{ 1 - 28 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ }
إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه ، وتكرار دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك ، فأخبر تعالى أنه أرسله{[1237]} إلى قومه ، رحمة بهم ، وإنذارا لهم من عذاب الله الأليم ، خوفا من استمرارهم على كفرهم ، فيهلكهم الله هلاكا أبديا ، ويعذبهم عذابا سرمديا .
سورة نوح مكية وآياتها ثمان وعشرون
هذه السورة كلها تقص قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض ؛ وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية ، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل .
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة ، الضالة ، الذاهبة وراء القيادات المضللة ، المستكبرة عن الحق ، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق ، المرقومة في كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون .
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني ، وعنايته بأن يهتدي . تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى .
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني ، والعناء المرهق ، والصبر الجميل ، والإصرار الكريم من جانب الرسل - صلوات الله عليهم - لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة . وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية ، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان ! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون ، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم !
هذه الصورة التي يعرضها نوح - عليه السلام - على ربه ، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاما قضاها في هذا الجهد المضني ، والعناء المرهق ، مع قومه المعاندين ، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة . وهو يقول :
رب . إني دعوت قومي ليلا ونهارا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وأصروا واستكبروا استكبارا . ثم إني دعوتهم جهارا . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا . فقلت : استغفروا ربكم ، إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمدكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا . مالكم لا ترجون لله وقارا ? وقد خلقكم أطوارا ? ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ? وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ? والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا . والله جعل لكم الأرض بساطا ، لتسلكوا منها سبلا فجاجا . . !
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر :
( رب إنهم عصوني ، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا . ومكروا مكرا كبارا . وقالوا لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا . وقد أضلوا كثيرا . . . ) . .
وهي حصيلة مريرة . ولكن الرسالة هي الرسالة !
هذه التجربة المريرة تعرض على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة الله في الأرض كلها في آخر الزمان ، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول . . يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل ، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض . ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق ؛ وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة . ثم إرادة الله في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام .
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة ، وعلى الأمة المسلمة بعامة ، وهي الوارثة لدعوة الله في الأرض ، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة ، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك ، وفي وسط كل جاهلية تالية . . ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني . كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة ، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين .
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين ؛ ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولا رحيما بهم ، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل ؛ وذلك لما قدره الله من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين . فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح ، بعدما استنفد كل الوسائل ، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم :
( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) . .
( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) . .
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها ، وتأصل جذورها . كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره ، وأحداث الحقيقة الواقعة وفق قدر الله . وذلك من خلال دعوة نوح لقومه : ( قال : يا قوم إني لكم نذير مبين . أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون ) . . وفي حكاية قوله لهم : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ? ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ? وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ? والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ، والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا . .
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم ، وحقيقة نسبهم العريق ! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية . وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها . وهي منهج الله القويم القديم .
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب ، كما تغمره الروعة والخشوع ، وهو يستعرض - بهذه المناسبة - ذلك الجهد الموصول من الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - لهداية البشرية الضالة المعاندة . ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة .
وقد يعن للإنسان أن يسأل : ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل ، وتلك التضحيات النبيلة ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام ?
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن ، وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول ، لم يكتف قومه فيه بالإعراض ، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام . وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى ، والأدب الجميل والبيان المنير .
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ . من رسل يستهزأ بهم ، أو يحرقون بالنار ، أو ينشرون بالمنشار ، أو يهجرون الأهل والديار . . حتى تجيء الرسالة الأخيرة ، فيجهد فيها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ذلك الجهد المشهود المعروف ، هو والمؤمنون معه . ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل ? ?
ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود ، وكل هذه التضحيات ، وكل هذا الجهاد المرير الشاق ? ثم . . ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله ، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار ، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان ? !
والجواب بعد التدبر : أن نعم . . وبلا جدال . . !
إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد ، وكل هذا الصبر ، وكل هذه المشقة ، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل !
ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته ؛ بل أكبر من الأرض وما عليها ؛ بل أكبر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى !
وقد شاءت إرادة الله أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة ، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولا إلى الجهد الإنساني ذاته ، بعون الله وتوفيقه . ولسنا نعلم لم خلق الله هذا الكائن بهذه الخصائص . ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته ؛ ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة ، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس .
لسنا نعلم سر هذا . ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص !
وإذن فلا بد من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان . هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل . وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون . اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض ، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة ، وتضحيات شاقة نبيلة .
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور الله ؛ وأن يكون مستودعا لسر من أسراره ؛ وأن يكون أداة من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود . . وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب . . وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه ، ومن كل هذا الكون الكبير !
كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر - أو جماعة منهم - معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية ، وارتفاعها إلى المستوى الذي يؤهلها لهذا الإتصال . معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق . . . وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أوبعض يوم في عمر البشرية الطويل ، لأن تحققها - ولو في هذه الصورة - يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية ، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال !
ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها . وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة . وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض ، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة ، بل كانت حلما أكبر من الخيال ، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس .
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام ، إلى المستوى الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم . . وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل ، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى ، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة .
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند الله ؛ هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر : لا علم ، ولا فلسفة ، ولا فن ، ولا نظام من النظم . وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله ؛ بل انحدرت قيمها وموازينها وانسانيتها ، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية ، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين ، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي ، وأسباب السعادة المادية بجملتها . ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا . ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية ، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة ، ولم تشعر بكرامة " النفس الإنسانية " قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة . والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة .
وهذا كله يستحق - بدون تردد - كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية ، ومن تضحيات نبيلة ، لإقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض . وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور الله ، وتتصل بروح الله . وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج الله للحياة . وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم ، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوى الرفيع ، الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ .
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام . وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال . وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب ، وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال . كما ألقت إبراهيم في النار ، ونشرت غيره بالمنشار ، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ .
ولكن الدعوة إلى الله لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد الله . لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة ، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور الله ، ويتصل بروح الله !
إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه أزكى السلام - لينبئ عن استقرار إرادة الله على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة ، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة . وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها . وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون منجواذبها ، ويتحررون من ربقتها . وهذا وحده كسب كبير ، أكبر من الجهد المرير . كسب للدعاة . وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم . وتستحق أن يسجد الله الملائكة لهذا الكائن ، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء . ولكنه يتهيأ - بجهده هو ومحاولته وتضحيته - لاستقبال قبس من نور الله . كما يتهيأ لأن ينهض - وهو الضعيف العاجز - بتحقيق قدر الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في الحياة . ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة ، ويتحمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة ، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين ، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع . وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق ، يهون الجهد ، وتهون المشقة ، وتهون التضحية ، ويتوارى هذا كله ، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان الله . . .
والآن نستعرض قصة نوح في هذه السورة ، وما تمثله من حقيقة تلك الحقيقة !
( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه : أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم . قال : يا قوم : إني لكم نذير مبين : أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون ) . .
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده : ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) . . فهذا هو المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف ، كما يتلقون حقيقة العقيدة . وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله ، وصدرت منه الحياة . وهو الله الذي خلق البشر وأودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده ، فلما انحرفوا عنها وزاغوا أرسل إليهم رسله ، يردونهم إليه . ونوح - عليه السلام - كان أول هؤلاء الرسل - بعد آدم عليه السلام . وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه إلى هذه الأرض ، وممارسته لهذه الحياة ؛ لعله كان معلما لأبنائه وحفدته حتى إذا طال عليهم الأمد بعد وفاته ضلوا عن عبادة الله الواحد ، واتخذوا لهم أصناما آلهة . اتخذوها في أول الأمر أنصابا ترمز إلى قوى قدسوها . قوى غيبية أو مشهودة . ثم نسوا الرمز وعبدوا الأصنام ! وأشهرها تلك الخمسة التي سيرد ذكرها في السورة . فأرسل الله إليهم نوحا يردهم إلى التوحيد ، ويصحح لهم تصورهم عن الله وعن الحياة والوجود . والكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس - عليه السلام - سابقا لنوح . ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم ، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب .
والذي يتجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن ، أن نوحا كان في فجر البشرية ؛ وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاما في دعوته لقومه ، ولا بد أنهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة . . أن طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأن البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية . وذلك قياسا على ما نراه من سنة الله في الأحياء من طول العمر إذا قل العدد ، كأن ذلك للتعويض والتعادل . . والله أعلم بذلك . . إنما هي نظرة في سنة الله وقياس !
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة وتوكيده ، ثم تذكر فحوى رسالة نوح في اختصار وهي الإنذار : ( أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ) . .
والحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا إليها ، من إعراض واستكبار وعناد وضلال - كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية لربه - تجعل الإنذار هو أنسب ما تلخص به رسالته ، وأول ما يفتتح به الدعوة لقومه ، الإنذار بعذاب أليم ، في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا .
يقول تعالى مخبرا عن نوح ، عليه السلام ، أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم ؛ ولهذا قال : { أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : بين النذارة ، ظاهر الأمر واضحه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَقَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَنِ اعبُدُواْ اللّهَ وَاتّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى إِنّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنّا أرْسَلْنا نُوحا وهو نوح بن لمَكَ إلى قَوْمِهِ أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أنْ يأْتِيَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : أرسلناه إليهم بأن أنذر قومك فأن في موضع نصب في قول بعض أهل العربية ، وفي موضع خفض في قول بعضهم . وقد بيّنت العِلل لكلّ فريق منهم ، والصواب عندنا من القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر : «إنَا أرْسَلْنا نُوحا إلى قَوْمِهِ أنْذِرْ قَوْمَكَ » بغير «أن » ، وجاز ذلك لأن الإرسال بمعنى القول ، فكأنه قيل : قلنا لنوح : أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم وذلك العذاب الأليم هو الطوفان الذي غرّقهم الله به .
