{ 1 - 28 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ }
إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه ، وتكرار دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك ، فأخبر تعالى أنه أرسله{[1237]} إلى قومه ، رحمة بهم ، وإنذارا لهم من عذاب الله الأليم ، خوفا من استمرارهم على كفرهم ، فيهلكهم الله هلاكا أبديا ، ويعذبهم عذابا سرمديا .
سورة نوح مكية وآياتها ثمان وعشرون
هذه السورة كلها تقص قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض ؛ وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية ، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل .
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة ، الضالة ، الذاهبة وراء القيادات المضللة ، المستكبرة عن الحق ، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق ، المرقومة في كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون .
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني ، وعنايته بأن يهتدي . تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى .
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني ، والعناء المرهق ، والصبر الجميل ، والإصرار الكريم من جانب الرسل - صلوات الله عليهم - لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة . وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية ، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان ! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون ، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم !
هذه الصورة التي يعرضها نوح - عليه السلام - على ربه ، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاما قضاها في هذا الجهد المضني ، والعناء المرهق ، مع قومه المعاندين ، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة . وهو يقول :
رب . إني دعوت قومي ليلا ونهارا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وأصروا واستكبروا استكبارا . ثم إني دعوتهم جهارا . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا . فقلت : استغفروا ربكم ، إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمدكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا . مالكم لا ترجون لله وقارا ? وقد خلقكم أطوارا ? ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ? وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ? والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا . والله جعل لكم الأرض بساطا ، لتسلكوا منها سبلا فجاجا . . !
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر :
( رب إنهم عصوني ، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا . ومكروا مكرا كبارا . وقالوا لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا . وقد أضلوا كثيرا . . . ) . .
وهي حصيلة مريرة . ولكن الرسالة هي الرسالة !
هذه التجربة المريرة تعرض على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة الله في الأرض كلها في آخر الزمان ، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول . . يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل ، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض . ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق ؛ وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة . ثم إرادة الله في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام .
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة ، وعلى الأمة المسلمة بعامة ، وهي الوارثة لدعوة الله في الأرض ، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة ، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك ، وفي وسط كل جاهلية تالية . . ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني . كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة ، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين .
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين ؛ ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولا رحيما بهم ، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل ؛ وذلك لما قدره الله من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين . فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح ، بعدما استنفد كل الوسائل ، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم :
( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) . .
( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) . .
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها ، وتأصل جذورها . كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره ، وأحداث الحقيقة الواقعة وفق قدر الله . وذلك من خلال دعوة نوح لقومه : ( قال : يا قوم إني لكم نذير مبين . أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون ) . . وفي حكاية قوله لهم : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ? ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ? وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ? والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ، والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا . .
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم ، وحقيقة نسبهم العريق ! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية . وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها . وهي منهج الله القويم القديم .
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب ، كما تغمره الروعة والخشوع ، وهو يستعرض - بهذه المناسبة - ذلك الجهد الموصول من الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - لهداية البشرية الضالة المعاندة . ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة .
وقد يعن للإنسان أن يسأل : ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل ، وتلك التضحيات النبيلة ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام ?
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن ، وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول ، لم يكتف قومه فيه بالإعراض ، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام . وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى ، والأدب الجميل والبيان المنير .
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ . من رسل يستهزأ بهم ، أو يحرقون بالنار ، أو ينشرون بالمنشار ، أو يهجرون الأهل والديار . . حتى تجيء الرسالة الأخيرة ، فيجهد فيها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ذلك الجهد المشهود المعروف ، هو والمؤمنون معه . ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل ? ?
ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود ، وكل هذه التضحيات ، وكل هذا الجهاد المرير الشاق ? ثم . . ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله ، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار ، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان ? !
والجواب بعد التدبر : أن نعم . . وبلا جدال . . !
إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد ، وكل هذا الصبر ، وكل هذه المشقة ، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل !
ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته ؛ بل أكبر من الأرض وما عليها ؛ بل أكبر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى !
وقد شاءت إرادة الله أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة ، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولا إلى الجهد الإنساني ذاته ، بعون الله وتوفيقه . ولسنا نعلم لم خلق الله هذا الكائن بهذه الخصائص . ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته ؛ ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة ، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس .
لسنا نعلم سر هذا . ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص !
وإذن فلا بد من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان . هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل . وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون . اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض ، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة ، وتضحيات شاقة نبيلة .
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور الله ؛ وأن يكون مستودعا لسر من أسراره ؛ وأن يكون أداة من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود . . وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب . . وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه ، ومن كل هذا الكون الكبير !
كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر - أو جماعة منهم - معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية ، وارتفاعها إلى المستوى الذي يؤهلها لهذا الإتصال . معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق . . . وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أوبعض يوم في عمر البشرية الطويل ، لأن تحققها - ولو في هذه الصورة - يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية ، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال !
ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها . وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة . وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض ، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة ، بل كانت حلما أكبر من الخيال ، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس .
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام ، إلى المستوى الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم . . وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل ، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى ، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة .
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند الله ؛ هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر : لا علم ، ولا فلسفة ، ولا فن ، ولا نظام من النظم . وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله ؛ بل انحدرت قيمها وموازينها وانسانيتها ، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية ، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين ، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي ، وأسباب السعادة المادية بجملتها . ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا . ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية ، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة ، ولم تشعر بكرامة " النفس الإنسانية " قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة . والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة .
وهذا كله يستحق - بدون تردد - كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية ، ومن تضحيات نبيلة ، لإقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض . وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور الله ، وتتصل بروح الله . وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج الله للحياة . وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم ، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوى الرفيع ، الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ .
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام . وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال . وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب ، وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال . كما ألقت إبراهيم في النار ، ونشرت غيره بالمنشار ، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ .
ولكن الدعوة إلى الله لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد الله . لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة ، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور الله ، ويتصل بروح الله !
إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه أزكى السلام - لينبئ عن استقرار إرادة الله على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة ، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة . وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها . وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون منجواذبها ، ويتحررون من ربقتها . وهذا وحده كسب كبير ، أكبر من الجهد المرير . كسب للدعاة . وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم . وتستحق أن يسجد الله الملائكة لهذا الكائن ، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء . ولكنه يتهيأ - بجهده هو ومحاولته وتضحيته - لاستقبال قبس من نور الله . كما يتهيأ لأن ينهض - وهو الضعيف العاجز - بتحقيق قدر الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في الحياة . ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة ، ويتحمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة ، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين ، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع . وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق ، يهون الجهد ، وتهون المشقة ، وتهون التضحية ، ويتوارى هذا كله ، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان الله . . .
والآن نستعرض قصة نوح في هذه السورة ، وما تمثله من حقيقة تلك الحقيقة !
( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه : أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم . قال : يا قوم : إني لكم نذير مبين : أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون ) . .
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده : ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) . . فهذا هو المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف ، كما يتلقون حقيقة العقيدة . وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله ، وصدرت منه الحياة . وهو الله الذي خلق البشر وأودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده ، فلما انحرفوا عنها وزاغوا أرسل إليهم رسله ، يردونهم إليه . ونوح - عليه السلام - كان أول هؤلاء الرسل - بعد آدم عليه السلام . وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه إلى هذه الأرض ، وممارسته لهذه الحياة ؛ لعله كان معلما لأبنائه وحفدته حتى إذا طال عليهم الأمد بعد وفاته ضلوا عن عبادة الله الواحد ، واتخذوا لهم أصناما آلهة . اتخذوها في أول الأمر أنصابا ترمز إلى قوى قدسوها . قوى غيبية أو مشهودة . ثم نسوا الرمز وعبدوا الأصنام ! وأشهرها تلك الخمسة التي سيرد ذكرها في السورة . فأرسل الله إليهم نوحا يردهم إلى التوحيد ، ويصحح لهم تصورهم عن الله وعن الحياة والوجود . والكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس - عليه السلام - سابقا لنوح . ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم ، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب .
والذي يتجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن ، أن نوحا كان في فجر البشرية ؛ وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاما في دعوته لقومه ، ولا بد أنهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة . . أن طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأن البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية . وذلك قياسا على ما نراه من سنة الله في الأحياء من طول العمر إذا قل العدد ، كأن ذلك للتعويض والتعادل . . والله أعلم بذلك . . إنما هي نظرة في سنة الله وقياس !
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة وتوكيده ، ثم تذكر فحوى رسالة نوح في اختصار وهي الإنذار : ( أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ) . .
والحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا إليها ، من إعراض واستكبار وعناد وضلال - كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية لربه - تجعل الإنذار هو أنسب ما تلخص به رسالته ، وأول ما يفتتح به الدعوة لقومه ، الإنذار بعذاب أليم ، في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَقَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَنِ اعبُدُواْ اللّهَ وَاتّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى إِنّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنّا أرْسَلْنا نُوحا وهو نوح بن لمَكَ إلى قَوْمِهِ أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أنْ يأْتِيَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : أرسلناه إليهم بأن أنذر قومك فأن في موضع نصب في قول بعض أهل العربية ، وفي موضع خفض في قول بعضهم . وقد بيّنت العِلل لكلّ فريق منهم ، والصواب عندنا من القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر : «إنَا أرْسَلْنا نُوحا إلى قَوْمِهِ أنْذِرْ قَوْمَكَ » بغير «أن » ، وجاز ذلك لأن الإرسال بمعنى القول ، فكأنه قيل : قلنا لنوح : أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم وذلك العذاب الأليم هو الطوفان الذي غرّقهم الله به .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة نوح وهي مكية بإجماع من المتأولين قال أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح . {[1]}
«نوح » عليه السلام هو نوح بن لامك{[11344]} ، وقد مر ذكره وذكر عمره صلى الله عليه وسلم ، وصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفته وسكون الوسط من حروفه ، وقوله : { أن أنذر قومك } يحتمل أن تكون { أن } : مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون التقدير «بأن أنذر قومك » وهي على هذا في موضع نصب عند قوم من النحاة ، وفي موضع خفض عند آخرين ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «إلى قومه أنذر قومك » دون { أن } ، والعذاب الذي توعدوا به : يحتمل أن يكون عذاب الدنيا وهو الأظهر والأليق بما يأتي بعد ، ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة .