تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } الذي وقتناه له لإنزال الكتاب { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه ، تشوق إلى رؤية اللّه ، ونزعت نفسه لذلك ، حبا لربه ومودة لرؤيته .

ف { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ } اللَّهِ { لَنْ تَرَانِي } أي : لن تقدر الآن على رؤيتي ، فإن اللّه تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ، ولا يثبتون لرؤية اللّه ، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة ، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وأنه ينشئهم نشأة كاملة ، يقدرون معها على رؤية اللّه تعالى ، ولهذا رتب اللّه الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل ، فقال - مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية - { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } إذا تجلى اللّه له { فَسَوْفَ تَرَانِي } .

{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } الأصم الغليظ { جَعَلَهُ دَكًّا } أي : انهال مثل الرمل ، انزعاجا من رؤية اللّه وعدم ثبوته لها{[327]} { وَخَرَّ مُوسَى } حين رأى ما رأى { صَعِقًا } فتبين له حينئذ أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية اللّه ، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك ، واستغفر ربه لما صدر منه من السؤال ، الذي لم يوافق موضعا و[ لذلك ]{[328]} { قَالَ سُبْحَانَكَ } أي : تنزيها لك ، وتعظيما عما لا يليق بجلالك { تُبْتُ إِلَيْكَ } من جميع الذنوب ، وسوء الأدب معك { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه ، بما كمل اللّه له مما كان يجهله قبل ذلك ، فلما منعه اللّه من رؤيته - بعدما ما كان متشوقا إليها - أعطاه خيرا كثيرا فقال :


[327]:- كذا في ب، وفي أ: وعدم ثبوت.
[328]:- زيادة من هامش ب.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

138

ثم يأتي السياق للمشهد التاسع . المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى - عليه السلام - مشهد الخطاب المباشر بين الجليل - سبحانه - وعبد من عباده . المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة ؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي ، وهو بعد على هذه الأرض . . ولا ندري نحن كيف . . لا ندري كيف كان كلام الله - سبحانه - لعبده موسى . ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله . فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة ؛ وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة . ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء . ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية ، نريد أن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود !

( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك . قال : لن تراني ، ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني . فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، وخر موسى صعقاً . فلما أفاق قال : سبحانك ! تبت إليك وأنا أول المؤمنين . قال : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي . فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين . وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها . سأريكم دار الفاسقين . سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟ )

إننا لفي حاجة إلى استحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله . . في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره ؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه . .

( ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك ) . .

إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه ؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق ! فينسى من هو ، وينسى ما هو ، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض ، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض . . يطلب الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود . . حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة :

( قال : لن تراني ) . .

ثم يترفق به الرب العظيم الجليل ، فيعلمه لماذا لن يراه . . إنه لا يطيق . .

( ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني ) . .

والجبل أمكن وأثبت . والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثراً واستجابة من الكيان البشري . . ومع ذلك فماذا ؟

( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ) . .

فكيف كان هذا التجلي ؟ نحن لا نملك أن نصفه ، ولا نملك أن ندركه . ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله ، حين تشف أرواحنا وتصفو ، وتتجه بكليتها إلى مصدرها . فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئاً . . لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي . . ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره ؛ وليس منها رواية عن المعصوم [ ص ] والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً .

( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ) . .

وقد ساخت نتوءاته فبدا مسًّوى بالأرض مدكوكاً . . وأدركت موسى رهبة الموقف ، وسرت في كيانه البشري الضعيف :

( وخر موسى صعقاً ) .

مغشياً عليه ، غائباً عن وعيه .

( فلما أفاق ) . .

وثاب إلى نفسه ، وأدرك مدى طاقته ، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله :

( قال : سبحانك ! ) . .

تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك .

( تبت إليك ) . .

عن تجاوزي للمدى في سؤالك !

( وأنا أول المؤمنين ) . .

والرسل دائماً هم أول المؤمنين بعظمة ربهم و جلاله ، وبما ينزله عليهم من كلماته . . وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا ، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

يخبر تعالى عن موسى ، عليه السلام ، أنه لما جاء لميقات الله تعالى ، وحصل له التكليم من الله [ تعالى ]{[12097]} سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال : { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي }

وقد أشكل حرف " لن " هاهنا على كثير من العلماء ؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد ، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة . وهذا أضعف الأقوال ؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة ، كما سنوردها عند قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] .

وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ]

وقيل : إنها لنفي التأبيد في الدنيا ، جمعا بين هذه الآية ، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة .

وقيل : إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } وقد تقدم ذلك في الأنعام [ الآية : 103 ] .

وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى ، عليه السلام : " يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده " ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا }

قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن سُهَيْل الواسطي ، حدثنا قُرَّة بن عيسى ، حدثنا الأعمش ، عن رجل ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما تجلى ربه للجبل ، أشار بإصبعه فجعله دكًا " وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة{[12098]}

هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم ، ثم قال{[12099]}

حدثني المثنى ، حدثنا حجَّاج بن مِنْهال ، حدثنا حَمَّاد ، عن لَيْث ، عن أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال : " هكذا بإصبعه - ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل " {[12100]}

هكذا وقع في هذه الرواية " حماد بن سلمة ، عن ليث ، عن أنس " . والمشهور : " حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس " ، كما قال ابن جرير :

حدثني المثنى ، حدثنا هُدْبَة بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال : وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره ، قال : فساخ الجبل - قال حميد لثابت : تقول هذا ؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقوله أنس وأنا أكتمه ؟{[12101]}

وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو المثنى ، معاذ بن معاذ العنبري ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [ جَعَلَهُ دَكًّا ] }{[12102]} قال : قال هكذا - يعني أنه خرج طرف الخنصر - قال أحمد : أرانا معاذ ، فقال له حميد الطويل : ما تريد إلى هذا يا أبا محمد ؟ قال : فضرب صدره ضربة شديدة وقال : من أنت يا حميد ؟ ! وما أنت يا حميد ؟ ! يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقول أنت : ما تريد إليه ؟ !

وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق ، عن معاذ بن معاذ به . وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد [ بن سلمة ]{[12103]} به{[12104]} ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث حماد .

وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق ، عن حماد بن سلمة ، به . وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[12105]} {[12106]}

ورواه أبو محمد الحسن{[12107]} بن محمد الخلال ، عن محمد بن علي بن سُوَيْد ، عن أبي القاسم البغوي ، عن هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، فذكره وقال : هذا إسناد صحيح لا علة فيه .

وقد رواه داود بن المحبر ، عن شعبة ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعًا [ وهذا ليس بشيء ، لأن داود ابن المحبر كذاب ورواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر ]{[12108]} بنحوه{[12109]}

وأسنده ابن مردويه من طريقين ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا{[12110]} بنحوه ، وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيْلِمِاني ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا ، ولا يصح أيضًا .

وقال السُّدِّي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جَعَلَهُ دَكًّا } قال : ترابا { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قال : مغشيًا عليه . رواه ابن جرير .

وقال قتادة : { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قال : ميتًا .

وقال سفيان الثوري : ساخ الجبل في الأرض ، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه{[12111]}

وقال سُنَيْد ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن أبي بكر الهذلي : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } انقعر فدخل تحت الأرض ، فلا يظهر إلى يوم القيامة .

وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض ، فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة ، رواه ابن مردويه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، عن معاوية بن عبد الله ، عن الجلد بن أيوب ، عن معاوية بن قُرَّة ، عن أنس بن مالك ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما تجلى الله للجبال{[12112]} طارت لعظمته ستة أجبل ، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة ، بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى . ووقع بمكة : حراء ، وثَبِير ، وثور " .

وهذا حديث غريب ، بل منكر{[12113]}

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا الهَيْثَم بن خارجة ، حدثنا عثمان بن حُصَين بن عَلاق ، عن عُرْوة بن رُوَيم قال : كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صُمًا مُلْسا ، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك{[12114]} وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف .

وقال الربيع بن أنس : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور ، صار مثل دك من الدكاك . وقال بعضهم : { جَعَلَهُ دَكًّا } أي : فتته .

وقال مجاهد في قوله : { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل ، فخر صعقًا .

وقال عكرمة : { جَعَلَهُ دَكًّا } قال : نظر الله إلى الجبل ، فصار صحراء ترابًا .

وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء ، واختارها ابن جرير ، وقد ورد فيها حديث مرفوع ، رواه بن مردويه .

والمعروف أن " الصَّعْق " هو الغشي هاهنا ، كما فسره ابن عباس وغيره ، لا كما فسره قتادة بالموت ، وإن كان ذلك صحيحًا في اللغة ، كقوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي ، وهي قوله : { فَلَمَّا أَفَاقَ } والإفاقة إنما تكون من{[12115]} غشي .

{ قَالَ سُبْحَانَكَ } تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات .

وقوله : { تُبْتُ إِلَيْكَ } قال مجاهد : أن أسألك الرؤية .

{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس ومجاهد : من بني إسرائيل . واختاره ابن جرير . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أنه لا يراك أحد . وكذا قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون ، ولكن يقول : أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة .

وهذا قول حسن له اتجاه . وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرًا طويلا فيه غرائب وعجائب ، عن محمد بن إسحاق بن يسار [ رحمه الله ]{[12116]} وكأنه تلقاه من الإسرائيليات{[12117]} والله [ تعالى ]{[12118]} أعلم .