بهذا الاسم سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه بترجمة { سورة إنا أرسلنا نوحا } . ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف ولم يترجم لها الترمذي في جامعه .
وعدت الثالثة والسبعين في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد نزول أربعين آية من سورة النحل وقبل سورة الطور .
وعد العادون بالمدينة ومكة آيها ثلاثين آية ، وعدها أهل البصرة والشام تسعا وعشرين آية ، وعدها أهل الكوفة ثمانا وعشرين آية .
أعظم مقاصد السورة ضرب المثل للمشركين بقوم نوح وهم أول المشركين الذين سلط عليهم عقاب في الدنيا ، وهو أعظم عقاب أعني الطوفان . وفي ذلك تمثيل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه بحالهم .
وفيها تفصيل كثير من دعوة نوح عليه السلام إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام وإنذاره قومه بعذاب أليم واستدلاله لهم ببدائع صنع الله تعالى وتذكيرهم بيوم البعث .
وتصميم قومه على عصيانه وعلى تصلبهم في شركهم .
وتسمية الأصنام التي كانوا يعبدونها .
ودعوة نوح على قومه بالاستئصال .
ودعاء نوح بالمغفرة له وللمؤمنين ، وبالتبار للكافرين كلهم .
وتخلل ذلك إدماج وعد المطيعين بسعة الأرزاق وإكثار النسل ونعيم الجنة .
افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر ، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام . وكثيراً ما يَفتتح بلغاء العرب أول الكلام بحرف التوكيد لهذا الغرض وربما جعلوا ( إن ) دَاخلةً على ضمير الشأن في نحو قوله تعالى : { إنه من سليمان وإِنه باسم الله الرحمان الرحيم * أن لا تعلوا علي } الآية [ النمل : 30 ، 31 ] .
وذكْر نوح عليه السلام مضى في سورة آل عمران . وتقدم أن هذا الاسم غير عربي ، وأنه غير مشتق من مادة النّوح .
و { أن أنذر قومك } إلى آخره هو مضمون ما أرسل به نوح إلى قومه ، ف { أنْ } تفسيرية لأنها وقعت بعد { أرسلنا } . وفيه معنى القول دون حروفه . ومعنى { من قِبْل أن يأتيهم عذاب أليم } أنه يخوفهم غضب الله تعالى عليهم إذ عبدوا الأصنام ولم يتقوا الله ولم يطيعوا ما جاءهم به رسوله ، فأمره الله أن ينذرهم عذاباً يأتيهم من الله ليكون إنذاره مقدّماً على حلول العذاب . وهذا يقتضي أنه أُمر بأن يعلمهم بهذا العذاب ، وأن الله وقَّته بمدة بقائهم على الشرك بعد إبلاغ نوح إليهم ما أُرسل به في مدة يقع الإِبلاغ في مثلها ، فحذف متعلّق فعل { أنذر } لدلالة ما يأتي بعده من قوله : { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } [ نوح : 3 ] .
وحرف { مِنْ } زائد للتوكيد ، أي قبلَ أن يأتيهم عذاب فهي قبليَّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه { قبل } .
و« قوم نوح » هم الناس الذين كانوا عامرين الأرضَ يومئذٍ ، إذ لا يوجد غيرهم على الأرض كما هو ظاهر حديث الشفاعة وذلك صريح ما في التوراة .
والقوم : الجماعة من الناس الذين يجمعهم موطن واحد أو نسب واحد برجالهم ونسائهم وأطفالهم .
وإضافة ( قوم ) إلى ضمير { نوح } لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به ، ولأنه واحد منهم وهم بيَن أبناءٍ لَه وأنسباءٍ فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد .
وعُدل عن أن يقال له : أنذر الناس إلى قوله : { أنذر قومك } إلهاباً لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب ، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته ، وهم عدد تكوّن بالتوالد في بني آدم في مدة ستمائة سنة من حلول جنس الإنسان على الأرض . ولعل عددهم يوم أرسل إليهم نوح لا يتجاوز بضعة آلاف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة نوح وهي مكية بإجماع من المتأولين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الدلالة على تمام القدرة على ما أنذر به آخر "سأل " من إهلاك المنذرين وتبديل خير منهم، و من القدرة على إيجاد يوم القيامة الذي طال إنذارهم به وهم عنه معرضون وبه مكذبون وبه لاهون، وتسميتها بنوح عليه السلام أدل ما فيها على ذلك، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب تكذيبهم له في ذلك مشهور ومقصوص في غير ما موضع ومذكور، وتقرير أمر البعث في قصته في هذه السورة مقرر ومسطور.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة كلها تقص قصة نوح -عليه السلام- مع قومه؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض؛ وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل.
