".
[10278]:وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/155) ولم يعزه لغير ابن مردويه. ويزيد بن قيس أظن أنه "يزيد بن قيس" وأنه تصحف هنا، وإسماعيل بن يحيى هو ابن عبيد الله كان يضع الحديث قال ابن عدي: عامة ما يرويه بواطيل، ثم الإسناد معضل، فإن بينه وبين ابن عباس قرن من الزمان تقريبًا.
[10279]:في ر، أ: "ويفسرها".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الرجل : لا والله وبلى والله ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن ، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه . { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية ، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم { عقدتم } بالتخفيف ، وابن عامر برواية ابن ذكوان " عاقدتم " وهو من فاعل بمعنى فعل . { فكفارته } فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب اثمه وتستره ، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافا للحنفية لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " . { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } من أقصده في النوع أو القدر ، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية ، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره : أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون ، أو الرفع على البدل من إطعام ، وأهلون كأرضون . وقرئ " أهاليكم " بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف ، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض . وقيل هو جمع اهلاة . { أو كسوتهم } عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلا وهو ثوب يغطي العورة . وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار . وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط ، والكاف في محل الرفع وتقديره : أو إطعامهم كأسوتهم . { أو تحرير رقبة } أو إعتاق إنسان ، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأيمان قياسا على كفارة القتل ، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكفر في التعيين { فمن لم يجد } أي واحدا منها . { فصيام ثلاثة أيام } فكفارته صيام ثلاثة أيام ، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ " ثلاثة أيام متتابعات " ، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتابا ولم ترو سنة . { ذلك } أي المذكور . { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم . { واحفظوا أيمانكم } بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر ، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير ، أو بأن تكفروها إذا حنثتم . { كذلك } أي مثل ذلك البيان . { يبين الله لكم آياته } أعلام شرائعه . { لعلكم تشكرون } نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (89)

استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله : { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيْمان معزومة ، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام ، كأنْ يقول : والله لا آكل كذا ، أو تجري بسبب غضب . وقيل : إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله . روى الطبري والواحدي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عمّا عزموا عليه من ذلك ، كما تقدّم آنفاً ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها ، فأنزل الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الآية . فشرع الله الكفّارة . وتقدّم القول في نَظير صدر هذه الآية في سورة البقرة . وتقدّم الاختلاف في معنى لغو اليمين . وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية { يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] ، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين . فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أنّ حادثة أولئك الذين حرّموا على أنفسهم بعض الطيّبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلّل من أيمانهم .

وقوله : { بما عَقَّدْتُمْ الأيمان } ، أي ما قصدتم به الحَلف . وهو يُبيّن مجمل قوله في سورة البقرة ( 225 ) { بما كَسَبَتْ قلوبُكم }

وقَرَأ الجمهورُ { عقَّدتم } بتشديد القاف . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بتخفيف القاف . وقرأه ابن ذكوان عن ابنِ عامر { عَاقدتم } بألف بعد العين من باب المفاعلة . فأمّا { عقّدتم } بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عَقَد ، وكذلك قراءة { عاقدتم } لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها ، فالمقصود منها المبالغة ، مثل عافَاه الله . وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت . والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين ، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب : عقَد المخفّف ، وعقَّد المشدّد ، وعَاقَد .

وقوله : { ذلك كفّارة أيمانكم } إشارة إلى المذكور ، زيادة في الإيضاح . والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال . وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر . وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة ، كتاء نسَّابة وعلاّمة . والعرب يجمعون بينهما غالباً .

وقوله : { إذا حلفتم } أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم ، وذلك هو إثم الحِنث .

وعن الشافعي أنّه استدلّ بقوله : { كفّارة أيمانكم إذا حلفتم } على جواز تقديم الكفّارة على وقوع الحنث ، فيحتمل أنّه أخذ بظاهر إضافة { كفّارة } إلى { أيمانكم } ، ويحتمل أنّه أراد أنّ الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفّر قبل الحنث لأنّه من تقديم العوض ، ولا بأس به .

ولا أحسب أنّه يعني غير ذلك . وليس مراده أنّ مجرّد الحلف هو موجب الكفّارة . وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحّة تقديم الكفّارة . وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث . ولم يستدلّ بالآية . فاستدلّ بها الشافعي تأييداً للسنّة . والتكفيرُ بعد الحنث أولى .

وعقّب الترخيص الذي رخّصه الله للنّاس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال { واحفظوا أيمانكم } . فأمر بتوخّي البرّ إذا لم يكن فيه حرج ولا ضُرّ بالغير ، لأنّ في البرّ تعظيم اسم الله تعالى . فقد ذكرنا في سورة البقرة أنّهم جرى معتادهم بأنّ يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر ، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلاّ يندموا عن عزمهم ، فكان في قوله { واحفظوا أيمانكم } زجر لهم عن تلك العادة السخيفة . وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلاّ يعرّض الحالف نفسه للحنث . والكفّارة ما هي إلاّ خروج من الإثم . وقد قال تعالى لأيّوب عليه السلام : { وخُذ بيدك ضِغثاً فاضرب به ولا تحنَث } [ ص : 44 ] . فنزّهه عن الحنث بفتوى خصّه بها .

وجملة { كذلك يبيّن الله لكم آياته } تذييل . ومعنى { كذلك } كهذا البيان يبيّن الله ، فتلك عادة شرعه أن يكون بيّناً ، وقد تقدّم القول في نظيره في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .

وتقدّم القول في معنى { لعلّكم تشكرون } عند قوله تعالى : { يأيّها الناس اعبدوا ربّكم } في سورة البقرة ( 21 ) .