{ 17 } { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }
شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح ، بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح ، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد ، بما في المطر من النفع العام الضروري ، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول ، فواد كبير يسع ماء كثيرا ، كقلب كبير يسع علما كثيرا ، وواد صغير يأخذ ماء قليلا ، كقلب صغير ، يسع علما قليلا ، وهكذا .
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها ، بالزبد الذي يعلو الماء ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة .
كذلك الشبهات والشهوات لا يزال القلب يكرهها ، ويجاهدها بالبراهين الصادقة ، والإرادات الجازمة ، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره ، والرغبة فيه ، فالباطل يذهب ويمحقه الحق { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } وقال هنا : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال .
ثم نمضي مع السياق . يضرب مثلا للحق والباطل . للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح . للخير الهاديء والشر المتنفج . والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار . ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء . وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق .
( أنزل من السماء ماء ، فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل السيل زبدا رابيا : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله . كذلك يضرب ا لله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال ) . .
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ؛ ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام ، الذي تجري في وجوه قضايا السورة وموضوعاتها . وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار . . وأن تسيل هذه الأودية بقدرها ، كل بحسبه ، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء . . وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة . . وليس هذا أو ذاك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه .
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية ، وهو يلم في طريقه غثاء ، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . . ولكنه بعد غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هاديء . . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . . كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة ، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص ، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث ، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه . والحق يظل هادئا ساكنا . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ، ينفع الناس . ( كذلك يضرب الله الأمثال ) وكذلك يقرر مصائر الدعوات ، ومصائر الاعتقادات . ومصائر الأعمال والأقوال . وهو الله الواحد القهار ، المدبر للكون والحياة ، العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل .
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في اضمحلاله وفنائه ، فقال تعالى : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي : مطرا ، { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي : أخذ كل واد بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء ، وهذا صغير فوسع بقدره ، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها ، فمنها ما يسع علما كثيرا ، ومنها ما لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها ، { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } أي : فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زَبَدٌ عال عليه ، هذا مثل ، وقوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } هذا هو المثل الثاني ، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ } أي : ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدًا ، فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه ، كما يعلو ذلك{[15545]} زبد منه . { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } أي : إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له ، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار ، بل يذهب ويضمحل ؛ ولهذا قال : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } أي : لا ينتفع به ، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح . وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ، لا يرجع{[15546]} منه شيء ، ولا يبقى إلا الماء{[15547]} وذلك الذهب ونحوه ينتفع به ؛ ولهذا قال : { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ } كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] .
قال بعض السلف : كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله تعالى : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }
هذا مثل ضربه الله ، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله . وهو قوله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } [ وهو الشك ]{[15548]} { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ } وهو اليقين ، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار ؛ فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك .
وقال العوفي عن ابن عباس قوله : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودِمْنَة{[15549]} { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت . فجعل ذاك{[15550]} مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له ، ويبقى كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض . وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبَثَه ، ويخرج جيده فينتفع به . كذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة ، وأقيم الناس ، وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق .
وكذلك رُوي في تفسيرها عن مجاهد ، والحسن البصري ، وعطاء ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقد ضرب الله ، سبحانه وتعالى ، في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا ، وهما قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } الآية [ البقرة : 17 ] ، ثم قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } الآية [ البقرة : 19 ] . وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين ، أحدهما : قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } [ النور : 39 ] الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ؛ ولهذا جاء في الصحيحين : " فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون ؟ فيقولون : أيْ رَبَّنا ، عطشنا فاسقنا . فيقال : ألا تردون ؟ فيردون النار فإذا هي كالسراب يَحْطِم بعضها بعضا " .
ثم قال في المثل الآخر : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } الآية [ النور : 40 ] . وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت{[15551]} الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت طائفة منها [ أخرى ]{[15552]} إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من
فَقه في دين الله ونَفَعه الله بما بعثني{[15553]} ونفع به ، فَعَلِم وَعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به " . {[15554]} فهذا مثل مائي ، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مثلي ومثلكم ، كمثل رجل استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله{[15555]} جعل الفراش وهذه{[15556]} الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجُزُهُنَّ ويغلبنه فيقتحمن فيها " . قال : " فذلكم مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحُجزكم عن النار ، هَلُمّ عن النار [ هَلُمّ عن النار ، هَلُمّ ]{[15557]} فتغلبوني فتقتحمون فيها " . وأخرجاه في الصحيحين أيضا{[15558]} فهذا مثل ناري .