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة، الضالة، الذاهبة وراء القيادات المضللة، المستكبرة عن الحق، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق، المرقومة في كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون.
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني، وعنايته بأن يهتدي. تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى.
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني، والعناء المرهق، والصبر الجميل، والإصرار الكريم من جانب الرسل -صلوات الله عليهم- لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة. وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم!
هذه الصورة التي يعرضها نوح -عليه السلام- على ربه، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاما قضاها في هذا الجهد المضني، والعناء المرهق، مع قومه المعاندين، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة. وهو يقول:
رب. إني دعوت قومي ليلا ونهارا. فلم يزدهم دعائي إلا فرارا. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا. ثم إني دعوتهم جهارا. ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا. فقلت: استغفروا ربكم، إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمدكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا. مالكم لا ترجون لله وقارا؟ وقد خلقكم أطوارا؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا؟ وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا؟ والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا. والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا..!
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر:
(رب إنهم عصوني، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا. ومكروا مكرا كبارا. وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا. وقد أضلوا كثيرا...)..
وهي حصيلة مريرة. ولكن الرسالة هي الرسالة!
هذه التجربة المريرة تعرض على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة الله في الأرض كلها في آخر الزمان، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول.. يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض. ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق؛ وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة. ثم إرادة الله في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام.
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة، وعلى الأمة المسلمة بعامة، وهي الوارثة لدعوة الله في الأرض، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك، وفي وسط كل جاهلية تالية.. ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني. كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين.
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين؛ ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولا رحيما بهم، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل؛ وذلك لما قدره الله من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين. فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح، بعدما استنفد كل الوسائل، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم:
(ولا تزد الظالمين إلا ضلالا)..
(وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا)..
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها، وتأصل جذورها. كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره، وأحداث الحقيقة الواقعة وفق قدر الله. وذلك من خلال دعوة نوح لقومه: (قال: يا قوم إني لكم نذير مبين. أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون. يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، لو كنتم تعلمون).. وفي حكاية قوله لهم: ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا؟ وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا؟ والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا، والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا..
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم، وحقيقة نسبهم العريق! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية. وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها. وهي منهج الله القويم القديم.
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب، كما تغمره الروعة والخشوع، وهو يستعرض -بهذه المناسبة- ذلك الجهد الموصول من الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- لهداية البشرية الضالة المعاندة. ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة.
وقد يعن للإنسان أن يسأل: ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل، وتلك التضحيات النبيلة، من لدن نوح -عليه السلام- إلى محمد -عليه الصلاة والسلام- ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام؟
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن، وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول، لم يكتف قومه فيه بالإعراض، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام. وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى، والأدب الجميل والبيان المنير.
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ. من رسل يستهزأ بهم، أو يحرقون بالنار، أو ينشرون بالمنشار، أو يهجرون الأهل والديار.. حتى تجيء الرسالة الأخيرة، فيجهد فيها محمد [صلى الله عليه وسلم] ذلك الجهد المشهود المعروف، هو والمؤمنون معه. ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل؟؟
ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود، وكل هذه التضحيات، وكل هذا الجهاد المرير الشاق؟ ثم.. ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان؟!
والجواب بعد التدبر: أن نعم.. وبلا جدال..!
إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد، وكل هذا الصبر، وكل هذه المشقة، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل!
ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته؛ بل أكبر من الأرض وما عليها؛ بل أكبر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى!
وقد شاءت إرادة الله أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولا إلى الجهد الإنساني ذاته، بعون الله وتوفيقه. ولسنا نعلم لم خلق الله هذا الكائن بهذه الخصائص. ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته؛ ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس.
لسنا نعلم سر هذا. ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص!
وإذن فلا بد من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان. هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل. وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون. اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة، وتضحيات شاقة نبيلة.
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور الله؛ وأن يكون مستودعا لسر من أسراره؛ وأن يكون أداة من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود.. وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب.. وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه، ومن كل هذا الكون الكبير!
كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر -أو جماعة منهم- معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية، وارتفاعها إلى المستوى الذي يؤهلها لهذا الاتصال. معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق... وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أو بعض يوم في عمر البشرية الطويل، لأن تحققها -ولو في هذه الصورة- يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال!
ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها. وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة. وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة، بل كانت حلما أكبر من الخيال، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس.
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام، إلى المستوى الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم.. وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة.
