{ 159 ، 160 } { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم ، أي : شتتوه وتفرقوا فيه ، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية . أو لا يكمل بها إيمانه ، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه ، ويدع مثله ، أو ما هو أولى منه ، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأُمة .
ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف ، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين ، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية .
وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال : { لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي لست منهم وليسوا منك ، لأنهم خالفوك وعاندوك . { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ } يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله [ ص ] ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض - بما فيها ملة المشركين العرب - :
( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء . إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) . .
إنه مفرق الطريق بين الرسول [ ص ] ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل . . سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها ، شيعاً وفرقاً وقبائل وعشائر وبطونا . أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلا ومعسكرات ودولا . أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين .
إن رسول الله [ ص ] ليس من هؤلاء كلهم في شيء . . إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله ؛ ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز . . وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات ؛ ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات . . وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام . . إسلامي . . وشيء آخر . . ! ! ! إن الإسلام إسلام فحسب . والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب . والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب . . ورسول الله [ ص ] ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان !
إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى . وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده - وبالتعبير الآخر : ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده - إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى . . قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام !
إن الدين عند الله الإسلام . . ورسول الله [ ص ] ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام .
وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع . . ورسول الله [ ص ] ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجاً ، وغير شريعة الله شرعا . .
الأمر هكذا جملة . وللنظرة الأولى . بدون دخول في التفصيلات !
وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعا ، وبرئ منهم رسول الله [ ص ] بحكم من الله تعالى . . أمرهم بعد ذلك إلى الله ؛ وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون :
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } .
اختلف القرّاء في قراءة قوله : فَرّقُوا فرُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، ما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، أن عليّا رضي الله عنه ، قرأ : «إنّ الّذِينَ فارَقُوا دينَهُمْ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، قال : قال حمزة الزيات ، قرأها عليّ رضي الله عنه : «فارَقُوا دِينَهُمْ » .
وقال : حدثنا الحسن بن عليّ ، عن سفيان ، عن قتادة : «فارَقُوا دينَهُمْ » .
وكأن عليّا ذهب بقوله : «فارَقُوا دينَهُمْ » خرجوا فارتدّوا عنه من المفارقة . وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود ، كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن رافع ، عن زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها : فَرّقُوا دينَهُمْ .
وعلى هذه القراءة ، أعني قراءة عبد الله ، قرّاء المدينة والبصرة وعامة قرّاء الكوفيين . وكأن عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك أن دين الله واحد ، وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة ، ففرّق ذلك اليهود والنصارى ، فتهوّد قوم ، وتنصّر آخرون ، فجعلوه شيعا متفرّقة .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأتْ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء ، وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه . وذلك أن كلّ ضالّ فلدينه مفارق ، وقد فرّق الأحزاب دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فتهوّد بعض ، وتنصّر آخرون ، وتمجّس بعض ، وذلك هو التفريق بعينه ومصير أهله شيعا متفرّقين غير مجتمعين ، فهم لدين الله الحقّ مفارقون وله مفرّقون فبأيّ ذلك قرأ القارىء فهو للحقّ مصيب ، غير أنّي أختار القراءة بالذي عليه عظم القرّاء ، وذلك تشديد الراء مِن «فرّقوا » .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله إنّ الّذِينَ فَرّقوا دِينَهُمْ فقال بعضهم : عني بذلك اليهود والنصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وكانُوا شِيَعا قال : يهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَرّقُوا دِينَهُمْ قال : هم اليهود والنصارى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيعَا من اليهود والنصارى .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ هؤلاء اليهود والنصارى .
وأما قوله : فَرّقُوا دِينَهُمْ فيقول : تركوا دينهم وكانوا شيعا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد فتفرّقوا ، فلما بعث محمد أنزل الله : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينهمْ وكانُوا شِيعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا يعني : اليهود والنصارى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن شيبان ، عن قتادة : «فارَقُوا دِينَهُمْ » قال : هم اليهود والنصارى .
وقال آخرون : عُني بذلك : أهل البدع من هذه الأمة الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة ، قال : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُم قال : نزلت هذه الاَية في هذه الأمة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا قال : هم أهل الضلالة .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : كتب إليّ عباد بن كثير ، قال : ثني ليث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الاَية : «إن الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وَلَيْسُوا مِنْكَ ، هُمْ أهْل البِدَعِ وأهْلُ الشّبُهاتِ وأهْلُ الضّلالَةِ مِنْ هَذِهِ الأمّة » .