{ أنزل من السماء ماء } من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها . { فسالت أودية } أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه ، واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع . { بقدرها } بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر والكبر . { فاحتمل السيل زبداً } رفعه والزبد وضر الغليان . { رابيا } عاليا . { ومما يوقدون عليه في النار } يعم الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهارا لكبريائه . { ابتغاء حليةٍ } أي طلب حلى . { أو متاعٍ } كالأواني وآلات الحرب والحرث ، والمقصود من ذلك بيان منافعها . { زبدٌ مثله } أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه ، و{ من } للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعمل به . { كذلك يضرب الله الحق والباطل } مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار ، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلى واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة ، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين ذلك بقوله : { فأما الزّبد فيذهب جُفاءً } يجفأ به أي يرمي به السيل والفلز المذاب وانتصابه على الحال وقرئ جفالا والمعنى واحد . { وأما ما ينفع الناس } كالماء وخلاصة الفلز . { فيمكث في الأرض } ينتفع به أهلها . { كذلك يضرب الله الأمثال } لإيضاح المشتبهات .
صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به .
وقوله : { أنزل من السماء ماء } يريد به المطر ، و «الأودية » ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق ، وقوله : { بقدرها } يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء ، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحتمله على قدر صغرها وكبرها .
وقرأ جمهور الناس : «بقدَرها » بفتح الدال ، وقرأ الأشهب العقيلي : «بقدْرها » بسكون الدال .
و «الزبد » ما يحمله السيل من غثاء ونحوه وما يرمي به ضفتيه من الجباب الملتبك{[6951]} به ، ومنه قول حسان بن ثابت :
ما البحر حينَ تهبُّ الريحُ شاميةً . . . فيغطئلُّ ويرمي العبر بالزبد{[6952]}
و «الرابي » : المنتفخ الذي قد ربا ، ومنه الربوة .
وقوله : { ومما } خبر ابتداء ، والابتداء قوله : { زبد } ، و { مثله } نعت ل { زبد } .
والمعنى : ومن الأشياء التي { توقدون } عليها ابتغاء الحلي وهي الذهب والفضة ، ابتغاء الاستمتاع بما في المرافق ، وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي { توقدون } عليها ، فأخبر تعالى أن من هذه إذا أحمي عليها يكون { زبد } مماثل للزبد الذي حمله السيل ، ثم ضرب تعالى ذلك مثالاً ل { الحق والباطل } أي أن الماء الذي تشربه الأرض من السيل فيقع النفع به هو «كالحق » - و { الزبد } الذي يجمد وينفش{[6953]} ويذهب هو كالباطل ، وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوها هو كالحق ، وما يذهب في الدخان هو كالباطل .
وقوله : { في النار } متعلق بمحذوف تقديره : كائناً أو ثابتاً - كذا قال مكي وغيره - ومنعوا أن يتعلق بقوله : { توقدون } لأنهم زعموا : ليس يوقد على شيء إلا وهو { في النار } وتعليق حرف الجر ب { توقدون } يتضمن تخصيص حال من حال أخرى{[6954]} . وذهب أبو علي الفارسي إلى تعلقها ب { توقدون } وقال : قد يوقد على شيء وليس في النار كقوله تعالى : { فأوقد لي يا هامان على الطين }{[6955]} [ القصص : 38 ] فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه وليس في النار لكن يصيبه لهبها .
وقوله : { جفاء } مصدر من قولهم : أجفأت القدر إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب .
وقرأ رؤبة : «جفالاً » من قولهم : جفلت الريح السحاب ، إذا حملته وفرقته . قال أبو حاتم : لا تعتبر قراءة الأعراب{[6956]} في القرآن .
وقوله : { ما ينفع الناس } يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم - في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحسن : «توقدون » بالتاء ، أي أنتم أيها الموقدون ، وهي صفة لجميع أنواع الناس ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن محيصن ومجاهد وطلحة ويحيى وأهل الكوفة : «يوقدون » بالياء ، على الإشارة إلى الناس ، و { جفاء } مصدر في موضع الحال .