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند الله؛ هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر: لا علم، ولا فلسفة، ولا فن، ولا نظام من النظم. وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله؛ بل انحدرت قيمها وموازينها وانسانيتها، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي، وأسباب السعادة المادية بجملتها. ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا. ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة، ولم تشعر بكرامة "النفس الإنسانية " قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة. والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة.
وهذا كله يستحق -بدون تردد- كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية، ومن تضحيات نبيلة، لإقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض. وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور الله، وتتصل بروح الله. وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج الله للحياة. وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوى الرفيع، الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ.
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام. وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال. وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب، وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال. كما ألقت إبراهيم في النار، ونشرت غيره بالمنشار، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ.
ولكن الدعوة إلى الله لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد الله. لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور الله، ويتصل بروح الله!
إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح -عليه السلام- إلى عهد محمد -عليه أزكى السلام- لينبئ عن استقرار إرادة الله على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة. وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها. وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون من جواذبها، ويتحررون من ربقتها. وهذا وحده كسب كبير، أكبر من الجهد المرير. كسب للدعاة. وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم. وتستحق أن يسجد الله الملائكة لهذا الكائن، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء. ولكنه يتهيأ -بجهده هو ومحاولته وتضحيته- لاستقبال قبس من نور الله. كما يتهيأ لأن ينهض -وهو الضعيف العاجز- بتحقيق قدر الله في الأرض، وتحقيق منهجه في الحياة. ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة، ويتحمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع. وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق، يهون الجهد، وتهون المشقة، وتهون التضحية، ويتوارى هذا كله، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان الله...
والآن نستعرض قصة نوح في هذه السورة، وما تمثله من حقيقة تلك الحقيقة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعظم مقاصد السورة ضرب المثل للمشركين بقوم نوح وهم أول المشركين الذين سلط عليهم عقاب في الدنيا، وهو أعظم عقاب أعني الطوفان. وفي ذلك تمثيل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه بحالهم.
وفيها تفصيل كثير من دعوة نوح عليه السلام إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام وإنذاره قومه بعذاب أليم واستدلاله لهم ببدائع صنع الله تعالى وتذكيرهم بيوم البعث.
وتصميم قومه على عصيانه وعلى تصلبهم في شركهم.
وتسمية الأصنام التي كانوا يعبدونها.
ودعوة نوح على قومه بالاستئصال.
ودعاء نوح بالمغفرة له وللمؤمنين، وبالتبار للكافرين كلهم.
وتخلل ذلك إدماج وعد المطيعين بسعة الأرزاق وإكثار النسل ونعيم الجنة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة المكية نزلت على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين معه، وهو يعاني من قسوة النتائج السلبية التي واجهها نتيجة إصراره على دعوة الحق في دين الله، في ما عاناه من المشركين المتمردين على دعوته من ضغطٍ وتهويلٍ واتهامٍ غير مسؤول، وسبابٍ وحصارٍ ومحاولةٍ للطرد من بلده ونحو ذلك. فكانت هذه السورة حديثاً عن نوح النبي الداعية الذي عاشت تجربته الرسالية ما يقارب الألف سنة، وحاول من خلالها أن يثير أمامهم كل الأساليب الحكيمة المقنعة التي تفتح قلوبهم على الله وعلى خط التقوى في الإيمان به، وعلى أجواء العبادة التوحيدية في عبادته، وعلى طاعة الرسول الذي يدعوهم إلى الاستجابة للوحي الذي يخطط لهم نهج الحياة السليم، من خلال اطِّلاع الله على ما يحتاجونه من الأمور التي تخدم حياتهم وترتفع بهم إلى الدرجات الرفيعة، كما يدفعهم إلى السير في خط القيادة في ما تتحرك به الحياة من تفاصيل كثيرةٍ تحتاج إلى الهدى التفصيلي في تعليمات القائد، وفي توجيهات الرسول. وهكذا كانت دعوته بسيطةً بساطة العقيدة التوحيدية في طبيعتها ونهجها وإيحاءاتها وصفاء النور المشرق في داخل مفاهيمها، وكانت إرادته الرسالية في دعوته التغييرية أقوى من كل الضغوط الداخلية التي تضغط على مشاعره، والضغوط الخارجية التي تضغط على حريته في حركته. فلم يسقط أمام كل القوى الطاغية، بل حاول أن يفتح عقولها على الحق من دون أن ينفذ اليأس إلى قلبه، لأنه كان يرى من مسؤولية الداعية أن يتحرك في اتجاه المواقف العنيدة المتحجرة ليفتح ثغرةً في داخلها هنا وثغرة هناك، لأن النفس الإنسانية مهما تحجرت فإنها تبقى قريبةً للكلمة الحانية والأسلوب الجميل والروح الرسالية الواعية في دائرة أَفكارها ومشاعرها، فإنه ما من إنسانٍ إلاَّ وفي داخله بعض مواقع الصفاء ومنطلقات الخير التي يمكن للداعية أن يستثيرها وينفذ منها ليبعث الإيمان في القلب، والتقوى في الموقف. دعوة لتدمير المجتمع المتمرّد وهكذا كانت تجربة نوح النبي من التجارب الفريدة في تاريخ النبوّات، فقد كانت كلمات الرسالة كلماتٍ محدودةً في ما حدثنا الله عن عناوينها، لأن الحياة كما يبدو لم تكن معقّدة آنذاك، فلم تكن بحاجةٍ إلى شريعةٍ تفصيلية واسعة. وكان يكرّر الكلمات في أسلوبٍ متنوّعٍ من دون مللٍ ولا كلل، وكانوا يكرّرون الرفض في أسلوب واحدٍ. وكان ينتهز كل فرصةٍ ليدخل معهم في حوارٍ، وكانوا يرفضون ذلك، حتى أنهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويغطون وجوههم، ويعلنون الإصرار على موقفهم المتمرّد، للإيحاء له بأنهم ليسوا مستعدين لاحترام موقعه وموقفه معهم، فضلاً عن احترام دعوته والإيمان بها، حتى وصل إلى نهاية التجربة التي لم يترك أيّ بابٍ من أبوابها إلاّ ودخل فيه، ولم يدع أسلوباً من أساليب الإِقناع إلاّ واستعمله، فكان تقريره النهائي الذي قدّمه إلى الله سبحانه في نهاية التجربة الطويلة المريرة، دعوةً إلى تدمير كل هذا المجتمع، لأن المسألة لم تعد تحتمل التجربة الجديدة بعد استنفاد كل التجارب، وأصبح الواقع الكافر يمثل أعلى مستوى من الخطورة على الأجيال القادمة التي سوف تعيش في مجتمع مغلقٍ على الكفر، ممنوع من الانفتاح على الإيمان، بفعل مراكز القوى المتحالفة ضد الرسالة والرسول. وهذا هو ما فكر فيه نوح النبي الداعية، عندما دعا الله أن لا يدع من الكافرين ديّاراً، فقد أثار بعدها الحيثيات الواقعية التي تؤكد ذلك: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} ولهذا فلم تكن القضية لديه قضية اليأس الطارئ في ما يمثله من الحالة النفسية المتعبة التي يعيشها بعض الدعاة عندما يواجهون التمرّد العنيف القاسي من الناس الذين يحيطون بهم، بل كانت القضية لديه قضية الواقعية العملية التي استكملت كل عناصر التجربة، فلم تجد هناك أيّ مجالٍ لتجربة جديدةٍ توحي بالأمل، بينما كان الدعاة الآخرون اليائسون يمتلكون الفرصة في أكثر من تجربةٍ قادمةٍ في ما يختزنه مستقبل الدعوة من التجارب الواقعية، ما يجعل من تجربة نوح التجربة الرائدة التي تمثِّل الإصرار على السير في الدعوة بعيداً عن كل تهاويل اليأس الذاتي الذي ينطلق من الملل والتعب وحبِّ الابتعاد عن الضغوط والتحدّيات المضادّة. نموذج نبوي وهكذا قدّم الله لرسوله وللمؤمنين معه ومَنْ بَعْدَه هذه التجربة الرسالية، ليجدوا فيها النموذج الأمثل الذي يصرّ على الاستمرار في الدعوة إلى نهاية المطاف، من دون أيّة حالةٍ صعبة من التعب النفسي، فقد نلاحظ فيها أن نوحاً النبي الداعية لم يتعب ولم يطلب من الله السماح له بالابتعاد عن ساحة الدعوة، بل طلب منه تدمير هذا المجتمع، وخلق مجتمع جديد ينفتح على الرسالة لتنفتح الرسالة عليه في تجارب جديدة نحو واقعٍ إيمانيٍّ متحركٍ في خط الإيمان والتقوى والطاعة. وقد نحتاج إلى أن نستوحي هذه السورة التي تتميز بأسلوبها الذي ينطلق فيه النبي ليقدم تقريره إلى الله بأسلوب الدعاء، لينتظر أوامره الجديدة في المرحلة المقبلة على أساس ذلك، لنجعل منها وثيقةً رساليةً حيّةً نتعلم فيها الصبر والمعاناة والاستمرار في الدعوة إلى الله، حتى نستفيد من التجارب كلها، كما نأخذ منها التجربة الروحية التي يلجأ فيها الداعية إلى ربه، ليستلهمه الرأي السديد والروحية الصافية المنفتحة على مواقع رضاه، وليفتح قلبه له، ليشهده على أنه لا يزال في الموقع الرسالي، بالرغم من كل أثقال الضغوط التي تسيطر عليه من كل جانب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه السورة، كما هو واضح من اسمها، تشير إلى قصة نوح (عليه السلام)، وأشير إلى قصّة هذا النّبي العظيم كذلك في سور متعددة في القرآن المجيد، منها: سورة الشعراء، والمؤمنون، والأعراف، والأنبياء، وبشكل أوسع في سورة هود، وتحدثت (25) آية حول هذا النّبي العظيم الذي يعتبر من أولي العزم (من الآية 25 إلى 49). وما جاء في سورة نوح عن قصّته (عليه السلام) هو مقطع خاص من حياته، وهو أقل ممّا ذكر في بقية السور، وهذا القسم يرتبط بدعوته المستمرة والمتتابعة إلى التوحيد، وترتبط بكيفيتها وعناصرها، والتخطيط الدقيق الماهر في هذا الأمر الهام، وذلك مقابل قوم معاندين ومتكبرين يأنفون من الانقياد إلى الحقّ. بلحاظ أنّ هذه السورة نزلت في مكة، وأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين القلائل في ذلك الزمان كانوا يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف عصر نوح (عليه السلام) وأعوانه، فإنّها تعلمهم أُمورا كثيرة، وكانت هذه واحدة من أهداف إيراد هذه القصّة، ومنها:
أنّها تذكرهم كيف يبلغون الرسالة للمشركين عن طريق الاستدلال المنطقي المقترن بالمحبّة والمودّة، واستخدام كلّ طريقة تكون مفيدة ومؤثرة في الدعوة.
أنّها تعلّمهم الثبات والنشاط في طريق الدعوة إلى اللّه وعدم التكاسل مهما طالت الأعوام، ومهما وضع الأعداء العوائق.
أنّها تعلّمهم كيف يرغبونهم ويشجعونهم تارةً، وتكون لديهم عوامل الإنذار والرّهبة تارةً أخرى والاستفادة من كلا الطريقين في الدعوة إلى اللّه جلّ وعلا.
الآيات الأخيرة من هذه السورة هي تحذير للمشركين المعاندين، بأن عاقبتهم وخيمة إذا لم يستسلموا للحق، وتخلّفوا عن أمر اللّه.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه السورة جاءت لتهدئة مشاعر النّبي والمؤمنين الأوائل ومن يعيش مثل ظروفهم، ليصبروا على الصعوبات، ويطمئنوا في مسيرهم بلطف من اللّه. وبعبارة أُخرى فإنّ هذه السورة ترسم أبعاد الكفاح الدائم بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، ترسم منهج أصحاب الحق الذي يجب عليهم إتّباعه.
ولا يخفى أنّ الهدف من قراءة السورة هو الاقتباس من منهج وسلوك هذا النّبي العظيم من صبره واستقامته في طريق الدعوة إلى اللّه تعالى ليدركوا دعوة النّبي، وليس المراد القراءة الخالية من التفكير، ولا التفكر الخالي من العمل.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أن أنذر قومك} العذاب {من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} يعني وجيعا في الدنيا وهو الغرق...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّا أرْسَلْنا نُوحا"... "إلى قَوْمِهِ أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أنْ يأْتِيَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ "يقول:.. أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم، وذلك العذاب الأليم هو الطوفان الذي غرّقهم الله به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في ذكر نبأ نوح عليه السلام، دلالة رسالته وآية نبوته، إنما ذكرنا أن هذا لم يكن من علمه ولا علم قومه، ولم يختلف النبي صلى الله عليه وسلم إلى من عنده علم به، فتعلّمه منه، فعلم أنه بالله تعالى علمه لا بأحد من خلقه، فيكون فيه إلزام الحجة عليهم.
وفيه إعلام رسول الله عليه السلام ما لقي نوح عليه السلام من قومه، ليصبّره بذلك على أذى قومه؛ إذ السورة مكية. ثم أمره بالإنذار، ولم يذكر معه البشارة. فلذلك قال نوح عليه السلام: {قال يا قوم إني لكم نذير مبين} [الآية: 2] ولم يقل بشير، وقد كان بشيرا ونذيرا. فجائز أن يكون اقتصر على ذكر النذارة لأن في ذكرها ذكر البشارة؛ وذلك أنهم إذا استوجبوا العذاب، إذا داوموا على ما هم فيه من الضلالة وعبادة غير الله تعالى، فهم إذا انتهوا عن ذلك استوجبوا العفو ووقوع البشارة...
فإذا كان ذكر أحد الوجهين يقتضي ذكر الآخر اكتفى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر.
وجائز أن يكون خص النذارة بالذكر لأن الحال كانت حال الإنذار، لأنهم كانوا معرضين عن طاعة الله تعالى ومقبلين على عبادة غيره، فكانوا مستوجبين للنذارة، ولم يكونوا من أهل البشارة، وإنما يصيرون من أهلها إذا انتهوا عما هم عليه، فيكون قوله: {أنذر قومك} إن داوموا على ما هم عليه...