والصواب من القول في ذلكّ عندي أن يقال : إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه برىء ممن فارق دينه الحقّ ، وفرّقه ، وكانوا فرقا فيه وأحزابا شيعا ، وأنه ليس منهم ولاهم منه لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام دين إبراهيم الحنيفية كما قال له ربه وأمره أن يقول : قُلْ إنّنِي هدانِي رَبّي إلى صراطٍ مستقيمٍ دِينا قيمَا مِلّةَ إبرَاهيمَ حَنيفا ومَا كانَ مِنَ المشرِكِينَ فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ ويهوديّ ونصرانيّ ومتحنف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم ، ملة إبراهيم المسلم ، فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد منه بريء ، وهو داخل في عموم قوله : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .
وأما قوله : لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنّمَا أمْرُهُمْ إلى اللّهِ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : نزلت هذه الاَية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وجوب فرض قتالهم ، ثم نسخها الأمر بقتالهم في سورة براءة ، وذلك قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قوله : لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنّمَا أمْرُهُمْ إلى اللّهِ لم يؤمر بقتالهم ، ثم نسخت ، فأمر بقتالهم في سورة براءة .
وقال آخرون : بل نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له أن من أمته من يحدث بعده في دينه وليست بمنسوخة ، لأنها خبر لا أمر ، والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا مالك بن مغول ، عن عليّ بن الأقمر ، عن أبي الأحوص ، أنه تلا هذه الاَية : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ثم يقول : بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم ، عن مالك بن مغول ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا شجاع أبو بدر ، عن عمرو بن قيس الملأ ، قال : قالت أمّ سلمة : ليتق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ثم قرأت : إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قال عمرو بن قيس : قالها مرّة الطيب وتلا هذه الاَية .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قوله : لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إعلام من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء ، ومن الأحزاب من مشركي قومه ومن اليهود والنصارى . وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم ، لأنه غير محال أن في الكلام : لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم ، فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضّل على من شاء منهم ، فيتوب عليه ، ويهلك من أراد إهلاكه مهم كافرا ، فيقبض روحه ، أو يقتله بيدك على كفره ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدمهم عليه . وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم ، وقوله : لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنّمَا أمْرُهُمْ إلى اللّهِ ولم يكن في الاَية دليل واضح على أنها منسوخة ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ ، كان غير جائز أن يقضي عليها بأنها منسوخة حتى تقوم حجة موجبة صحة القول بذلك لما قد بيّنا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة في كتابنا كتاب «اللطيف عن أصول الأحكام » .
وأما قوله : إنمَا أمْرُهُمْ لي اللّهِ فإنه يقول : أنا الذي إليّ أمر هؤلاء المشركين فارقوا دينهم وكانوا شيعا ، والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك ، دونك ودون كل أحد إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها ، وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم . ثُمّ يُنَبّئُهُمْ بما كَانُوا يَفْعَلُونَ يقول : ثم أخبرهم في الاَخرة عند ورودهم عليّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون فأجازي كلاّ منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون ، المحسن منهم بالإحسان والمسيء بالإساءة . ثم أخبر جلّ ثناؤه ما مبلغ جزائه مَن جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة ، فقال : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ فَلا يُجْزَي إلاّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .
قال ابن عباس والصحابة وقتادة : المراد اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم الحنيفية ، وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه ، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد ، فهو دين جميع الناس بهذا الوجه ووصفهم «بالشيع » إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات ، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة الاختلاف ، وقال أبو الأحوص{[5170]} وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة محمد ، أي فرقوا دين الإسلام ، وقرأ علي بن أبي طالب وحمزة والكسائي «فارقوا » ومعناه تركوا ، ثم بيّن قوله { وكانوا شيعاً } أنهم فرقوه أيضاً ، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد ما يتشايعون عليه ، وقوله { لست منهم في شيء } أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق ، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع ، لأنهم لهم حظ من تفريق الدين ، وقوله { إنما أمرهم إلى الله } إلى آخر الآية وعيد محض ، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله فيه وعيد ، كما أن القرينة في قوله { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }{[5171]} تعطي أن في ذلك الأمر رجاء كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير ، وقرأ النخعي والأعمش وأبو صالح «فرَقوا » بتخفيف الراء وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمراً بموادعة فيشبه أن يقال إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر .
استئناف جاء عقب الوعيد كالنّتيجة والفذلكة ، لأنّ الله لما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { قل انتظروا إنا منتظرون } [ الأنعام : 158 ] أعقب ذلك بأنّ الفريقين متباينان مُتجافيان في مدّة الانتظار .
وجيء بالموصوليّة لتعريف المسند إليه لإفادة تحقّق معنى الصّلة فيهم ، لأنَّها تناسب التّنفير من الاتّصال بهم ، لأنّ شأن الدّين أن يكون عقيدة واحدة وأعمالاً واحدة ، والتّفرّق في أصوله ينافي وحدته ، ولذلك لم يزل علماء الإسلام يبْذلون وسعهم لاستنباط مراد الله من الأمّة ، ويعلمون أنّ الحقّ واحدٌ وأنّ الله كلّف العلماء بإصابته وجعل للمصيب أجرين ولمن أخطأه مع استفراغ الوسع أجراً واحداً ، وذلك أجر على بذل الوسع في طلبه فإنّ بذل الوسع في ذلك يوشك أن يُبلِّغ المقصود . فالمراد ب { الذين فرّقوا دينهم } قال ابن عبّاس : هم المشركون ، لأنَّهم لم يَتّفقوا على صورة واحدة في الدين ، فقد عبدت القبائل أصناماً مختلفة ، وكان بعض العرب يعبدون الملائكة ، وبعضهم يعبد الشّمس ، وبعضهم يعبد القمر ، وكانوا يجعلون لكلّ صنم عبادة تخالف عبادة غيره .
ويجوز أن يراد : أنَّهم كانوا على الحنيفيّة ، وهي دين التّوحيد لجميعهم ، ففرّقوا وجعلوا آلهة عباداتها مختلفة الصّور . وأمّا كونهم كانوا شيعاً فلأنّ كلّ قبيلة كانت تنتصر لصنمها ، وتزعم أنّه ينصرهم على عُبَّاد غيره كما قال ضِرار بن الخطّاب الفهري :
وفَرّت ثقيفٌ إلى لاتها *** بمنقلَب الخائب الخاسر
ومعنى : { لست منهم في شيء } أنّك لا صلة بينك وبينهم . فحرف ( مِن ) اتّصالية . وأصلها ( من ) الابتدائيّة .
و { شيء } اسم جنس بمعنى موجود فنفيه يفيد نفي جميع ما يوجد من الاتّصال ، وتقدّم عند قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } في سورة آل عمران ( 28 ) ، وقوله : { لستم على شيء } في سورة المائدة ( 68 ) .
ولمّا دلّت على التبرّي منهم وعدم مخالطتهم ، كان الكلام مثار سؤال سائل يقول : أعلى الرّسول أن يتولّى جَزاءهم على سُوء عملهم ، فلذلك جاء الاستئناف بقوله : { إنما أمرهم إلى الله } فهو استئناف بياني ، وصيغة القصر لقلب اعتقاد السائل المتردّد ، أي إنَّما أمرهم إلى الله لا إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره ، وهذا إنذار شديد ، والمراد بأمرهم : عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة . و ( إلى ) مستعمل في الانتهاء المجازي : شبّه أمرهم بالضالّة التي تركها النّاس فسارت حتّى انتهت إلى مراحها ، فإنّ الخلق كلّهم عبيد الله وإليه يرجعون ، والله يمهلهم ثمّ يأخذهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين حين يأذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم كما قال تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربَّنا اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون إنَّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [ الدخان : 10 ، 16 ] . والبطشة الكبرى هي بطشة يوم بدر .
وقوله : { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } ( ثمّ ) فيه للتّرتيب الرُّتبي مع إفادة المهلة ، أي يبقى أمرهم إلى الله مدّة . وذلك هو الإمهال والإملاء لهم ، ثمّ يعاقبهم ، فأطلق الإنباء على العقاب ، لأنَّه إن كان العقاب عقاب الآخرة فهو يتقدّمه الحساب ، وفيه إنباء الجاني بجنايته وبأنَّه مأخوذ بها ، فإطلاق الإنباء عليه حقيقة مراد معها لازمه على وجه الكناية ، وإن كان العقاب عقاب الدّنيا فإطلاق الإنباء عليه مجاز ، لأنّه إذا نزل بهم العذاب بعد الوعيد عَلموا أنَّه العقاب الموعود به ، فكَانَ حصول ذلك العلم لهم عند وقوعه شَبيهاً بحصول العلم الحاصل عن الإخبار فأطلق عليه الإنباء ، فيكون قوله : { ينبئهم } بمعنى يعاقبهم بما كانوا يفعلون .
