{ 51 } { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به ، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته ، على وجه الوجوب ، وأنه إن فعل ذلك ، فهو تبرع منه ، ومع ذلك ، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء ، ويقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " .
فقال هنا : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } [ أي : تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك ، ولا تبيت عندها ]{[717]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : تضمها وتبيت عندها .
{ و } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ } أي : أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [ وقال كثير من المفسرين : إن هذا خاص بالواهبات ، له أن يرجي من يشاء ، ويؤوي من يشاء ، أي : إن شاء قبل من وهبت نفسها له ، وإن شاء لم يقبلها ، واللّه أعلم ]{[718]}
ثم بين الحكمة في ذلك فقال : { ذَلِكَ } أي : التوسعة عليك ، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك ، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجبًا ، ولم تفرط في حق لازم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة ، وعند المزاحمة في الحقوق ، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه ، لتطمئن قلوب زوجاتك .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : واسع العلم ، كثير الحلم . ومن علمه ، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم ، وأكثر لأجوركم . ومن حلمه ، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم ، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر .
ثم ترك الخيار له [ صلى الله عليه وسلم ] في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه ، أو يؤجل ذلك . ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء . . وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد . ثم يعود . . ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ) . . فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والرغبات الموجهة إليه ، والحرص على شرف الاتصال به ، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه . ( والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما ) .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر{[35]} ، حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه{[36]} عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أنها كانت تُعَيِّر{[37]} النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، قالت : إني أرَى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك{[38]} .
وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة ، عن هشام بن عُرْوَة ، فدل هذا على أن المراد بقوله : { تُرْجِي } أي : تؤخر { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } أي : من الواهبات [ أنفسهن ]{[39]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : مَنْ شئت قبلتها ، ومَنْ شئت رددتها ، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك ، إن شئت عُدْتَ فيها فآويتها ؛ ولهذا قال : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } . قال عامر الشعبي في قوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم يُنْكحن بعده ، منهن أم شريك .
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : من أزواجك ، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن ، فتقدم من شئت ، وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت ، وتترك من شئت .
هكذا يروى عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رَزين ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، ومع هذا كان ، صلوات الله وسلامه عليه ، يقسم لهن ؛ ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه ، صلوات الله وسلامه عليه ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة .
وقال{[40]} البخاري : حدثنا حبّان بن موسى ، حدثنا عبد الله - هو ابن المبارك - أخبرنا عاصم الأحول ، عن مُعَاذة{[41]} عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، فقلت لها : ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا{[42]} .
فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من{[43]} ذلك عدم وجوب القسم ، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده ، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم . وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، وفيه جمع بين الأحاديث ؛ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : إذا علمن أن الله قد وضع عنك{[44]} الحَرَج في القسم ، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك ، واعترفن بمنتك{[45]} عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن .
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : من الميل إلى بعضهن دون بعض ، مما لا يمكن دفعه ، كما قال{[46]} الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " .
ورواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حماد بن سلمة -{[47]} وزاد أبو داود بعد قوله : فلا تلمني {[48]} فيما تملك ولا أملك : يعني القلب . وإسناده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات . ولهذا عقب ذلك بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } أي : بضمائر السرائر ، { حَلِيمًا } أي : يحلم ويغفر .
القول في تأويل قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلاَ يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقال بعضهم : عنى بقوله : ترجي : تؤخّر ، وبقوله : تؤْوي : تضمّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ يقول : تؤخر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ قال : تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : تردّها إليك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : فجعله الله في حلّ من ذلك أن يدع من يشاء منهنّ ، ويأتي من يشاء منهنّ بغير قسم ، وكان نبيّ الله يقسم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن منصور ، عن أبي رزين تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : لما أشفقن أن يطلقهنّ ، قلن : يا نبيّ الله ، اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت فكان ممن أرجأ منهنّ سودة بنت زمعة ، وجُوَيرية ، وصفية ، وأمّ حبيبة ، وميمونة وكان ممن آوى إليه : عائشة ، وأمّ سلمة ، وحفصة ، وزينب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فما شاء صنع في القسمة بين النساء ، أحل الله له ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير عن منصور ، عن أبي رزين ، في قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وكان ممن آوى عليه الصلاة والسلام : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأمّ سلمة ، فكان قسمه من نفسه لهنّ سويّ قسمه وكان ممن أرجى : سودة ، وجُوَيرية ، وصفية ، وأمّ حبيبة ، وميمونة ، فكان يقسم لهنّ ما شاء ، وكان أراد أن يفارقهنّ ، فقلن : اقسم لنا من نفسك ما شئت ، ودعنا نكون على حالنا .
وقال آخرون : معنى ذلك : تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك ، وتمسك من شئت منهنّ فلا تطلق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ أمها المؤمنين وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ يعني : نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويعني بالإرجاء : يقول : من شئت خليت سبيله منهنّ ، ويعني بالإيواء : يقول : من أحببت : أمسكت منهنّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تترك نكاح من شئت ، وتنكح من شئت من نساء أمتك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن في قوله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوّجها أو يتركها .