وقوله تعالى: {أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} دلالة أن حجته، لا تلزم الخلق قبل أن يأتيهم النذير فلا يخافون نزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير. دل أن الحجة لازمة عليهم، وأن الله تعالى إن يعذبهم لتركهم التوحيد، وإن لم يرسل إليهم الرسل فيكون تأويل قوله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15] على عذاب الاستئصال في الدنيا، ليس على عذاب الآخرة، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أن يأتيَهم عَذابٌ أَليمٌ} فيه وجهان:
أحدهما: يعني عذاب النار في الآخرة، قاله ابن عباس.
الثاني: عذاب الدنيا، وهو ما ينزل عليهم بعد ذلك من الطوفان، قاله الكلبي.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والإنذار: التخويف بالإعلام بموضع المخافة ليتقى. ونوح (عليه السلام) قد أنذر قومه بموضع المخافة وهي عبادة غير الله، وانتهاك محارمه، وأعلمهم وجوب طاعته وإخلاص عبادته.
وقوله (من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) معناه أعلمهم وجوب عبادة الله وخوفهم خلافه من قبل أن ينزل عليهم العذاب المؤلم، فإنه إذا نزل بهم العذاب لم ينتفعوا بالإنذار ولا تنفعهم عبادة الله حينئذ، لأنهم يكونون ملجئين إلى ذلك.
وقال الحسن: أمره بأن ينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والعذاب الذي توعدوا به: يحتمل أن يكون عذاب الدنيا وهو الأظهر والأليق بما يأتي بعد، ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ختمت "سأل " بالإنذار للكفار، وكانوا عباد أوثان، بعذاب الدنيا والآخرة، أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا في تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام، وكان قومه عباد أوثان، وكانوا يستهزئون به وكانوا أشد تمرداً من قريش وأجلف وأقوى وأكثر، فلم ينفعهم شيء من ذلك عند نزول البلاء وبروك النقمة عليهم وإتيان العذاب إليهم، وابتدأها بالإنذار تخويفاً من عواقب التكذيب به، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم أن يكون الرسول بشراً أو لتنزيلهم منزلة المنكرين من حيث أقروا برسالته وطعنوا في رسالة غيره مع المساواة في البشرية: {إنا} أي بما لنا من العظمة الباهرة البالغة {أرسلنا نوحاً} وهو أول رسول أتى بعد اختلاف أولاد آدم عليه السلام في دين أبيهم الأقوم {إلى قومه} أي الذين كانوا في غاية القوة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين.
ولما بان بما مضى المرسِل والرسول والمرسَل إليهم، وكان الإرسال متضمناً معنى القول، أخذ في تفسيره بياناً للمرسل به فقال: {أن أنذر} أي حذر تحذيراً بليغاً عظيماً {قومك} من الاستمرار على الكفر.
ولما كان المقصود " إعلامهم بذلك " في بعض الأوقات لأن الإنسان لا بد له من أوقات شغل بنفسه من نوم وأكل وغيره، أتى بالجار تخفيفاً عليه ورفقاً به عليه السلام فقال: {من قبل أن يأتيهم} أي على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة {عذاب أليم}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه).. فهذا هو المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف، كما يتلقون حقيقة العقيدة. وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله، وصدرت منه الحياة. وهو الله الذي خلق البشر وأودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده، فلما انحرفوا عنها وزاغوا أرسل إليهم رسله، يردونهم إليه. ونوح -عليه السلام- كان أول هؤلاء الرسل -بعد آدم عليه السلام. وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه إلى هذه الأرض، وممارسته لهذه الحياة؛ لعله كان معلما لأبنائه وحفدته حتى إذا طال عليهم الأمد بعد وفاته ضلوا عن عبادة الله الواحد، واتخذوا لهم أصناما آلهة. اتخذوها في أول الأمر أنصابا ترمز إلى قوى قدسوها. قوى غيبية أو مشهودة. ثم نسوا الرمز وعبدوا الأصنام! وأشهرها تلك الخمسة التي سيرد ذكرها في السورة. فأرسل الله إليهم نوحا يردهم إلى التوحيد، ويصحح لهم تصورهم عن الله وعن الحياة والوجود. والكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس- عليه السلام -سابقا لنوح. ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب. والذي يتجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن، أن نوحا كان في فجر البشرية؛ وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاما في دعوته لقومه، ولا بد أنهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة.. أن طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأن البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية. وذلك قياسا على ما نراه من سنة الله في الأحياء من طول العمر إذا قل العدد، كأن ذلك للتعويض والتعادل.. والله أعلم بذلك.. إنما هي نظرة في سنة الله وقياس!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام.
والقوم: الجماعة من الناس الذين يجمعهم موطن واحد أو نسب واحد برجالهم ونسائهم وأطفالهم...
وإضافة (قوم) إلى ضمير {نوح} لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه واحد منهم وهم بيَن أبناءٍ لَه وأنسباءٍ فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد.
وعُدل عن أن يقال له: أنذر الناس إلى قوله: {أنذر قومك} إلهاباً لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته.