{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } كل يدعي أنه المحق .
{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا } يشمل كل كافر ، من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والصابئين ، والمشركين .
{ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي : يجعل لهم ثياب من قطران ، وتشعل فيها النار ، ليعمهم العذاب من جميع جوانبهم .
{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } الماء الحار جدا ،
ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان ، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان :
هذا خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ؛ ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها . وذوقوا عذاب الحريق . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
إنه مشهد عنيف صاخب ، حافل بالحركة ، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير . فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده . .
هذه ثياب من النار تقطع وتفصل ! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس ، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس ! وهذه سياط من حديد أحمته النار . . وهذا هو العذاب يشتد ، ويتجاوز الطاقة ، فيهب ( الذين كفروا )من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا( الغم )وها هم أولاء يردون بعنف ، ويسمعون التأنيب : ( وذوقوا عذاب الحريق ) . .
ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها ، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف ، ليبدأ في العرض من جديد !
ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار ، إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول ، وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول ، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .
وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات ، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
ثبت في الصحيحين ، من{[20079]} حديث أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي ذر ؛ أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحِبَيه ، وعتبةَ وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر{[20080]} .
لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري :
حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلز عن قيس بن عُبَاد ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يَجثُو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة . قال قيس : وفيهم نزلت : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : عليّ وحمزة وعبيدة ، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . انفرد به البخاري{[20081]} .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم . فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم . فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه ، وأنزل : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } . وكذا روى العَوفي ، عن ابن عباس .
وقال شعبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : مُصدق ومكذب .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث . وقال - في رواية : هو وعطاء في هذه الآية - : هم المؤمنون والكافرون .
وقال عكرمة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة .
وقولُ مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون ، يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل . وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حَسَن ؛ ولهذا قال : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي : فصلت لهم مقطعات من نار .
قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي .
{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } . { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } أي : إذا صب على رءوسهم الحميم ، وهو الماء الحار في غاية الحرارة .
وقال سعيد [ بن جبير ]{[20082]} هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وكذلك تذوب{[20083]} جلودهم ، وقال ابن عباس وسعيد : تساقط .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد{[20084]} ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن{[20085]} حُجَيرة ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحميم ليُصَب على رءوسهم ، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت{[20086]} ما في جوفه ، حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان " .
ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك{[20087]} ، وقال : حسن صحيح . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي نعيم ، عن ابن المبارك ، به ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ ، سمعت عبد الله ابن السُّرِّيّ قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب
بها رأسه ، فَيُفرغ{[20088]} دماغه ، ثم يُفرغ{[20089]} الإناء من دماغه ، فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }
{ هذان خصمان } أي فوجان مختصمان . ولذلك قال : { اختصموا } حملا على المعنى ولو عكس لجاز ، والمراد بهما المؤمنون والكافرون . { في ربهم } في دينه أو في ذاته وصفاته . وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت . { فالذين كفروا } فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى : { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } { قطعت لهم } قدرت لهم على مقادير جثثهم ، وقرىء بالتخفيف . { ثياب من نار } نيران تحيط بهم إحاطة الثياب . { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } حال من الضمير في { لهم } أو خبر ثان ، والحميم الماء الحار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في المؤمنين وأهل الكتاب، ثم بين ما أعد للخصمين، فقال: {فالذين كفروا} يعني: اليهود والنصارى {قطعت لهم} يعني: جعلت لهم {ثياب من نار} يعني: قمصا...من نار، فيها تقديم {يصب من فوق رءوسهم الحميم}... الذي قد انتهى حره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله؛
فقال بعضهم: أحد الفريقين: أهل الإيمان، والفريق الآخر: عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر... عن عطاء بن يسار، قال: نزلت هؤلاء الآيات:"هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ" في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. إلى قوله: "وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحَمِيدِ"...
وقال آخرون ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان: بل الفريق الآخر أهل الكتاب... عن ابن عباس، قوله: "هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ "قال: هم أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم في ربهم...