وقيل : إن ذلك إنما جعل الله لنبيه حين غار بعضهنّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وطلب بعضهنّ من النفقة زيادة على الذي كان يعطيها ، فأمره الله أن يخيرهنّ بين الدار الدنيا والاَخرة ، وأن يخلي سبيل من اختار الحياة الدنيا وزينتها ، ويمسك من اختار الله ورسوله فلما اخترن الله ورسوله قيل لهنّ : اقررن الاَن على الرضا بالله وبرسوله ، قَسَم لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لم يقسم ، أو قسم لبعضكنّ ، ولم يقسم لبعضكنّ ، وفضل بعضكنّ على بعض في النفقة ، أو لم يفضل ، سوّى بينكنّ ، أو لم يسوّ ، فإن الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس لكم من ذلك شيء . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر مع ما جعل الله له من ذلك ، يسوّي بينهنّ في القَسم ، إلا امرأة منهنّ أراد طلاقها ، فرضيت بترك القسم لها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سيفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، قال : لما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطلق أزواجه ، قلن له : افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت ، فأمره الله فآوى أربعا ، وأرجى خمسا .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبيدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل حتى أنزل الله . تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقلت : إن ربك ليسارع في هواك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، يعني العبدي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : أما تستحيي امرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ، فنزلت ، أو فأنزل الله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فقلت : إني لأرى ربك يُسارع لك في هواك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ . . . الاَية . قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهجرهن شهرا ، ثم نزل التخيير من الله له فيهنّ ، فقرأ حتى بلغ : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى فخيرهنّ بين أن يخترن أن يخلي سبيلهنّ ويسرّحهنّ وبين أن يقمن إن أردن الله ورسوله على أنهنّ أمهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهنّ ممن وهبت نفسها له حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء ، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل فلا جناح عليه ، ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ، ويرضين إذا علمن أنه من قضائي عليهنّ إيثار بعضهنّ على بعض ذلكَ أدْنَى أنْ يرضين ، قال : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممن عزلت : من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهنّ بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهنّ ، فاخترن الله ورسوله ، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت . وكان على ذلك صلوات الله عليه ، وقد شرط الله له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أحلهنّ له من يشاء ، ويُؤوي إليه منهنّ من يشاء ، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كنّ في حباله ، عندما نزلت هذه الاَية دون غيرهنّ ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهنّ . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : تؤخر من تشاء ممن وهبت نفسها لك ، وأحللت لك نكاحها ، فلا تقبلها ولا تنكحها ، أو ممن هنّ في حبالك ، فلا تقربها ، وتضمّ إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك ، أو أردت من النساء التي أحللت لك نكاحهنّ ، فتقبلها أو تنكحها ، وممن هي في حبالك فتجامعها إذا شئت ، وتتركها إذا شئت بغير قَسْم .
وقوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن نكحت من نسائك فجامعت ممن لم تنكح ، فعزلته عن الجماع ، فلا جناح عليك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قال : جميعا هذه في نسائه ، إن شاء أتى من شاء منهنّ ، ولا جناح عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ قال : ومن ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن استبدلت ممن أرجيت ، فخليت سبيله من نسائك ، أو ممن مات منهنّ ممن أحللت لك فلا جناح عليك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بما آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ يعني بذلك : النساء اللاتي أحلّ الله له من بنات العمّ والعمة والخال والخالة واللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ يقول : إن مات من نسائك اللاتي عندك أحد ، أو خليت سبيله ، فقد أحللت لك أن تستبدل من اللاتي أحللت لك مكان من مات من نسائك اللاتي هنّ عندك ، أو خليت سبيله منهنّ ، ولا يصلح لك أن تزداد على عدّة نسائك اللاتي عندك شيئا .
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من قال : معنى ذلك : ومن ابتغيت إصابته من نسائك ممّنْ عَزَلْتَ عن ذلك منهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ لدلالة قوله : ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ على صحة ذلك ، لأنه لا معنى لأن تقرّ أعينهنّ إذا هو صلى الله عليه وسلم استبدل بالميتة أو المطلقة منهنّ ، إلا أن يعني بذلك : ذلك أدنى أن تقرّ أعين المنكوحة منهنّ ، وذلك مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد .
وقوله : ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ يقول : هذا الذي جعلت لك يا محمد من إذني لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتي جعلت لك إرجاءهنّ ، وتؤوي من تشاء منهنّ ، ووضعي عنك الحرج في ابتغائك إصابة من ابتغيت إصابته من نسائك ، وعزلك عن ذلك من عزلت منهنّ ، أقرب لنسائك أن تقرّ أعينهنّ به ولا يَحْزَنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلهنّ من تفضيل من فضلت من قسم ، أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك على غيره من نسائك ، إذا هنّ علمن أنه من رضاي منك بذلك ، وإذني لك به ، وإطلاق مني لا من قِبَلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ إذا علمن أن هذا جاء من الله لرخصة ، كان أطيب لأنفسهنّ ، وأقلّ لحزنهنّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ذلك ، نحوه .