قال القاضي أبو محمد : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء } يريد به الشرع والدين . وقوله : { فسالت أودية } : يريد به القلوب ، أي أخذ النبيل بحظه . والبليد بحظه{[6957]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يصح - والله أعلم - عن ابن عباس ، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق ، ولا وجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب لغير علة تدعو إلى ذلك ، والله الموفق للصواب برحمته ، وإن صح هذا القول عن ابن عباس فإنما قصد أن قوله تعالى : { كذلك يضرب الله الحق والباطل } معناه : { الحق } الذي يتقرر في القلوب المهدية ، { والباطل } : الذي يعتريها{[6958]} أيضاً من وساوس وشبه حين تنظر في كتاب الله عز وجل .
جملة { أنزل من السماء ماء } استئناف ابتدائي أفاد تسجيل حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء التي من شأنها أن تهدي من لم يطبع الله على قلبه فاهتدى بها المؤمنون .
وجيء في هذا التسجيل بطريقة ضرب المثل بحالي فريقين في تلقي شيء واحد انتفع فريق بما فيه من منافع وتعلق فريق بما فيه من مضار . وجيء في ذلك التمثيل بحالة فيها دلالة على بديع تصرف الله تعالى ليحصل التخلص من ذكر دلائل القدرة إلى ذكر عبَر الموعظة ، فالمركب مستعمل في التشبيه التمثيلي بقرينة قوله : { كذلك يضرب الله الحق } الخ .
شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء . وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يَمرّ على التّلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كُلّ بقدر سعته . وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زَبَداً ، وهو رغوة الماء التي تربو وتطفو على سطح الماء ، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي .
ثم شُبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم ، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون ، ويخالط قلوبَ قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحاداً . كقولهم : { هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كلّ ممزّق إنكم لفي خلق جديد } . ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [ سورة آل عمران : 7 ] .
شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحدَارِه على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها ، ثم ما يدفع من نفسه زبداً لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع .
ولما كان المقصود التشبيه بالهيئة كلها جيء في حكاية ما ترتب على إنزال الماء بالعطف بفاء التفريع في قوله : { فسالت } وقوله : { فاحتمل } فهذا تمثيل صالح لتجزئة التشبيهات التي تركب منها وهو أبلغ التمثيل .
وعلى نحو هذا التمثيل وتفسيره جاء ما يبينه من التمثيل الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " مثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة قبلتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناسَ فشربوا وسقَوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعَان لا تمسك ماء ولا نتنبت كلأ ، مثلَ منْ فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به " .
والأودية : جمع الوادي ، وهو الحفير المتسع الممتد من الأرض الذي يجري فيه السيل . وتقدم في سورة براءة عند قوله تعالى : { ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم } [ سورة التوبة : 121 ] .
والقَدَر بفتحتين : التقدير ، فقوله : { بقدرها } في موضع الحال من { أودية } ، وذكره لأنه من مواضع العبرة ، وهو أن كانت أخاديد الأودية على قَدْر ما تحتمله من السيول بحيث لا تفيض عليها وهو غالب أحوال الأودية . وهذا الحال مقصود في التمثيل لأنه حال انصراف الماء لنفععٍ لا ضرّ معه ، لأنّ من السيول جواحف تجرف الزرع والبيوت والأنعام .
وأيضاً هو دال على تفاوت الأودية في مقادير المياه . ولذلك حظ من التشبيه وهو اختلاف الناس في قابلية الانتفاع بما نزل من عند الله كاختلاف الأودية في قبول الماء على حسب ما يسيل إليها من مصاب السيول ، وقد تم التمثيل هنا .
وجملة { ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله } معترضة بين جملة { فاحتمل } الخ وجملة { فأما الزبد } الخ .
وهذا تمثيل آخر ورد استطراداً عقب ذكر نظيره يفيد تقريب التمثيل لقوم لم يشاهدوا سيول الأودية من سكان القرى مثل أهل مكّة وهم المقصود ، فقد كان لهم في مكة صواغون كما دل عليه حديث الإذخر ، فقرب إليهم تمثيل عدم انتفاعهم بما انتفع به غيرهم بمَثَل ما يصهْر من الذهب والفضة في البواتق فإنه يقذف زبداً ينتفي عنه وهو الخَبث وهو غير صالح لشيء في حين صلاح معدنه لاتخاذه حلية أو متاعاً . وفي الحديث « كما ينفي الكير خبث الحديد » . فالكلام من قبيل تعدّد التشبيه القريب ، كقوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ثم قوله : { أو كصيب من السماء } [ سورة البقرة : 19 ] .
فتنازعَا سَبطا يَطير ظِلالُه *** كدُخان مُشْعَلَة يَشِبّ ضرامها
مشمُولَةٍ غُلثت بنابتِ عَرفَج *** كدُخان نار سَاطع إسنامها
وأفاد ذلك في هذه الآية قوله : { زبد مثله } .
وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنّه موضع اعتبار أيضاً ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرقّ الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة ، فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه .
وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جهنم « فإذا فيها كلاليبُ مثل حَسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان » .
وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى : { ومما توقدون عليه في النار } لأنها أخصر وأجمع ، ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة ، فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلاً لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المَعْدنين مع ذكر الصلة إذ لا مَحيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد ، فكان الإتيان بالموصول قضاءً لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع .
ولأنّ في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضاً يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعاً عن وَلع النّاس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف النّاس .
و { من } في قوله : { ومما توقدون } ابتدائية .
و { ابتغاء حلية أو متاع } مفعول لأجله متعلق ب { توقدون } . ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس . لشدة رغبتهم فيهما .
والحلية : ما يتحلى به ، أي يتزين وهو المصوغ .
والمتاع : ما يتمتع به وينتفع ، وذلك المسكوك الذي يَتعامل به الناس من الذهب والفضة .
وقرأ الجمهور { توقدون } بفوقية في أوله على الخطاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بتحتية على الغيبة .
وجملة { كذلك يضرب الله الحق والباطل } معترضة ، هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه ، أي مثل هذه الحالة يكون ضَرْب مثل للحق والباطل . فمعنى { يضرب } يبيّن ويُمثل . وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً } في سورة البقرة ( 26 ) .
فحُذف مضاف في قوله : { يضرب الله الحق } ، والتقدير : يضرب الله مَثَلَ الحق والباطل ، دلالة فعل { يضرب } على تقدير هذا المضاف .
وحذف الجار من { الحق } لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف .
وقد علم أن الزبد مثَل للباطل وأن الماء مثَل للحق ، فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم ، وأن الفريق الثاني زائل بائد ، كقوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين } [ الأنبياء : 105 ، 106 ] ، فصار التشبيه تعريضاً وكناية عن البشارة والنذارة ، كما دل عليه قوله عقب ذلك { للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له } [ الرعد : 18 ] الخ كما سيأتي قريباً .
فجملة { فأما الزبد } معطوفة على جملة { فاحتمل السيل زبداً رابيا } مفرّعةٌ على التمثيل . وافتتحت ب { أما } للتوكيد وصَرْف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة ، ولأنه تمام التمثيل . والتقدير : فذهب الزبد جُفاء ومكُث ما ينفع الناس في الأرض .
والجُفاء : الطريح المرميُّ ، وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون .
وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضاً للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا ما ينفع الناس ، وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى : { إن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ سورة الأنبياء : 105 ] .
واكتفي بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شَبَه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه .
وجملة { كذلك يضرب الله الأمثال } مستأنفة تذييلية لما في لفظ { الأمثال } من العموم . فهو أعم من جملة { كذلك يضرب الله الحق والباطل } لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو { فأما الزبد فيذهب جفاء } جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال . وحصل أيضاً توكيد جملة { كذلك يضرب الله الحق والباطل } لأن العام يندرج فيه الخاص .
فإشارة { كذلك } إلى التمثيل السابق في جملة { أنزل من السماء ماء } أي مثل ذلك الضَرْب البديع يضرب الله الأمثال ، وهو المقصود بهذا التذييل .
والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمْثيل ، وما فيه من المواعظ والعبر ، وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية ، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه ، وذلك تبهيج للمؤمنين وتحدّ للمشركين ، وليعلم أن جملة { فأما الزبد فيذهب جفاء } لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثَل ، فيعلمَ لممثّل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين ، فيكون الكلام قد تم عند قوله : { كذلك يضرب الله الأمثال } كما في شأن التذييل .