{ 60 ْ } { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ْ }
أي { وَأَعِدُّوا ْ } لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم . { مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ْ } أي : كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم ، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات ، والبنادق ، والطيارات الجوية ، والمراكب البرية والبحرية ، والحصون والقلاع والخنادق ، وآلات الدفاع ، والرأْي : والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم ، وتَعَلُّم الرَّمْيِ ، والشجاعة والتدبير .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا إن القوة الرَّمْيُ ْ } ومن ذلك : الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال ، ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ْ } وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ، وهي إرهاب الأعداء ، والحكم يدور مع علته .
فإذا كان شيء موجود{[353]} أكثر إرهابا منها ، كالسيارات البرية والهوائية ، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد ، كانت مأمورا بالاستعداد بها ، والسعي لتحصيلها ، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة ، وجب ذلك ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب
وقوله : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْْ } ممن تعلمون أنهم أعداؤكم . ْ{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ } ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به ْ{ اللَّهُ يَعْلَمُهُم }ْ فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم ، ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار .
ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّه } قليلا كان أو كثيرا ْ { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة ، حتى إن النفقة في سبيل اللّه ، تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة . { وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } أي : لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا .
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) .
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ؛ ويخص ( رباط الخيل )لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في " الأرض " لتحرير " الإنسان " . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة : أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ؛ فلا يصدوا عنها ، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني : أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على " دار الإسلام " التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث : أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . والأمر الرابع : أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية ، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيماً للشعائر ، ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ، ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة :
( ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ؛ ولتكون كلمة اللّه هي العليا ، وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله :
( وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) . .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي ؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصا للّه " في سبيل اللّه " لتحقيق كلمة اللّه ، ابتغاء رضوان اللّه .
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
{ وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأعدّوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم الذين بينكم وبينهم عهد ، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ يقول : ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الاَلات التي تكون قوّة لكم عليهم من السلاح والخيل . تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللّهِ وَعَدُوّكُمْ يقول : تخيفون بإعدادكم ذلك عدوّ الله وعدوّكم من المشركين .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو إدريس ، قال : سمعت أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل من جهينة يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ «ألا إنّ الرّمْيَ هُوَ القُوّةُ ، ألاَ إنّ الرّمْيَ هُوَ الْقُوّةُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سعيد بن شرحبيل ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، وعبد الكريم بن الحرث ، عن أبي عليّ الهمدانيّ ، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول : قال الله : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر «قالَ اللّهُ : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ ألا أنّ القُوّةَ الرّمْيُ ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ » ثَلاثا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محبوب وجعفر بن عون ووكيع وأبو أسامة وأبو نعيم ، عن أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ فقال : «ألا إن القُوةَ الرمْيُ ، ألا إن القُوةَ الرمْيُ » ثلاث مرات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل ، عن عقبة بن عامر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية على المنبر ، فذكر نحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن عقبة بن عامر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا أحمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن أخيه محمد بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن عقبة بن عامر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ «ألا إن القُوةَ الرمْيُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن شعبة بن دينار ، عن عكرمة ، في قوله : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ قال : الحصون . وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ قال : الإناث .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن رجاء بن أبي سلمة ، قال : لقي رجل مجاهدا بمكة ، ومع مجاهد جُوالَق ، قال : فقال مجاهد : هذا من القوّة ومجاهد يتجهز للغزو .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ من سلاح .
وأما قوله : تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ فقال ابن وكيع :
حدثنا أبي عن إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : تَرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ قال : تخزون به عدوّ الله وعدوّكم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عثمان ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس : تَرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ قال : تخزون به عدوّ الله وعدوّكم . وكذا كان يقرأ بها ترهبون .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة وخصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : تُرْهِبُونَ بِهِ تخزون به .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
يقال منه : أرهبت العدوّ ورهّبته ، فأنا أُرْهِبُه وأُرَهّبُه إرهابا وترهيبا ، وهو الرّهَبُ والرّهْبُ ، ومنه قول طفيل الغنويّ :
وَيْلُ امّ حَيّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ ***بَنِي كِلابٍ غَدَاةَ الرّعْبِ والرّهَبِ
القول في تأويل قوله تعالى : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ .
اختلف أهل التأويل في هؤلاء الاَخرين من هم وما هم ، فقال بعضهم : هم بنو قريظة . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يعني من بني قريظة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ قال : قريظة .