وقال آخرون منهم: بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا... قال ابن جُرَيج: خصومتهم التي اختصموا في ربهم، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عُني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين. وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه: أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر: أهل معصية له، قد حقّ عليه العذاب، فقال: "ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ" ثم قال: "وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ"، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما، فقال: "فالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثيابٌ منْ نارٍ" وقال الله: "إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" فكان بيّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما...
فتأويل الكلام: هذان خصمان اختصموا في دين ربهم، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومحاربته إياه على دينه.
وقوله: "فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ" يقول تعالى ذكره: فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار...
وقوله: يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رؤسِهِمُ الحَمِيمُ يقول: يصبّ على رؤوسهم ماء مُغْلًي. كما حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَالقاني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيد، عن أبي السّمْح، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ الحَمِيمَ لَيُصَبّ عَلى رُؤُسِهِمْ، فَيَنْفُذُ الجُمْجَمَةَ حتى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ، فَيَسْلُتَ ما فِي جَوْفِهِ حتى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهِيَ الصّهْرُ، ثُمّ يُعادُ كَما كانَ»...
وكان بعضهم يزعم أن قوله: "ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ" من المؤخّر الذي معناه التقديم، ويقول: وجه الكلام: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الحميم ويقول: إنما وجب أن يكون ذلك كذلك، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه، ثم يصبّ فيه الحميم الذي انتهى حرّه فيقطع بطنه. والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا، يدلّ على خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صبّ على رؤسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، ولو كانت المقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الحميم عليها، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الحَميمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ» معنى ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعْتَ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} معناه أن النار قد أحاطت بها كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم، فصارت من هذا الوجه ثياباً، وضم الحميم إلى النار وإن كانت أشد منه لأنه ينضج لحومهم، والنار بإنفرادها تحرقها، فيختلف به العذاب فيتنوع، فيكون أبلغ في النكال.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أما الذين كفروا فلهم اليومَ لباسُ الشرْكِ وطِرازُه الحرمان، ثم صدار الإفك وطرازه الخذلان. وفي الآخرة لباسهم القطران وطرازه الهجران، قال تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. أمَّا أصحابُ الإيمانِ فلِباسُهم اليومَ التقوى، وتنقسم إلى اجتناب الشِّرْكِ ثم مجانبة المخالفة، ثم مباينة الغفلة، ثم مجانبة السكونِ إلى غير الله، والاستبشار إلى ما سوى الله، وفي الآخرة لِباسُهم فيها حريرٌ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(اختصموا في ربهم) أي: جادلوا في ربهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداواة والجدال والحرب،
{خصمان} يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله {اختصموا} وقوله {في ربهم} معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته، ثم بين حكمي الفريقين؛ فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم، و {قطعت} معناه جعلت لهم بتقدير، كما يفصل الثوب، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي...
قوله: {قطعت لهم ثياب من نار} والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش}.عن أنس، وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذا من قوله تعالى: {سرابيلهم من قطران}. وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى: {ونفخ في الصور}، {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قسم الناس إلى مخالف ومؤالف، أتبعه جزاءهم بما يرغب المؤالف ويرهب المخالف على وجه موجب للأمر بالمعروف الذي من جملته الجهاد لوجهه خالصاً فقال: {هذان} أي الساجد والجاحد من جميع الفرق {خصمان} لا يمكن منهما المسالمة الكاملة إذ كل منهما في طرف.