ووصف المشركين بأنَّهم فَرّقوا دينهم وكانوا شيعاً : يؤذن بأنَّه وصف شنيع ، إذ ما وصفهم الله به إلاّ في سياق الذم ، فيؤذن ذلك بأنّ الله يحذّر المسلمين من أن يكونوا في دينهم كما كان المشركون في دينهم ، ولذلك قال تعالى : { شَرَع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك } إلى قوله { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] .
وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها ، كما فعل بعض العرب من منعهم الزّكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة . وأمّا تفريق الآراء في التّعليلات والتَّبيينات فلا بأس به ، وهو من النّظر في الدّين : مثل الاختلاف في أدلّة الصّفات ، وفي تحقيق معانيها ، مع الاتّفاق على إثباتها . وكذلك تفريق الفُروع : كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء ، مع الإتّفاق على صفة العمل وعلى ما به صحة الأعمال وفسادها . كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب . والحاصلُ أنّ كلّ تفريق لا يُكفِّر به بعض الفرق بعضاً ، ولا يفضي إلى تقاتل وفتن ، فهو تفريق نظر واستدلال وتطلّب للحقّ بقدر الطّاقة وكلّ تفريق يفضي بأصحابه إلى تكفير بعضهم بعضاً ، ومقاتلة بعضهم بعضاً في أمر الدّين ، فهو ممّا حذّر الله منه ، وأمّا ما كان بين المسلمين نزاعاً على المُلك والدّنيا فليس تفريقاً في الدّين ، ولكنّه من الأحوال التي لا تسلم منها الجماعات .
وقرأه الجمهور : { فَرّقوا } بتشديد الراء وقرأه حمزة ، والكسائي : { فَارَقوا } بألف بعد الفاء أي تركوا دينهم ، أي تركوا ما كان ديناً لهم ، أي لجميع العرب ، وهو الحنيفية فنبذوها وجعلوها عدّة نحل . ومآل القراءتين واحد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القرّاء في قراءة قوله:"فَرّقُوا" فرُوي...أن عليّا رضي الله عنه، قرأ: «إنّ الّذِينَ فارَقُوا دينَهُمْ»... وكأن عليّا ذهب بقوله: «فارَقُوا دينَهُمْ» خرجوا فارتدّوا عنه من المفارقة. وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود...: "فَرّقُوا دينَهُمْ".
وعلى هذه القراءة، أعني قراءة عبد الله، قرّاء المدينة والبصرة وعامة قرّاء الكوفيين. وكأن عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك أن دين الله واحد، وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة، ففرّق ذلك اليهود والنصارى، فتهوّد قوم، وتنصّر آخرون، فجعلوه شيعا متفرّقة.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، قد قرأتْ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء، وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه؛ وذلك أن كلّ ضالّ فلدينه مفارق، وقد فرّق الأحزاب دين الله الذي ارتضاه لعباده، فتهوّد بعض، وتنصّر آخرون، وتمجّس بعض، وذلك هو التفريق بعينه ومصير أهله شيعا متفرّقين غير مجتمعين، فهم لدين الله الحقّ مفارقون وله مفرّقون فبأيّ ذلك قرأ القارئ فهو للحقّ مصيب، غير أنّي أختار القراءة بالذي عليه عظم القرّاء، وذلك تشديد الراء مِن «فرّقوا».
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله "إنّ الّذِينَ فَرّقوا دِينَهُمْ"؛ فقال بعضهم: عني بذلك اليهود والنصارى...
وقال آخرون: عُني بذلك: أهل البدع من هذه الأمة الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه...
والصواب من القول في ذلكّ عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحقّ، وفرّقه، وكانوا فرقا فيه وأحزابا شيعا، وأنه ليس منهم ولاهم منه لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام دين إبراهيم الحنيفية كما قال له ربه وأمره أن يقول: "قُلْ إنّنِي هدانِي رَبّي إلى صراطٍ مستقيمٍ دِينا قيمَا مِلّةَ إبرَاهيمَ حَنيفا ومَا كانَ مِنَ المشرِكِينَ "فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ ويهوديّ ونصرانيّ ومتحنف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم، ملة إبراهيم المسلم، فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد منه بريء، وهو داخل في عموم قوله: "إنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ".
وأما قوله: "لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنّمَا أمْرُهُمْ إلى اللّهِ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
فقال بعضهم: نزلت هذه الآية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وجوب فرض قتالهم، ثم نسخها الأمر بقتالهم في سورة براءة، وذلك قوله: "فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ"...
وقال آخرون: بل نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له أن من أمته من يحدث بعده في دينه وليست بمنسوخة، لأنها خبر لا أمر، والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوله: "لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ" إعلام من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء، ومن الأحزاب من مشركي قومه ومن اليهود والنصارى. وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم، لأنه غير محال أن في الكلام: لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم، فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضّل على من شاء منهم، فيتوب عليه، ويهلك من أراد إهلاكه مهم كافرا، فيقبض روحه، أو يقتله بيدك على كفره، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدمهم عليه. وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم، وقوله: "لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنّمَا أمْرُهُمْ إلى اللّهِ" ولم يكن في الآية دليل واضح على أنها منسوخة ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ، كان غير جائز أن يقضي عليها بأنها منسوخة حتى تقوم حجة موجبة صحة القول بذلك لما قد بيّنا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة في كتابنا كتاب «اللطيف عن أصول الأحكام».
وأما قوله: "إنمَا أمْرُهُمْ إلى اللّهِ" فإنه يقول: أنا الذي إليّ أمر هؤلاء المشركين فارقوا دينهم وكانوا شيعا، والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك، دونك ودون كل أحد إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها، وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم. "ثُمّ يُنَبّئُهُمْ بما كَانُوا يَفْعَلُونَ" يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم عليّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون فأجازي كلاّ منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون، المحسن منهم بالإحسان والمسيء بالإساءة...
قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}. المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة، وليس كذلك بعضهم مع بعض لأنهم يجتمعون في معنى من الباطل وإن افترقوا في غيره، فليس منهم في شيء لأنه بريء من جميعه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى... وقيل: فرّقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض...
{وَكَانُواْ شِيَعاً}: فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شيء} أي من السؤال عنهم وعن تفرّقهم، وقيل: من عقابهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال ابن عباس والصحابة وقتادة: المراد اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم الحنيفية، وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد، فهو دين جميع الناس بهذا الوجه، ووصفهم «بالشيع» إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة الاختلاف، وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة محمد، أي فرقوا دين الإسلام... والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد ما يتشايعون عليه، وقوله {لست منهم في شيء} أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع، لأنهم لهم حظ من تفريق الدين، وقوله {إنما أمرهم إلى الله} إلى آخر الآية وعيد محض، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله فيه وعيد، كما أن القرينة في قوله {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} تعطي أن في ذلك الأمر رجاء كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير...
القول الأول: المراد سائر الملل. قال ابن عباس: يريد المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله، وبعضهم يعبدون الأصنام، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهذا معنى فرقوا دينهم وكانوا شيعا، أي فرقا وأحزابا في الضلالة. وقال مجاهد وقتادة: هم اليهود والنصارى، وذلك لأن النصارى تفرقوا فرقا، وكفر بعضهم بعضا، وكذلك اليهود، وهم أهل كتاب واحد، واليهود تكفر النصارى.
والقول الثاني: أن المراد من الآية أخذوا ببعض وتركوا بعضا، كما قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} وقال أيضا: {أن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض}.
والقول الثالث: قال مجاهد: إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة، هم أهل البدع والشبهات واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع وقوله: {لست منهم في شيء} فيه قولان: الأول: أنت منهم بريء وهم منك برآء وتأويله: إنك بعيد عن أقوالهم ومذاهبهم، والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم ولا يتعداهم. والثاني: لست من قتالهم في شيء. قال السدي: يقولون لم يؤمر بقتالهم، فلما أمر بقتالهم نسخ، وهذا بعيد، لأن المعنى لست من قتالهم في هذا الوقت في شيء، فورد الأمر بالقتال في وقت آخر لا يوجب النسخ.