وقال آخرون : من فارس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ هؤلاء أهل فارس .
وقال آخرون : هم كل عدوّ للمسلمين غير الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم . قالوا : وهم المنافقون . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال : أخفهم بهم لما تصنع بهؤلاء . وقرأ : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ قال : هؤلاء المنافقون لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون لا إله إلا الله ويغزون معكم .
وقال آخرون : هم قوم من الجنّ .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوّه وعدوّهم من المشركين من السلاح والرمي وغير ذلك ورباط الخيل . ولا وجه لأن يقال : عني بالقوّة معنى دون معنى من معاني القوّة ، وقد عمّ الله الأمر بها .
فإن قال قائل : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد بين أن ذلك مراد به الخصوص بقوله : «ألا إن القُوّةَ الرّمْيُ » . قيل له : إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس في الخير ما يدلّ على أنه مراد بها الرمي خاصة دون سائر معاني القوّة عليهم ، فإن الرمي أحد معاني القوّة ، لأنه إنما قيل في الخبر : «ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ » ولم يقل دون غيرها . ومن القوّة أيضا السيف والرمح والحربة ، وكل ما كان معونة على قتال المشركين ، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم ، هذا مع وهي سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ فإن قول من قال : عني به الجنّ ، أقرب وأشبه بالصواب لأنه جلّ ثناؤه قد أدخل بقوله : وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ الأمر بارتباط الخيل لإرهاب كلّ عدوّ لله وللمؤمنين يعلمونهم ، ولا شكّ أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم ، لعلمهم بأنهم مشركون وأنهم لهم حرب ، ولا معنى لأن يقال : وهم يعلمونهم لهم أعداء ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ولكن معنى ذلك : إن شاء الله ترهبون بارتباطكم أيها المؤمنون الخيل عدوّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم لكفرهم بالله ورسوله ، وترهبون بذلك جنسا آخر من غير بني آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم الله يعلمهم دونكم ، لأن بني آدم لا يرونهم . وقيل : إن صهيل الخيل يرهب الجنّ ، وإن الجنّ لا تقرب دارا فيها فرس .
فإن قال قائل : فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون ، فما تنكر أن يكون عني بذلك المنافقون ؟ قيل : فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم ، وإنما كان يروعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرّون من الكفر ، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوّة لإرهاب العدوّ ، فأما من لم يرهبه ذلك فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون ، وقيل : «لا تعلمونهم » ، فاكتفي للعلم بمنصوب واحد في هذا الموضع ، لأنه أريد لا تعرفونهم ، كما قال الشاعر :
فإنّ اللّهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبا ***وأنّا سَوْفَ يَلْقاهُ كِلانا
القول في تأويل قوله تعالى : وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ .
يقول تعالى ذكره : وما أنفقتم أيها المؤمنون من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع أو غير ذلك من النفقات في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا ، ويدّخر لكم أجوركم على ذلك عنده ، حتى يوفيكموها يوم القيامة . وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ يقول : يفعل ذلك بكم ربكم فلا يضيع أجوركم عليه .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ومَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ : أي لا يضيع لكم عند الله أجره في الاَخرة وعاجل خلفه في الدنيا .
عطف جملة : { وأعدوا } على جملة : { فإما تثقفنهم في الحرب } [ الأنفال : 57 ] أو على جملة : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } [ الأنفال : 59 ] ، فتفيد مفاد الاحتراس عن مُفادها ، لأنّ قوله : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } يُفيد توهيناً لشأن المشركين ، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم : لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم ، ويلزم من ذلك الاحتِراسسِ أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعْل اللَّهِ إيّاهم لا يُعجزون اللَّهَ ورسوله ، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها .
والإعداد التهيئة والإحضار ، ودخل في { ما استطعتم } كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة .
والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم ، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها .
والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفاً عند قوله : { إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] وعند قوله تعالى : { فخذها بقوة } وتطلق القوة مجازاً على شدّة تأثير شيء ذي أثر ، وتطلق أيضاً على سبب شدّة التأثير ، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ ، وقوته أيضاً سلاحه وعتاده ، وهو المراد هنا ، فهو مجاز مرسل بواسطتين ، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية ، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا . وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال « ألاَ إنّ القوة الرمي » قالها ثلاثاً ، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي ، أي في ذلك العصر . وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي .
وعطف { رباط الخيل } على { القوة } من عطف الخاصّ على العام ، للاهتمام بذلك الخاصّ .
و { الرباط } صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو ، أي احتباسها وربطها انتظاراً للغزو عليها ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم « من ارتبط فرساً في سبيل الله كان روثُها وبولها حسنات له » الحديث . يقال : ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه ، وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطاً ، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم ، كما وصف ذلك لبيد في قوله :
ولقد حمَيت الحَي تحملُ شِكَّتي *** فُرُطٌ وِشَاحِي إنْ ركبتُ زمامُها
حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافــر *** وأجَنَّ عوراتِ الثغور ظَلامها
أسْهلتُ وانتصبت كجِذْع مُنيفة *** جرداءَ يَحْصَر دونها جُرَّامها
ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري ، وبه سَمَّوا رِباط ( دمياط ) بمصر ، ورباط ( المُنستير ) بتونس ، ورباط ( سَلا ) بالمغرب الأقصى .
وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } في سورة [ آل عمران : 200 ] .
وجملة : ترهبون به عدو الله وعدوكم } إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً ، ناشئاً عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه ، وهو القوة ، وإمّا في موضع الحال من ضمير { وأعدّوا } .
وعدو الله وعدوهم : هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة ، لأنّها أخصر طريق لِتعريفهم ، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم ، ومن ذمّهم ، أن كانوا أعداء ربّهم ، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عُدُّوا أعداءً لهم ، فهم أعداء الله ؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة ، وهم أعداء المسلمين ، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره ، فعطف { وعَدوَّكم } على { عدوَّ الله } من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر ، وهو من شواهد أهل العربية :
إلى الملك القرم وابن الهما *** م ولَيْثِ الكتيبة في المزدحم
والإرهاب جعل الغير راهباً ، أي خائفاً ، فإنّ العدوّ إذَا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه ، ولم يجرأ عليه ، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمناً من أن يغزوهم أعداؤهم ، فيكون الغزو بأيديهم : يَغزون الأعداء متى أرادوا ، وكانَ الحال أوفق لهم ، وأيضاً ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم .
والمراد ب { الآخرين من دونهم } أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال ، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيداً ، ويتربّص بهم الدوائر ، مثل بعض القبائل . فقوله : { لا تعلمونهم } أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام ، وقد علمتموهم الآن إجمالاً ، أو أريد : لا تعلمونهم بالتفصيل ، ولكنّكم تعلمُون وجودهم إجمالاً مثل المنافقين ، فالعلم بمعنى المعرفة ، ولهذا نصب مفعولاً واحداً .
وقوله : { من دونهم } مؤذن بأنّهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين ، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة ، ولذلك ذكر { من دونهم } بمعنى : من جهات أخرى ، لأنّ أصل ( دون ) أنّها للمكان المخالف ، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة ( دون ) لأنّ ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب { آخرين } .
وجملة { اللَّه يعلمهم } تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرَين ، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو تعقُّبهم والإغراءُ بهم ، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنّهم بمحل عناية الله فهو يُحصي أعداءهم وينبّههم إليهم .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي : للتقوّي ، أي تحقيق الخبر وتأكيده ، والمقصود تأكيد لازم معناه ، أمّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد ، وأمّا حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله : { لا تعلمونهم } فلو قيل : ويعلّمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين .
وإذ قد كان إعداد القوَّةِ يستدعي إنفاقاً ، وكانت النفوس شحيحة بالمال ، تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه ، فقال : { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته .
والتوفية : أداء الحقّ كاملاً ، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله ، وجعل على الإنفاق جزاء ، فسمّى جزاءَه توفية على طريقة الاستعارة المكنية ، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجرَ في الدنيا مع أجر الآخرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس .
وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب ، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، للإشارة إلى أنّ الموفَّى هو الثواب . والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله ، كما يقال : وفَّاه دينه ، وإنّما وفّاه مماثلاً لديْنه . وقريب منه قولهم : قَضى صلاة الظهر ، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد : إمّا مجاز عقلي ، أو هو مجاز بالحذف .
والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحقّ ، لأنّ نقص الحقّ ظلم ، وتسمية النقص من الحقّ ظلماً حقيقة . وليس هو كالذي في قوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } [ لكهف : 33 ] .