{ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } فاندرس العلم ، ونسيت آياته ، فبعثناك في وقت اشتدت الحاجة إليك وإلى ما علمناك وأوحينا إليك . { وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا } أي : مقيما { فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : تعلمهم وتتعلم منهم ، حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين ، { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي : ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى ، أثر من آثار إرسالنا إياك ، وَوَحْيٌ لا سبيل لك إلى علمه ، بدون إرسالنا .
وإن بينه وبين هذا الحادث لقرونا من الناس - أي أجيالا متطاولة : ( ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ) . فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير ، الذي يوحي إليه بالقرآن الكريم .
ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين ، ومقام موسى - عليه السلام - بها وتلاها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وما كان مقيما في أهل مدين ، يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه : ( ولكنا كنا مرسلين )بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : ( وَلَكِنّا أنْشأنا قُرُون )ا ولكنا خلقنا أمما فأحدثناها من بعد ذلك ( فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ ) . وقوله : ( وَما كُنْتَ ثاوِيا فِي أهْلِ مَدْيَنَ ) يقول : وما كنت مقيما في أهل مدين ، يقال : ثويت بالمكان أثْوِي به ثَواء ، قال أعشي ثعلبة :
أثْوَى وَقَصّرَ لَيْلَهُ لِيُزَوّدا *** فَمَضَى وأخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كُنْتَ ثاوِيا فِي أهْلِ مَدْيَنَ قال : الثاوي : المقيم تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا يقول : تقرأ عليهم كتابنا وَلَكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ يقول : لم تشهد شيئا من ذلك يا محمد ، ولكنا كنا نحن نفعل ذلك ونرسل الرسل .
{ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر }
خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله وكيف يكون استدراكاً وتعقيباً للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته .
فبيانه أن قوله { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول إلى آبائهم الأولين ، كما علمت مما تقدم آنفاً ، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة ، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ القصص : 36 ] فكما كانت رسالة موسى عليه السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى : فكان المشركون حقيقين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قروناً أي أمماً بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } [ ص : 7 ] . وحذف بقية الدليل وهو تقدير : فنسوا ، للإيجاز لظهوره من قوله { فتطاول عليهم العمر } كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه { ونسوا حظاً مما ذكروا به } [ المائدة : 13 ] ، وقال عن النصارى { أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به } [ المائدة : 14 ] وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم { ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } [ الحديد : 16 ] ، فضمير الجمع في قوله { عليهم } عائد إلى المشركين لا إلى القرون .
فتبين أن الاستدراك متصل بقوله { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] وأن ما بين ذلك وبين هذا استطراد . وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب « الكشاف » . ولله دره في استشعاره ، وشكر الله مبلغ جهده . وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكين الآتيين بعده من قوله { ولكنا كنا مرسلين } وقوله { ولكن رحمة من ربك } [ القصص : 46 ] . و { العمر } الأمد كقوله { فقد لبثت فيكم عمراً من قبله } [ يونس : 16 ] .
{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا وَلَكِنَّا كنا مرسلين } .
هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قوله { وما كنت بجانب الغرب } [ القصص : 44 ] أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت في أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك .
وضمير { عليهم } عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدْيَن لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آيات الله على المشركين .
والمراد بالآيات ، الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قوله { ولما توجه تلقاء مدين } إلى قوله { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [ القصص : 22 - 29 ] . وبمثل هذا المعنى قال مقاتل وهو الذي يستقيم به نظم الكلام ، ولو جعل الضمير عائداً إلى أهل مدين لكان أن يقال : تشهد فيهم آياتنا .
وجملة { تتلو عليهم آياتنا } على حسب تفسير مقاتل في موضع الحال من ضمير { كنت } وهي حال مقدرة لاختلاف زمنها مع زمن عاملها كما هو ظاهر . والمعنى : ما كنت مقيماً في أهل مدين كما يقيم المسافرون فإذا قفلوا من أسفارهم أخذوا يحدثون قومهم بما شاهدوا في البلاد الأخرى .
والاستدراك في قوله { ولكنا كنا مرسلين } ظاهر ، أي ما كنت حاضراً في أهل مدين فتعلم خبر موسى عن معاينة ولكنا كنا مرسلينك بوحينا فعلّمناك ما لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا .
وعدل عن أن يقال : ولكنا أوحينا بذلك ، إلى قوله { ولكنا كنا مرسلين } لأن المقصد الأهم هو إثبات وقوع الرسالة من الله للرد على المشركين في قولهم وقول أمثالهم { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ القصص : 36 ] وتعلم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الالتزام مع ما يأتي من قوله { ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً } [ القصص : 46 ] الآية فالاحتجاج والتحدي في هذه الآية والآية التي قبلها تحد بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام من خبر القصة الماضية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.