والصواب من القراءة في قوله : بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ الرفع غير جائز غيره عندنا ، وذلك أن كلهنّ ليس بنعت للهاء في قوله آتَيْتَهُنّ ، وإنما معنى الكلام : ويرضين كلهنّ ، فإنما هو توكيد لما في يرضين من ذكر النساء وإذا جعل توكيدا للهاء التي في آتيتهنّ لم يكن له معنى ، والقراءة بنصبه غير جائزة لذلك ، ولإجماع الحجة من القرّاء على تخطئة قارئه كذلك .
وقوله : وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ يقول : والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة يقول : فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وُضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهنّ ، ممن عزلت تفضلاً منه عليك بذلك وتكرمة وكانَ اللّهُ عَلِيما يقول : وكان الله ذا علم بأعمال عباده ، وغير ذلك من الأشياء كلها حَلِيما يقول : ذا حلم على عباده ، أن يعاجل أهل الذنوب منهم بالعقوبة ، ولكنه ذو حلم وأناة عنهم ، ليتوب من تاب منهم ، وينيب من ذنوبه من أناب منهم .
{ ترجى } معناه تؤخر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم{[9547]} «ترجيء » بالهمز ، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «ترجي » بغير همز وهما لغتان بمعنى ، { وتؤوي } معناه تضم وتقرب وقال المبرد هو معدى رجى يرجو تقول : رجى الرجل وأرجيته جعلته ذا رجاء ، ومعنى هذه الآية أن الله فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء ، والضمير في { منهن } عائد على من تقدم ذكره من الأصناف حسب الخلاف المذكور في ذلك ، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني ، منها أن معناه في القسم أن تقرب من شئت في القسمة لها من نفسك ، وتؤخر عنك من شئت ، وتكثر لمن شئت ، وتقل من شئت ، لا حرج عليك في ذلك ، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله تعالى لك وقضاؤه زالت الأنفة والتغاير عنهن ورضين وقرت أعينهن وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك .
قال الفقيه الإمام القاضي : لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايراً وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك ، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات ، وقال أبو رزين وابن عباس المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته وإمساك من شاء ، قال أبو زيد : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له أقسم لنا ما شئت فكان ممن أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة وآوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى في تزويج من شاء من النساء وترك من شاء ، وقالت فرقة المعنى في ضم من شاء من الواهبات وتأخير من شاء .
قال القاضي أبو محمد : وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة له ، قالت عائشة : لما قرأ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك{[9548]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهبت هبة الله في الناسخ والمنسوخ له إلى أن قوله { ترجي من تشاء } الآية ناسخ لقوله { لا يحل لك النساء من بعد } الآية ، وقال ليس في كتاب الله تعالى ناسخ تقدم المنسوخ إلا هذا .
قال الفقيه الإمام القاضي : وكلامه يضعف من جهات{[9547]} .
وقوله عز وجل { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } يحتمل معاني : أحدها أن تكون { من } للتبعيض ، أي من إرادته وطلبته نفسه ممن قد كنت عزلته فلا جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليه بعد عزلته ، ووجه ثان وهو أن يكون مقوياً ومؤكداً لقوله { ترجى من تشاء وتؤوي من تشاء } فيقول بعد { ومن ابتغيت ممن عزلت } فذلك سواء { فلا جناح عليك } في جمعه ، وهذا كما تقول من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك شاكر وأنت تريد من لقيك ومن لم يلقك ، وهذا المعنى يصح أن يكون في معنى القسم ، ويصح أن يكون في الطلاق والإمساك وفي الواهبات ، وبكل واحد قالت فرقة : وقرأ جمهور الناس «ذلك أدنى أن تقر أعينُهن » برفع «الأعين » ، وقرأ ابن محيصن «أن تُقر أعينَهن » بضم التاء ونصب «الأعين » ، وقوله { بما آتيتهن } أي من نفسك ومالك ، وقرأ جمهور الناس «كلُّهن » بالرفع على التأكيد للضمير في { يرضين } ولم يجوز الطبري غير هذا ، وقرأ جويرية بن عابد{[9548]} بالنصب على التأكيد في { آتيتهن } .
قال الفقيه الإمام القاضي : والمعنى أنهن يسلمن لله ولحكمه وكن قبل لا يتسامحن بينهن للغيرة ولا يسلمن للنبي صلى الله عليه وسلم أنفة ، نحا إلى هذا المعنى ابن زيد وقتادة ، وقوله تعالى : { والله يعلم ما في قلوبكم } خبر عام ، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ، وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمنون . وقوله { حليماً } صفة تقتضي صفحاً وتأنيساً في هذا المعنى ، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب ، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل ، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمناً لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،