وقوله : { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } فيه أبو سعيد وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما حديث أبي سعيد ، فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا ، فقال :

حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه ، فقال : يا محمد ، إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي . قال : " ادعوه " فدعوه ، قال : " لم لطمت وجهه ؟ " قال : يا رسول الله ، إني مررت باليهودي فسمعته يقول : والذي اصطفى موسى على البشر .

قال : قلت : وعلى محمد ؟ فأخذتني غضبة{[12119]} فلطمته ، قال : " لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " .

وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ، ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه ، وأبو داود في كتاب " السنة " من سننه من طرق ، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري ، به{[12120]}

وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده :

حدثنا أبو كامل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : استب رجلان : رجل من المسلمين ، ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمدًا على العالمين . وقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه ، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله فأخبره ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعترف بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني على موسى ؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى ممسكًا بجانب العرش ، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي ، أم كان ممن استثناه الله ، عز وجل " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الزهري ، به{[12121]}

وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا ، رحمه الله : أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه{[12122]} ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار ، وهذا هو أصح وأصرح ، والله أعلم .

والكلام في قوله ، عليه السلام : " لا تخيروني على موسى " ، كالكلام على قوله : " لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى " ، قيل : من باب التواضع . وقيل : قبل أن يعلم بذلك . وقيل : نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب . وقيل : على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي ، والله أعلم .

وقوله : " فإن الناس يصعقون يوم القيامة " ، الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة ، يحصل أمر يصعقون منه ، والله أعلم به . وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ، وتجلى للخلائق الملك الديان ، كما صعق موسى من تجلي الرب ، عز وجل ، ولهذا قال ، عليه السلام : " فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " ؟

وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه " الشفاء " بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق : حدثنا قتادة ، حدثنا الحسن ، عن قتادة ، عن يحيى بن وثاب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما تجلى الله لموسى ، عليه السلام ، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء ، مسيرة عشرة فراسخ " {[12123]} ثم قال : " ولا يبعد على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب ، بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى .

انتهى ما قاله ، وكأنه صحح هذا الحديث ، وفي صحته نظر ، ولا يخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ، ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله ، حتى ينتهي إلى منتهاه ، والله أعلم .


[12097]:زيادة من ك، أ.
[12098]:تفسير الطبري (13/98).
[12099]:في أ: "وقال".
[12100]:تفسير الطبري (13/99).
[12101]:تفسير الطبري (13/99).
[12102]:زيادة من أ.
[12103]:زيادة من أ.
[12104]:المسند (3/125) وسنن الترمذي برقم (3074) ورواه ابن خزيمة في التوحيد برقم (113) من طريق معاذ بن جبل به.
[12105]:في أ: "يخرجه".
[12106]:المستدرك (2/320) ورواه ابن خزيمة في التوحيد برقم (114) وابن الأعرابي في معجمه برقم (405) من طريق عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة به.
[12107]:في أ ك: "أبو محمد بن الحسن".
[12108]:زيادة من أ.
[12109]:ورواه ابن منده في الرد على الجهمية برقم (59) من طريق شعبة به.
[12110]:ورواه ابن عدي في الكامل (1/350) من طريق أيوب بن خوط عن قتادة عن أنس مرفوعا وأيوب بن خوط متروك الحديث.
[12111]:في أ: "بعد".
[12112]:في أ: "للجبل".
[12113]:ورواه ابن الأعرابي في معجمه (166/2) والمحاملي في أماليه (1/172/1) كما في االسلسة الضعيفة للشيخ ناصر الألباني برقم (162) والخطيب االبغدادي في تاريخ بغداد (10/441) كلهم من طريق عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله به.قال الخطيب: "هذا الحديث غريب جدا لم أكتبه إلا بهذا الإسناد" وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/120) وقال: "قال ابن حبان: موضوع، وعبد العزيز متروك يروى المناكير عن المشاهير".
[12114]:في أ: "صارت دكا".
[12115]:في ك، م: "عن".
[12116]:زيادة من أ.
[12117]:انظر: تفسير الطبري (13/91).
[12118]:زيادة من م.
[12119]:في د: "غيظة".
[12120]:صحيح البخاري برقم (4638، 2412، 6917، 3398، 7427، 6518) وصحيح مسلم برقم (2374) وسنن أبي داود برقم (4668).
[12121]:المسند (2/264) وصحيح البخاري برقم (3408، 2411) وصحيح مسلم برقم (2373).
[12122]:قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/443): "وأما كون اللاطم في هذه القصة الصديق فهو مصرح به فيما أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه وابن أبي الدنيا في "كتاب البعث" من طريقه عن عمرو بن دينار، عن عطاء وابن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: كان بين رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين رجل من اليهود كلام في شيء فقال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق".
[12123]:الشفا (1/165).