ثم قال: {إنما أمرهم إلى الله} أي فيما يتصل بالإمهال والإنظار، والاستئصال والإهلاك {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} والمراد الوعيد.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه {وَكَانُوا شِيَعًا} أي: فرقًا كأهل الملل والنحل -وهي الأهواء والضلالات- فالله قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه. وهذه الآية كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ]} 1792 الآية [الشورى: 13]، وفي الحديث:"نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ديننا واحد". فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل، من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، الرسل بُرآء منها، كما قال: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} قد كانت خاتمة ما وصى الله تعالى به هذه الأمة على لسان خاتم رسله آنفا الأمر باتباع صراطه المستقيم والنهي عن اتباع غيره من السبل وقد ذكر بعد تلك الوصايا شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن، ووصاياه بما علم به أن هذه أكمل لأن الأشياء إنما تكمل بخواتيمها، وقفى على ذلك بالمقارنة بين أهل الكتاب والعرب أئمة أهل القرآن مذكرا إياهم باعتقادهم أنهم أقوى من أهل الكتاب استعدادا للهداية، محتجا عليهم بذلك عسى أن يثوب المستعدون للإيمان إلى رشادهم ويفكر المعاندون في عاقبة عنادهم، وتلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر في آخر الزمان لكل من الأمم والأفراد ولما تمت بذلك الحجة ووضحت المحجة. ذكر تعالى جده وجل ثناؤه هذه الأمة بما هي عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء به بمثل ما أضاعه به من قبلهم وهو الاختلاف والتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلهم أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب من المذاهب أو إمام فيضيع العلم وتنفصم عروة الوحدة وتصير الأمة الواحدة بعد أخوة الإيمان أمما متعادية ليس لها مرجع متفق عليه يجمع كلمتها فيحل بها ما حل بالأمم التي تفرقت قبلها، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} قرأ الجمهور فرقوا دينهم من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشيء الواحد وجعله فرقا وأبعاضا. وقرأ حمزة والكسائي (فارقوا) من المفارقة للشيء وهي تركه والانفصال منه، وهذه القراءة رويت عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته لأنه واحد لا يتجزأ. فمن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل والكفر بالبعض كالكفر بالجميع مفارقة للدين الذي لا يتجزأ {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} (البقرة 85) الآية. ومثله الإيمان ببعض الرسل دون بعض، على أن المفارقة قد تكون للجماعة التي تقيم الدين لا لأصل الدين بجحوده والكفر به أو تأويله وترك هدايته. وسيأتي تفصيل القول في ذلك.
ذهب بعض مفسري السلف إلى أن الآية نزلت في أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى فجعلوه أديانا مختلفة وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة يتعادون ويتقاتلون فيه. وذهب آخرون إلى أنها في أهل البدع والفرق الإسلامية التي مزقت وحدة الإسلام ما استحدثت من النحل والمذاهب. وكل من القولين حق. والصواب هو الجمع بينهما فإن الله تعالى بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة وأبطل شبهات الشرك ذكر أهل الكتاب وشرعهم. وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم. وقد فصل هذا بقوله بعد الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق من سورة آل عمران: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} (آل عمران 105) ثم بين أن رسوله بريء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما فعل أهل الكتاب فهو يحذر ما صنعوا فمن اتبع سننهم في هذا التفريق فهو أحق ببراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منه بعد هذا البيان والتحذير.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما بعث محمد أنزل الله عليه {إن الذين فرقوا دينهم} الآية. وأخرج أكثر رواة التفسير المأثور عن أبي هريرة في قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم} قال هم في هذه الأمة. بل أخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة". وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة، أنا منهم بريء وهم مني برءاء "وليس المعنى أنهم إذا عرفوا بدعتهم وظهر لهم خطأهم فرجعوا وتابوا إلى ربهم لا يقبل توبتهم بل معناه أنهم لا يتوبون لأنهم يزعمون أنهم مصيبون ا ه ملخصا من الدر المنثور.
وثم آثار رويت عن بعض السلف بأنهم الحرورية أو الخوارج مطلقا، ومراد قائليها أنهم منهم لا أن الآية فيهم وحدهم...
وجملة القول في تفسير الجملة: إن المراد بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أهل الكتاب والمراد بجعل الرسول صلى الله عليه وسلم بريئا منهم تحذير أمته من مثل فعلهم ليعلم أن من فعل فعلهم من هذه الأمة فالرسول صلى الله عليه وسلم بريء منهم بالأولى لا كما يزعم بعض الجاهلين المضلين من أن ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم خاص بهم فإذا تلبس به المسلمون لا يكون حكمهم فيه كحكم من قبلهم كأن الله تبارك وتعالى أباح للمسلمين الشرك والكفر والنفاق والبدع والضلالات، وضمن لهم جنته ورضوانه بمجرد انتسابهم إلى الإسلام أو إلى مذهب زيد أو عمرو من علماء الكلام، وهذا هدم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة المهتدين بهما من خير القرون.
