تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (176)

{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الخلق ، مجتهدا في هدايتهم ، وكان يحزن إذا لم يهتدوا ، قال الله تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } من شدة رغبتهم فيه ، وحرصهم عليه { إنهم لن يضروا الله شيئا } فالله ناصر دينه ، ومؤيد رسوله ، ومنفذ أمره من دونهم ، فلا تبالهم ولا تحفل بهم ، إنما يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم ، بفوات الإيمان في الدنيا ، وحصول العذاب الأليم في الأخرى ، من هوانهم على الله وسقوطهم من عينه ، وإرادته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من ثوابه . خذلهم فلم يوفقهم لما وفق له أولياءه ومن أراد به خيرا ، عدلا منه وحكمة ، لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى ، ولا قابلين للرشاد ، لفساد أخلاقهم وسوء قصدهم .

ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على الإيمان ، ورغبوا فيه رغبة من بذل ما يحب من المال ، في شراء ما يحب من السلع { لن يضروا الله شيئا } بل ضرر فعلهم يعود على أنفسهم ، ولهذا قال : { ولهم عذاب أليم } وكيف يضرون الله شيئا ، وهم قد زهدوا أشد الزهد في الإيمان ، ورغبوا كل الرغبة بالكفر بالرحمن ؟ ! فالله غني عنهم ، وقد قيض لدينه من عباده الأبرار الأزكياء سواهم ، وأعد له -ممن ارتضاه لنصرته- أهل البصائر والعقول ، وذوي الألباب من الرجال الفحول ، قال الله تعالى : { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } الآيات .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (176)

121

وأخيرا يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب ، إلى الرسول [ ص ] يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن ، من مسارعة الكفار إلى الكفر ، ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف ! فإن هذا لن يضر الله شيئا . وإنما هي فتنة الله لهم ، وقدر الله بهم ، فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ؛ فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته ! وقد كان الهدى مبذولا لهم ، فآثروا عليه الكفر ؛ فتركوا يسارعون في الكفر . وأملي لهم ليزدادوا إثما مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء . فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء . . ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها : من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين . إنها تمييز الخبيث من الطيب ، بالاختبار والابتلاء ، فقد كان أمر القلوب غيبا مما يستأثر الله به ، ولا يطلع الناس عليه ، فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر ، وبالوسيلة التي يدركها البشر . . فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين ، ليتكشف المخبوء في القلوب ، ويتميز الخبيث من الطيب ؛ ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين :

( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، إنهم لن يضروا الله شيئا ، يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم . إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ، ولهم عذاب أليم . ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، ولهم عذاب مهين . ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب ، ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فآمنوا بالله ورسله ، وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ) . .

إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة ؛ والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة . . فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور ؛ أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب ، أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل . ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة ، ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة !

هناك دائما الشبهة الكاذبة ، أو الأمنية العاتبة : لماذا يا رب ؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل ؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل ؟ ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل ، ويعود بالغلبة والغنيمة ؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر ؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة ؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة ، وفيها فتنة للقلوب وهزة ؟ !

ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب : " أنى هذا ؟ ! " . .

ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير ، والبيان الأخير . ويريح الله القلوب المتعبة ، ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية ، ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله : أمس واليوم وغدا . وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية :

إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك وبقاءه منتفشا فترة من الزمان ، ليس معناه أن الله تاركه ، أو أنه من القوة بحيث لا يغلب ، أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا . .

وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك ، وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان ، ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه ! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه . .

كلا . إنما هي حكمة وتدبير . . هنا وهناك . . يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق ؛ وليرتكب أبشع الآثام ، وليحمل أثقل الأوزار ، ولينال أشد العذاب باستحقاق ! . . ويبتلى الحق ، ليميز الخبيث من الطيب ، ويعظمالأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت . . فهو الكسب للحق والخسار للباطل ، مضاعفا هذا وذاك ! هنا وهناك !

( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، إنهم لن يضروا الله شيئا ، يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم ) . .

إنه يواسي النبي [ ص ] ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره ؛ وهو يرى المغالين في الكفر ، يسارعون فيه ، ويمضون بعنف واندفاع وسرعة ، كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه !

وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية . فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية ؛ كأنه يجهد لنيل السبق فيه ! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف ، أو من يهتف له من الإمام ، إلى جائزة تنال !

وكان الحزن يساور قلب رسول الله [ ص ] حسرة على هؤلاء العباد ؛ الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار ، وهو لا يملك لهم ردا ، وهم لا يسمعون له نذارة ! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر ، من الشر والأذى يصيب المسلمين ، ويصيب دعوة الله ، وسيرها بين الجماهير ، التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية . . فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا . . ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم . فيطمئن الله رسوله [ ص ] ويواسي قلبه ، ويمسح عنه الحزن الذي يساوره .

( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . إنهم لن يضروا الله شيئا ) . .

وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئا . والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان . إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو ؛ وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو . ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول [ ص ] وعاتق المسلمين جملة . . فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله ، وهم أضعف من أن يضروا الله شيئا . . وهم إذن لن يضروا دعوته . ولن يضروا حملة هذه الدعوة . مهما سارعوا في الكفر ، ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى .

إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين ، وينتفشون غالبين ، وهم أعداؤه المباشرون ؟

لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى !

( يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ) . .

يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله ؛ وأن يحملوا وزرهم كله ، وأن يستحقوا عذابهم كله ، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق !

( ولهم عذاب عظيم ) . .

ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة ؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان .

/خ179

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (176)

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مُبَادَرَة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ، فقال تعالى : ولا يحزنك ذلك { إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ } أي : حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (176)

{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } يقعون فيه سريعا حرصا عليه ، وهم المنافقون من المتخلفين ، أو قوم ارتدوا عن الإسلام ، والمعنى لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك لقوله : { إنهم لن يضروا الله شيئا } أي لن يضروا أولياء الله شيئا بمسارعتهم في الكفر ، وإنما يضرون بها أنفسهم . وشيئا يحتمل المفعول والمصدر وقرأ نافع { يحزنك } بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله في الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فإنه فتح الياء وضم الزاي فيه والباقون كذلك في الكل . { يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } نصيبا من الثواب في الآخرة ، وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر ، وفي ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته ، وإن مسارعتهم في الكفر لأنه تعالى لم يرد أن يكون لهم حظ في الآخرة . { ولهم عذاب عظيم } مع الحرمان عن الثواب .