تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }

يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم ، المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها ، فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر .

وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا ، ويوافق بعضها بعضًا . فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا يمكن صدقها .

وفي قوله : { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم ، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم ، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } وهذا جزاء من جنس ما عملوا ، كما تركوا الحق ، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق ، فجعلوا الباطل حقا والحق باطلا ، جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق ، وردها على أدبارها ، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } بأن يطردهم من رحمته ، ويعاقبهم بجعلهم قردة ، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } كقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

44

بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب - اليهود - دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم ؛ وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم . ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخاص ، الذي عليه دينهم ، والله لا يغفر أن يشرك به . . وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة ؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود :

( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . . وكان أمر الله مفعولا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيمًا ) . .

إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين ؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين :

( يا أيها الذين أوتوا الكتاب ، آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ) . .

فهم أوتوا الكتاب ، فليس غريبا عليهم هذا الهدى . والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم . فليس غريبا عليهم كذلك . وهو مصدق لما معهم . .

ولو كان الإيمان بالبينة . أو بالأسباب الظاهرة . لآمنت يهود أول من آمن . ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح . وكانت لها أحقاد وعناد . وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة . . كما تعبر عنهم التوراة بأنهم :

" شعب صلب الرقبة ! " . ومن ثم لم تؤمن . ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي :

( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . وكان أمر الله مفعولا ) . . وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها ؛ وردها على أدبارها ، دفعها لأن تمشي القهقرى . . وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي ؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم ؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت [ وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت ، وهو محرم عليهم في شريعتهم ] هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير . . كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم ، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم ، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب . والكفر بعد الإيمان ، والهدى بعد الضلال ، طمس للوجوه والبصائر ، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد .

وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك . فهو التهديد الرعيب العنيف ؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة ؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة !

وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد : كعب الأحبار فأسلم :

أخرج ابن أبى حاتم : حدثنا أبى . حدثنا ابن نفيل . حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن جليس ، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني ، قال : كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب . وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله [ ص ] قال : فبعثه إليه ينظر : أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة . فإذا تال يقرأ القرآن يقول : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . . . ) فبادرت الماء فاغتسلت ، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ! ثم أسلمت .

والتعقيب على هذا التهديد :

كان أمر الله مفعولًا . .

فيه توكيد للتهديد ، يناسب كذلك طبيعة اليهود !