ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان بالله ورسله{[993]} يدخل فيه أصول الدين وفروعها ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا لكم فيه الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن فضل الله بالثواب الجزيل والأجر العظيم{[994]} من أعظم منته على عباده وفضله . { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الذي لا يحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده{[995]} .
ومن ثم يدعوهم إلى السباق في ميدان السباق الحقيقي ، للغاية التي تستحق السباق . الغاية التي تنتهي إليها مصائرهم ، والتي تلازمهم بعد ذلك في عالم البقاء :
( سابقوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم ) . .
فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق ، وتركوا عالم اللهو اللعب للأطفال والصغار ! إنما السباق إلى ذلك الأفق ، وإلى ذلك الهدف ، وإلى ذلك الملك العريض : ( جنة عرضها كعرض السماء والأرض ) . .
وربما كان بعضهم في الزمن الخالي - قبل أن تكشف بعض الحقائق عن سعة هذا الكون - يميل إلى حمل مثل هذه الآية على المجاز ، وكذلك حمل بعض الأحاديث النبوية . كذلك الحديث الذي أسلفنا عن أصحاب الغرف التي يتراءاها سكان الجنة كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب . . فأما اليوم ومراصد البشر الصغيرة تكشف عن الأبعاد الكونية الهائلة التي ليس لها حدود ، فإن الحديث عن عرض الجنة ، والحديث عن تراءي الغرف من بعيد ، يقع قطعا موقع الحقيقة القريبة البسيطة المشهودة ، ولا يحتاج إلى حمله على المجاز إطلاقا ! فإن ما بين الأرض والشمس مثلا لا يبلغ أن يكون شيئا في أبعاد الكون يقاس !
وذلك الملك العريض في الجنة يبلغه كل من أراد ، ويسابق إليه كل من يشاء . وعربونه : الإيمان بالله ورسله . ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) . . ( والله ذو الفضل العظيم ) . . وفضل الله غير محجوز ولا محجور . فهو مباح متاح للراغبين والسابقين . وفي هذا فليتسابق المتسابقون ، لا في رقعة الأرض المحدودة الأجل المحدودة الأركان !
ولا بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير ؛ ولا يحصر نفسه ونظره وتصوره واهتمامه ومشاعره في عالم الأرض الضيق الصغير . . لا بد له من هذا ليؤدي دوره اللائق بصاحب العقيدة . هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم ، كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس . ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الأرض ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة ، وأوسع من هذه الأرض ، وأبقى من ذلك الفناء . .
إن مقاييس هذه الأرض وموازينها لا تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب العقيدة . وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إلا بقدر ما يبلغ حجم الأرض بالقياس إلى حجم الكون ؛ وما يبلغ عمر الأرض بالقياس إلى الأزل والأبد . والفارق هائل هائل لا تبلغ مقاييس الأرض كلها أن تحدده ولا حتى أن تشير إليه !
ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الأرض الصغير . مهما تضخم هذا الواقع وامتد واستطال . يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا الواقع الصغير . ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الأزل والأبد . وفي ملك الآخرة الواسع العريض . وفي القيم الإيمانية الثابتة التي لا تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا الصغيرة الخادعة . . وتلك وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها ، لا للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها . . .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ووَكِيع ، كلاهما عن الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله ، والنار مثل ذلك " .
انفرد بإخراجه البخاري في " الرقاق " ، من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به{[28298]}
ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان ، وإذا كان الأمر كذلك ؛ فلهذا حثه الله{[28299]} على المبادرة إلى الخيرات ، من فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، التي تكفر عنه الذنوب والزلات ، وتحصل له الثواب والدرجات ، فقال تعالى : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ }
والمراد جنس السماء والأرض ، كما قال في الآية الأخرى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] . وقال هاهنا : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أي : هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم ، كما قدَّمنا في الصحيح : أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . قال : " وما ذاك ؟ " . قالوا : يُصلُّون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويُعتقون ولا نُعْتِق . قال : " أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم : تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين " . قال : فرجعوا فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ، ففعلوا مثله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " {[28300]}
القول في تأويل قوله تعالى : { سَابِقُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ أُعِدّتْ لِلّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : سابِقُوا أيها الناس إلى عمل يوجب لكم مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السّماءِ والأرْضِ أُعِدّتْ هذه الجنة لِلّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ يعني الذين وحّدوا الله ، وصدّقوا رسله .