ولما أشار بالتثنية إلى كل فرقة منهم صارت -مع كثرتها وانتشارها باتحاد الكلمة في العقيدة- كالجسد الواحد، صرح بكثرتهم بالتعبير بالجمع فقال: {اختصموا} أي أوقعوا الخصومة بغاية الجهد، ولما كانت الفرق المذكورة كلها مثبتة وقد جحد أكثرهم النعمة، قال: {في ربهم} أي الذي هم بإحسانه إليهم معترفون، لم يختصموا بسبب غيره أصلاً ولما ذكر خصومتهم وشرطها، ذكر جزاءهم عليها في فصل الأمر الذي قدم ذكره، وبدأ بالترهيب لأن الإنسان إليه أحوج فقال: {فالذين كفروا} منابذين لأمر ربهم {قطعت} تقطيعاً لا يعلم كثرته إلا الله، بأيسر أمر ممن لا أمر لغيره {لهم} الآن وهيئت وإن وافقوا مراد ربهم بمخالفتهم أمره {ثياب من نار} تحيط بهم وهي على مقاديرهم سابغة عليهم كما كانوا يسبلون الثياب في الدنيا تعاظماً وتكبراً حال كونهم {يصب} إذا دخلوها {من فوق رؤوسهم الحميم}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} كل يدعي أنه المحق. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} يشمل كل كافر، من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمشركين. {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي: يجعل لهم ثياب من قطران، وتشعل فيها النار، ليعمهم العذاب من جميع جوانبهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه مشهد عنيف صاخب، حافل بالحركة، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير. فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده.. هذه ثياب من النار تقطع وتفصل! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس! وهذه سياط من حديد أحمته النار.. وهذا هو العذاب يشتد، ويتجاوز الطاقة، فيهب (الذين كفروا) من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا (الغم) وها هم أولاء يردون بعنف، ويسمعون التأنيب: (وذوقوا عذاب الحريق).. فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم. فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار. وملابسهم لم تقطع من النار، إنما فصلت من الحرير. ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ. وقد هداهم الله إلى الطيب من القول، وهداهم إلى صراط الحميد. فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق.. والهداية إلى الطيب من القول، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم. نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق. وتلك عاقبة الخصام في الله. فهذا فريق وذلك فريق.. فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة {هذان خصمان} موقع الاستئناف البياني. لأن قوله {وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك، فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين، ومثلها كثير في الكلام.
والاختصام: افتعال من الخصومة، وهي الجدل والاختلاف... واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار}.
فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين.
ووقع في « الصحيحين» عن أبي ذرّ: أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليدَ بن عتبة.
وفي « صحيح البخاري» عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة. قال قيس بن عُبادة: وفيهم نزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم}. قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون {هذان} إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد، وهو استعمال في كلام البُلغاء...
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية.
ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين. والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة...
ومعنى {في ربهم} في شأنه وصفاته، فالكلام على حذف مضاف ظاهر...
والتقطيع: مبالغة القطع، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته. والمراد: قطع شُقّة الثوب، وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار. والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وها هو كتاب الله يشير في بداية هذا الربع إلى ما يجري عادة في كل جيل من الخصومة والنزاع، والمواجهة والصراع، بين أنصار الحق وأتباع الباطل، إذ من المتعذر أن يقع بين هذين الفريقين ائتلاف والتقاء، ما دام الأولون يعملون جادين لنيل الفوز والسعادة، والآخرون يشقون طريقهم مسرعين نحو الخيبة والشقاء {هذان خصمان اختصموا في ربهم}، لا سيما والخصومة بينهم خصومة في الله، لا تنتهي بالصلح والتراضي إلا إذا تحقق رضا الله.
وبعدما وضع كتاب الله أمام الأنظار قصة الفريقين المتخاصمين على وجه الإجمال أوضح المصير الذي يؤول إليه كل فريق بعد الفصل بينهما في الدار الآخرة، فقال تعالى في شأن الكافرين الأشقياء: {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها، وذوقوا عذاب الحريق}
... والخصومة تحتاج إلى فصل بين المتخاصمين، والفصل يحتاج إلى شهود، لكن إن جاء الفصل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود {وكفى بالله شهيدا (79)} [النساء] وإن جاء عليهم بشهود من أنفسهم، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم فالإذاقة ليست في اللباس، إنما بشيء آخر، واللباس يعطي الإحاطة والشمول، لتعم الإذاقة كل أطراف البدن، وتحكم عليه مبالغة في العذاب.