ثم بين تعالى عاقبة هؤلاء المفرقين لدينهم بقوله.
{إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي أنه عز وجل هو الذي يتولى وحده أمر جزائهم على مفارقة دينهم والتفريق له في الدنيا بما مضت به سنته في الاجتماع البشري من ضعف المتفرقين، وفشل المتنازعين، وتسلط الأقوياء عليهم ولبسهم شيعا يذيق بعضهم بأس بعض، بما تثيره عداوة التفرق بينهم من التقاتل والحروب كما بينه تعالى في آيات أخرى كقوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا} (البقرة 253) إلخ وقوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} (المائدة 15) وقوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} (الأنعام 35) إلخ وبعد تعذيبهم بأيديهم وأيدي أعدائهم في الدنيا يبعثهم في الآخرة ثم ينبئهم عند الحساب بما كانوا يفعلون في الدنيا من الاختلاف والتفرق بتفريق الدين أو مفارقته اتباعا للأهواء وما يستلزم ذلك ويجازيهم عليه في النار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض -بما فيها ملة المشركين العرب -: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء. إنما أمرهم إلى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون).. إنه مفرق الطريق بين الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل.. سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها، شيعاً وفرقاً وقبائل وعشائر وبطونا. أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلا ومعسكرات ودولا. أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من هؤلاء كلهم في شيء.. إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله؛ ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز.. وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات؛ ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات.. وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام.. إسلامي.. وشيء آخر..!!! إن الإسلام إسلام فحسب. والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب. والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان! إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى. وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده- وبالتعبير الآخر: ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده -إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى.. قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام! إن الدين عند الله الإسلام.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام. وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجاً، وغير شريعة الله شرعا.. الأمر هكذا جملة. وللنظرة الأولى. بدون دخول في التفصيلات! وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعا، وبرئ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم من الله تعالى.. أمرهم بعد ذلك إلى الله؛ وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون: (إنما أمرهم إلى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)...
هذه الآية تشرح الآية التي سبقت خواطرنا عنها، وهي قوله الحق: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [سورة الأنعام].
والذين فرقوا دينهم نسوا أن الدين إنما جاء ليجمع لا ليفرق، والدين جاء ليوحد مصدر الأمر والنهي في الأفعال الأساسية فلا يحدث بيننا وبين بعضنا أي خلاف، بل الخلاف يكون في المباحات فقط؛ إن فعلتها فأهلا وسهلا، وإن لم تفعلها فأهلا وسهلا، وما لم يرد فيه افعل ولا تفعل؛ فهو مباح.
إذن الذين يفرقون في الدين إنما يناقضون منهج السماء الذي جاء ليجمع الناس على شيء واحد؛ لتتساند حركات الحياة في الناس ولا تتعاند، وإذا كان لك هوى، وهذا هوى، وذلك هوى فسوف تتعاند الطاقات، والمطلوب والمفروض أن الطاقات تتساند وتتعاضد.
والشيع هم الجماعة التي تتبع أمرا، هذا الأمر يجمعهم ولو كان ضلالا.
وهناك تشيع لمعنى نافع وخير، وهناك تشييع لعكس ذلك، والتشيع على إطلاقه هو أن تجتمع جماعة على أمر، سواء أكان هذا الأمر خيرا أم شر.
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.. (159)} [سورة الأنعام]: إذن هم بعيدون عن منهجك يا محمد، ولا يصح أن ينسبوا إلى دينك؛ لأن الإسلام جاء لإثبات القيم للوجود مثل الماء لإثبات حياة الوجود. ونعرف أن الماء لا يأخذ لونا ولا طعما ولا رائحة، فإن أخذ لونا أو طعما أو رائحة فهو يفقد قيمته كماء صاف. وكذلك الإسلام إن أخذ لونا، وصار المسلمون طوائف؛ فهذا أمر يضر الدين، وعلينا أن نعلم أن الإسلام لون واحد. {.. إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159)} [سورة الأنعام]. إن شاء سبحانه عاجلهم بالهزيمة أو بالعذاب، وإن شاء آجلهم إلى يوم القيامة.