وقوله : ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يقول جلّ ثناؤه : هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض التي أعدّها الله للذين آمنوا بالله ورسله ، فضل الله تفضل به على المؤمنين ، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه ، وهو ذو الفضل العظيم عليهم ، بما بسط لهم من الرزق في الدنيا ، ووهب لهم من النّعم ، وعرّفهم موضع الشكر ، ثم جزاهم في الاَخرة على الطاعة ما وصف أنه أعدّه لهم .
فذلكة لما تقدم من قوله تعالى : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم } [ الحديد : 12 ] إلى هنا فذلك مسوق مساق الترغيب فيما به تحصيل نعيم الآخرة والتحذير من فواته وما يصرف عنه من إيثار زينة الدنيا ، ولذلك فُصلت الجملة ولم تُعطف ، واقتُصر في الفذلكة على الجانب المقصود ترغيبه دون التعرض إلى المحذر منه لأنه المقصود .
وعبر عن العناية والاهتمام بفعل السابقة لإِلهاب النفوس بصرف العناية بأقصى ما يمكن من الفضائل كفعل من يسابق غيره إلى غاية فهو يحرص على أن يكون المجلِّي ، ولأن المسابقة كناية عن المنافسة ، أي واتركوا المقتصرين على متاع الحياة الدنيا في الآخريات والخوالف .
وتنكير { مغفرة } لقصد تعظيمها ولتكون الجملة مستقلة بنفسها ، وإلا فإن المغفرة سبق ذكرها في قوله : { ومغفرة من الله } ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : سابقوا إلى المغفرة ، أي أكثروا من أسبابها ووسائلها : فالمسابقة إلى المغفرة هي المسابقة في تحصيل أسبابها .
والعَرْض : مستعمل في السعة وليس مقابل الطُور لظهور أنه لا طائل في معنى ما يقابل الطول ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] ، وقول العُديل لما فَرَّ من وعيد الحجاج :
ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساط بأيدي الناعجات عَريض
وتشبيه عَرْض الجنة بعَرْض السماء والأرض ، أي مجموع عرضيهما لقصد تقريب المشبه بأقصى ما يتصوره الناس في الاتساع ، وليس المراد تحديد ذلك العرض ولا أن الجنة في السماء حتى يقال : فماذا بقي لمكان جهنم .
وهذا الأمر شامل لجميع المسابقات إلى أفعال البر الموجبة للمغفرة ونعيم الجنة ، وشامل للمسابقة الحقيقية مع المجازية على طريقة استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهي طريقة شائعة في القرآن إكثاراً للمعاني ، ومنه الحديث : « لو يعلم الناس ما في الصف الأول لاستبقوا إليه أو استهموا إليه »
وليس في الآية دليل على أن الجنة غير مخلوقة الآن إذ وجه الشبه في قوله : { كعرض السماء والأرض } هو السعة لا المقدار ولا على أن الجنة في السماء الموجودة اليوم ولا عدمه ، وتقدم من معنى هذه الآية قوله : { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } الآية في سورة [ آل عمران : 133 ] .
وظاهر قوله : أعدت } أن الله خلقها وأعدّها لأن ظاهر استعماله الفعل في الزمان الماضي إن حصل مصدره فيه ، فقد تمسك بهذا الظاهر الذين قالوا : إن الجنة مخلوقة الآن ، وأما الذين نفوا ذلك فاستندوا إلى ظواهر أخرى وتقدم ذلك في سورة آل عمران .
وعُلم من قوله : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } أن غيرهم لاحظَ لهم في الجنة لأن معنى اعداد شيء لشيء قصره عليه .
وجَمْع الرسل هنا يشمل كل أمة آمنوا بالله وبرسولهم الذي أرسله الله إليهم ، وليس يلزمها أن تؤمن برسول أرسل إلى أمة أخرى ولم يَدْع غيرها إلى الإِيمان به .
والإِشارة في { ذلك فضل الله } إلى المذكور من المغفرة والجنة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {سابقوا} بالأعمال الصالحة... {إلى مغفرة من ربكم} لذنوبكم {وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} يعني السماوات السبع والأرضين السبع لو ألصقت السماوات السبع بعضها إلى بعض، ثم ألصقت السماوات بالأرضين لكانت الجنان في عرضها جميعا، ولم يذكر طولها {أعدت للذين آمنوا بالله} يعني صدقوا بتوحيد الله عز وجل {ورسله} محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي. يقول الله تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} من عباده فيخصهم بذلك {والله ذو الفضل العظيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: سابِقُوا أيها الناس إلى عمل يوجب لكم" مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السّماءِ والأرْضِ أُعِدّتْ "هذه الجنة "لِلّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ" يعني الذين وحّدوا الله، وصدّقوا رسله.
وقوله: "ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ" يقول جلّ ثناؤه: هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض التي أعدّها الله للذين آمنوا بالله ورسله، فضل الله تفضل به على المؤمنين، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه، وهو ذو الفضل العظيم عليهم، بما بسط لهم من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النّعم، وعرّفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة ما وصف أنه أعدّه لهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سابقوا إلى مغفرة من ربكم} يقول: اجعلوا المسابقة في ما بينكم في مغفرة ربكم إلى جنة لا إلى جمع الأموال والأولاد. وكان أهل الكفر جعلوا المسابقة في الدنيا في جمع الأموال والتفاخر والتكاثر بها، فيقول لأهل الإيمان: اجعلوا أنتم المسابقة في طلب مغفرة الله وجنته...
ويحتمل: سابقوا آجالكم بأعمالكم التي توجب لكم المغفرة، والله أعلم.
{وجنة عرضها كعرض السماء والأرض...} ذكر سعة الجنة لأن العرض إنما يذكر لسعة تكون للشيء... ثم ذكر عرضها {كعرض السماء والأرض} ليس يخرج على التحديد والتقدير أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض، لكن لما لا شيء أوسع في أوهام الخلق مما ذكر، وهو كقوله: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} [هود: 107] ذكر دوامها: لا شيء أبقى وأدوم منها في الأذهان، وإلا كانتا تفنيان. ويحتمل أن يقول: {عرضها كعرض السماء والأرض} أن تصير السماء والأرض جميعا جنة لهم، وفضل الجنة على قدر الحاجة لذة وسرور ومنفعة، فوسعت لذلك..
وقوله تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} دلت الآية أن ما يعطي من الثواب لعبيده فضل منه، وأن ما سماه جزاء وأجرا لسابق منه إليهم من الإحسان والنعم ما يصير تلك الأفعال، وإن كثرت، شكرا لأدنى نعمة، وإن طال عمره، فكيف يستوجب الجزاء والثواب على تلك الأعمال؟ ولكن بفضله ورحمته يجعل لتلك الأعمال ثوابا وجزاء، والله الموفق.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"سابقوا إلى مغفرة من ربكم " والمسابقة: طلب العامل التقدم في عمله قبل عمل غيره بالاجتهاد فيه، فعلى كل مكلف الاجتهاد في تقديم طاعة الله على كل عمل كما يجتهد المسابق لغيره والمسابقة إلى المغفرة بأن يتركوا المعاصي ويفعلوا الطاعات...
قوله " أعدت " اشتقاقه من العدد والإعداد، وضع الشيء لما يكون في المستقبل على ما يقتضيه من عدد الأمر الذي له، والمعنى أن هذه الجنة وضعت وادخرت للذين آمنوا بالله ورسوله..
{سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} والمراد كأنه تعالى قال: لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة...
المسألة الأولى: لا شك أن المراد منه المسارعة إلى ما يوجب المغفرة،...وقال آخرون: المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به فدخل فيه التوبة، وهذا أصح لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية، فقالوا: هذه الآية دلت على وجوب المسارعة، فوجب أن يكون التراخي محظورا...
{وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}...يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة... {والله ذو الفضل العظيم} والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سابقوا} أي افعلوا في السعي لها بالأعمال الصالحة حق السعي فعل من يسابق شخصاً فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه... {إلى مغفرة} أي ستر لذنوبكم عيناً وأثراً {من ربكم} أي المحسن إليكم بأن رباكم وطوركم بعد الإيجاد بأنواع الأسباب بأن تفعلوا أسباب ذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب زواجره. ولما كان المقصود من المغفرة ما يترتب عليها من نتيجتها قال: {وجنة} أي وبستان هو من عظم أشجارها واطراد أنهارها بحيث يستر داخله...
{يؤتيه من يشاء} ولعل التعبير بالمضارع للإشارة إلى هذا خاص بهذه الأمة التي هي أقل عملاً وأكثر أجراً...
{والله} أي والحال أن الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله {ذو الفضل العظيم} أي الذي جل عن أن يحيط بوصفه العقول.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(سابقوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم).. فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق، وتركوا عالم اللهو اللعب للأطفال والصغار! إنما السباق إلى ذلك الأفق، وإلى ذلك الهدف، وإلى ذلك الملك العريض: (جنة عرضها كعرض السماء والأرض)...
. (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).. (والله ذو الفضل العظيم).. وفضل الله غير محجوز ولا محجور. فهو مباح متاح للراغبين والسابقين. وفي هذا فليتسابق المتسابقون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعُلم من قوله: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} أن غيرهم لا حظّ لهم في الجنة، لأن معنى إعداد شيء لشيء قصره عليه. وجَمْع الرسل هنا يشمل كل أمة آمنوا بالله وبرسولهم الذي أرسله الله إليهم، وليس يلزمها أن تؤمن برسول أرسل إلى أمة أخرى ولم يَدْع غيرها إلى الإِيمان به.
... {سابِقُوا إلى مغْفِرَةٍ..} فكأن المغفرة هي الغاية وهي الهدف، كما تقول سافرت من القاهرة إلى الإسكندرية، وهذه الغاية لا تُدرك إلا بالمسابقة والسعي الجاد الدائب، لا تُدرك المغفرة بالتهاون والتكاسل. والسباق هنا سباق في الأعمال الصالحة وفي الطاعات، سباق في الانقياد لأوامر الله.
وفي موضع آخر قال سبحانه: {وسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ من ربّكُم.. 133} [آل عمران] والمسارعة والمسابقة تعني مفاعلة ومشاركة ومنافسة بين المؤمنين المنقادين لمنهج الله كلّ يريد أنْ يسبق وأنْ يرتقي إلى الغاية المنشودة لهم جميعاً وهي المغفرة {إلى مغْفرَة من ربّكُم..}.
لكن في آية أخرى قال في شأن سيدنا زكريا وسيدنا يحيى: {إنّهُم كَانُوا يُسارِعُون في الخَيْرَاتِ.. 90} [الأنبياء] ولم يقل إلى الخيرات لأن الخيرات وسيلة وليست غاية في ذاتها الخيرات وسيلة للغاية العظمى وهي المغفرة.
وقال (الخيرات) بصيغة الجمع لأنها مجال واسع يسع الطموح الإيماني، فكلّ مؤمن يأخذ منه على قدر أريحيته ويسارع فيه على قدر جهده وإمكانيته، فعمل الخير يتفاوت إذن كلما أوغلت فيه وسارعت أخذت من المنزلة على قدره...
والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا هذا المعنى بقوله: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله العلم فهو يقضى به بين الناس».
والحسد هنا بمعنى الغبطة والمنافسة الشريفة، وأصل المنافسة من طول النفس، لذلك سيدنا عمر قال لسيدنا العباس: هيا بنا نتنافس يعني: نغطس في الماء ونرى منْ منا أطول نفساً من الآخر؟ ومعلوم أن الإنسان كلما كانت رئته سليمة تتسع لأكبر قدر من الهواء، كان نفسه وبقاؤه تحت الماء أطول.
إذن: نتسابق في الخيرات لنرى منْ منّا أسبق، مَنْ منّا يصل إلى غايته أولاّ...
وقوله تعالى: {وجنّةٍ عرضُهَا كَعَرْض السَّمَاءِ والأَرْضِ.} جاءت الجنة بعد المغفرة، فالله يغفر لهم الذنوب أولاً ثم يدخلهم الجنة... والمغفرة إما أنْ يسبقها ذنب فتمحوه المغفرة، أو تكون المغفرة بستر الذنب عنك فلا يأتيك أصلاً.
والحق سبحانه وتعالى هنا يعطينا مثلاً وتوضيحاً للجنة لأنها غيب عنا مجهولة لنا، فيُقرّبها للأذهان بشيء معلوم مشاهد، ونحن نشاهد السماء والأرض واتساعها طولاً وعرضاً.
فقال في وصف الجنة {وجنّةٌ عَرْضُها كعرْض السَّماءِ والأرضِ..} فأتى بالعرض ولم يأت بالطول، ومعلوم أن العرض دائماً أقلّ من الطول، فإذا كان عرضها أي الجنة كعرض السماوات والأرض في اتساعه فما بالك بالطول، فهذا كناية عن الاتساع.
وقوله تعالى: {أُعدّت للذينَ آمَنُوا باللهِ ورُسُلِهِ..} أي: أعدّتْ بالفعل وجهّزت لاستقبال الذين آمنوا بالله ورسوله، فهي مسألة مفروغ منها وليست تحت الإنشاء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والتعبير ب «المغفرة» قبل البشارة بالجنّة الذي ورد في الآيتين هو إشارة لطيفة إلى أنّه ليس من اللائق الدخول إلى الجنّة والقرب من الله قبل المغفرة والتطهير...
(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الاتساع وبهذه النعم، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية فقط هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله، إذ أنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائماً بمقياس العمل، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.