تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } الذي وقتناه له لإنزال الكتاب { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه ، تشوق إلى رؤية اللّه ، ونزعت نفسه لذلك ، حبا لربه ومودة لرؤيته .

ف { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ } اللَّهِ { لَنْ تَرَانِي } أي : لن تقدر الآن على رؤيتي ، فإن اللّه تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ، ولا يثبتون لرؤية اللّه ، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة ، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وأنه ينشئهم نشأة كاملة ، يقدرون معها على رؤية اللّه تعالى ، ولهذا رتب اللّه الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل ، فقال - مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية - { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } إذا تجلى اللّه له { فَسَوْفَ تَرَانِي } .

{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } الأصم الغليظ { جَعَلَهُ دَكًّا } أي : انهال مثل الرمل ، انزعاجا من رؤية اللّه وعدم ثبوته لها{[327]} { وَخَرَّ مُوسَى } حين رأى ما رأى { صَعِقًا } فتبين له حينئذ أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية اللّه ، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك ، واستغفر ربه لما صدر منه من السؤال ، الذي لم يوافق موضعا و[ لذلك ]{[328]} { قَالَ سُبْحَانَكَ } أي : تنزيها لك ، وتعظيما عما لا يليق بجلالك { تُبْتُ إِلَيْكَ } من جميع الذنوب ، وسوء الأدب معك { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه ، بما كمل اللّه له مما كان يجهله قبل ذلك ، فلما منعه اللّه من رؤيته - بعدما ما كان متشوقا إليها - أعطاه خيرا كثيرا فقال :


[327]:- كذا في ب، وفي أ: وعدم ثبوت.
[328]:- زيادة من هامش ب.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا جَآءَ مُوسَىَ لِمِيقَاتِنَا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قَالَ رَبّ أَرِنِيَ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّىَ رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرّ موسَىَ صَعِقاً فَلَمّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُؤْمِنِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه ، وكلّمه ربه وناجاه ، قال موسى لربه : أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ قال الله له مجيبا : لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ .

وكان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه ، ما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : إن موسى عليه السلام لما كلّمه ربه أحبّ أن ينظر إليه ، قالَ رَبّ أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ فإنِ اسْتَقَرّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي . فحفّ حول الجبل ، وحفّ حول الملائكة بنار ، وحفّ حول النار بملائكة ، وحفّ حول الملائكة بنار ، ثم تجلى ربه للجبل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : وَقَرّبْناهُ نَجِيّا قال : ثني من لقي أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرّبه الربّ حتى سمع صريف القلم ، فقال عند ذلك من الشوق إليه : رَبّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرَنِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ .

حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر الهذليّ ، قال : لما تخلف موسى عليه السلام بعد الثلاثين ، حتى سمع كلام الله اشتاق إلى النظر إليه ، فقال : رَبّ أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرَانِي وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا ، من نظر إليّ مات . قال : إلهي سمعت منطقك واشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحبّ إليّ من أن أعيش ولا أراك قال : فانظر إلى الجبل ، فإن استقرّ مكانه فسوف تراني .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ قال : أعطني .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : استخلف موسى هارون على بني إسرائيل ، وقال : إني متعجل إلى ربي ، فاخلفني في قومي ، ولا تتبع سبيل المفسدين فخرج موسى إلى ربه متعجلاً للقيّه شوقا إليه ، وأقام هارون في بني إسرائيل ، ومعه السامريّ يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به . فلما كلم الله موسى ، طمع في رؤيته ، فسأل ربه أن ينظر إليه ، فقال الله لموسى : إنّكَ لَنْ تَرَانِي ولكن انْظر إلى الجَبَلِ فإنِ اسْتَقَرّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَرانِي . . . الاَية : قال ابن إسحاق : فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر موسى لما طلب النظر إلى ربه . وأهل الكتاب يزعمون وأهل التوراة ، أن قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله ، والله أعلم . قال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأوّل بأحاديث أهل الكتاب : إنهم يجدون في تفسير ما عندهم من خبر موسى حين طلب ذلك إلى ربه أنه كان من كلامه إياه حين طمع في رؤيته ، وطلب ذلك منه ، وردّ عليه ربه منه ما ردّ ، أن موسى كان تطهّر وطهّر ثيابه وصام للقاء ربه فلما أتى طور سينا ، ودنا الله له في الغمام فكلمه ، سبحه وحمده وكبره وقدّسه ، مع تضرّع وبكاء حزين ، ثم أخذ في مدحته ، فقال : ربّ ما أعظمك وأعظم شأنك كله ، من عظمتك أنه لم يكن شيء من قبلك ، فأنت الواحد القهار ، كان عرشك تحت عظمتك نار توقد لك ، وجعلت سرادق من دونه سرادق من نور ، فما أعظمك ربّ ، وأعظم ملكك ، جعلت بينك وبين ملائكتك مسيرة خمسمائة عام ، فما أعظمك ربّ وأعظم ملكك في سلطانك ، فإذا أردت شيئا تقضيه في جنودك الذين في السماء ، أو الذين في الأرض ، وجنودك الذين في البحر ، بعثت الريح من عندك لا يراها شيء من خلقك إلاّ أنت إن شئت ، فدخلت في جوف من شئت من أنبيائك ، فبلغوا لما أردت من عبادك ، وليس أحد من ملائكتك يستطيع شيئا من عظمتك ، ولا من عرشك ، ولا يسمع صوتك ، فقد أنعمت عليّ ، وأعظمت عليّ في الفضل ، وأحسنت إليّ كلّ الإحسان ، عظمتني في أمم الأرض ، وعظمتني عند ملائكتك ، وأسمعتني صوتك ، وبذلت لي كلامك ، وآتيتني حكمتك ، فإن أعدّ نعماك لا أحصيها ، وإن أردت شكرك لا أستطيعها . دعوتك ربّ على فرعون بالاَيات العظام ، والعقوبة الشديدة ، فضربت بعصاي التي في يدي البحر ، فانفلق لي ولمن معي ، ودعوتك حين جزت البحر ، فأغرقت عدوّك وعدوّي ، وسألتك الماء لي ولأمتي ، فضربت بعصاي التي في يدي الحجر ، فمنه أرويتني وأمتي ، وسألتك لأمتي طعاما لم يأكله أحد كان قبلهم ، فأمرتني أن أدعوك من قِبَل المشرق ، ومن قِبَل المغرب . فناديتك من شرقي أمتي ، فأعطيتهم المنّ من مشرقي لنفسي ، وآتيتهم السلوى من غربيهم من قِبَل البحر ، واشتكيت الحرّ فناديتك ، فظللت عليهم بالغمام ، فما أطيق نعماك عليّ أن أعدّها ولا أحصيها ، وإن أردت شكرها لا أستطيعها . فجئتك اليوم راغبا طالبا سائلاً متضرّعا ، لتعطيني ما منعت غيري ، أطلب إليك وأسألك يا ذا العظمة والعزّة والسلطان أن تريني أنظر إليك ، فإني قد أحببت أن أرى وجهك الذي لم يره شيء من خلقك . قال له ربّ العزّة : فلا ترى يا ابن عمران ما تقول ؟ تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق ، لا يراني أحد فيحيا ، أليس في السموات معمري ، فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي ، وليس في الأرض معمري ، فإنها قد ضعفت أن تسع بجندي ، فلست في مكان واحد فأتجلى لعين تنظر إليّ . قال موسى : يا ربّ أن أراك وأموت ، أحبّ إليّ من أن لا أراك ولا أحيا ، قال له ربّ العزّة : يا ابن عمران تكلّمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق ، لا يراني أحد فيحيا . قال : ربّ تمم عليّ نعماك ، وتمم عليّ فضلك ، وتمم عليّ إحسانك هذا الذي سألتك ليس لي أن أراك فأقبض ، ولكن أحبّ أن أراك فيطمئن قلبي . قال له : يا ابن عمران لن يراني أحد فيحيا . قال : موسى ربّ تمم عليّ نعماك وفضلك ، وتمم عليّ إحسانك هذا الذي سألتك ليس لي أن أراك فأموت على أثر ذلك أحبّ إليّ من الحياة ، فقال الرحمن المترحم على خلقه : قد طلبت يا موسى ، وأعطيتك سؤلك إن استطعت أن تنظر إليّ ، فاذهب فاتخذ لوحين ، ثم انظر إلى الحجر الأكبر في رأس الجبل ، فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلاّ مجلسك يا ابن عمران ، ثم انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير . ففعل موسى كما أمره ربه ، نحت لوحين ثم صعد بهما إلى الجبل ، فجلس على الحجر : فلما استوى عليه ، أمر الله جنوده الذين في السماء الدنيا ، فقال : ضعي أكنافك حول الجبل ، فسمعت ما قال الربّ ففعلت أمره ، ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي موسى أربعة فراسخ من كل ناحية ، ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمرّوا بموسى ، فاعترضوا عليه ، فمروا به طيران النعَر تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، فقال موسى بن عمران عليه السلام : ربّ إني كنت عن هذا غنيا ، ما ترى عيناي شيئا قد ذهب بصرهما من شعاع النور المتصفف على ملائكة ربي . ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فهبطوا أمثال الأسْد ، لهم لَجَبٌ بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى ومما سمع ، فاقشعرّت كلّ شعرة في رأسه وجلده ، ثم قال : ندمت على مسئلتي إياك ، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه ، فأقبلوا أمثال النسور لهم قصْف ورجف ولجب شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كلجب الجيش العظيم أو كلهب النار ، ففزع موسى ، وأيست نفسه ، وأساء ظنه ، وأيس من الحياة ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : مكانك يا ابن عمران ، حتى ترى ما لا تصير عليه ؟ ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترِضوا على موسى بن عمران . فأقبلوا وهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مرّوا به قبلهم ، ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض ، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس ، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مرّوا به قبلهم . فاصطكت ركبتاه ، وأرعد قلبه ، واشتدّ بكاؤه ، فقال خير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترِضوا على موسى ، فهبطوا عليه سبعة ألوان ، فلم يستطع موسى أن يتبعهم طرفه ، ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم ، وامتلأ جوفه خوفا ، واشتدّ حزنه ، وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني موسى بن عمران واعترِضوا عليه . فهبطوا عليه في يد كلّ ملك مثل النخلة الطويلة نارا أشدّ ضوءا من الشمس ، ولباسهم كلهب النار ، إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات كلهم ، يقولون بشدة أصواتهم : سبوح قدّوس ربّ العزّة أبدا لا يموت ، في رأس كلّ ملك منهم أربعة أوجه . فلما رآهم موسى رفع صوته يسبّح معهم حين سبحوا ، وهو يبكي ويقول : ربّ اذكرني ، ولا تنس عبدك لا أدري أنقلب مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت أحرقت ، وإن مكثت متّ . فقال له كبير الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلىء جوفك ، وينخلع قلبك ، ويشتدّ بكاؤك فاصبر للذي جلست لتنظر إليه يا ابن عمران وكان جبل موسى جبلاً عظيما ، فأمر الله أن يحمل عرشه ، ثم قال : مرّوا بي على عبدي ليراني ، فقليل من كثير ما رأى فانفرج الجبل من عظمة الربّ ، وغشي ضوء عرش الرحمن جبل موسى ، ورفعت ملائكة السموات أصواتها جميعا ، فارتجّ الجبل فاندكّ ، وكلّ شجرة كانت فيه ، وخرّ العبد الضعيف موسى بن عمران صعقا على وجهه ليس معه روحه ، فأرسل الله الحياة برحمته ، فتغشاه برحمته وقلب الحجر الذي كان عليه وجعله كالمعدة ، كهيئة القبة لئلا يحترق موسى ، فأقامه الروح مثل الأم أقامت جنينها حين يصرع ، قال : فقام موسى يسبح الله ويقول : آمنت أنك ربي ، وصدّقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك ربّ وأعظم ملائكتك ، أنت ربّ الأرباب وإله الاَلهة وملك الملوك ، تأمر الجنود الذين عندك فيطيعونك ، وتأمر السماء وما فيها فتطيعك ، لا تستنكف من ذلك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، ربّ تبت إليك ، الحمد لله الذي لا شريك له ، ما أعظمك وأجلك ربّ العالمين

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرّ مِوسَى صَعِقا .

يقول تعالى ذكره : فما اطلع الربّ للجبل جعل الله الجبل دكّا : أي مستويا بالأرض . وخَرّ مُوسَى صَعِقا أي مغشيّا عليه .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثني الحسين بن محمد بن عمرو العنقزي ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله : فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر . جَعَلَهُ دَكّا قال : ترابا . وَخَرّ مُوسَى صَعِقا قال : مغشيّا عليه .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : زعم السديّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : تجلى منه مثل الخنصر ، فجعل الجبل دكّا ، وخرّ موسى صعقا ، فلم يزل صعقا ما شاء الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَخَرّ مُوسَى صَعِقا قال : مغشيّا عليه .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا قال : انقعر بعضه على بعض . وَخَرّ مُوسَى صَعِقا : أي ميتا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَخَرّ مُوسَى صَعِقا : أي ميتا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : دَكّا قال : دكّ بَعْضُه بعضا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا قال : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر ، فهو يذهب معه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، عن الحجاج ، عن أبي بكر الهذليّ : فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا : انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة .

حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي ، قال : حدثنا قرة بن عيسى ، قال : حدثنا الأعمش ، عن رجل ، عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «لَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ أشارَ بأُصْبُعَيْهِ فَجَعَلَهُ دَكّا » . وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبّابة .

حدثني المثنى ، قال : ثني الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية : فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا قال : «هكذا » بأصبعه ووضع النبيّ صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، «فسَاخَ الجَبَلُ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا هدبة بن خالد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا قال : وضع الإبهام قريبا من طرف خنصره ، قال : «فَساخَ الجَبَلُ » فقال حميد لثابت : تقول هذا ؟ قال : فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرّ مُوسَى صَعِقا وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكات .

حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : وَلمّا جاءَ مُوسَى لِميقاتِنا وكَلّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبّ أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ فإن اسْتَقَرّ مَكانَهُ فإنه أكبر منك وأشد خلقا . فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل يندّك على أوّله فلما رأى موسى ما يصنع الجبل خرّ صعقا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : دَكّا . فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة : دَكّا مقصورا بالتنوين ، بمعنى : دك الله الجبل دكّا أي فَتّتَه ، واعتبارا بقول الله : كَلاّ إذَا دُكّتِ الأرْضِ دَكّا دَكّا ، وقوله : وحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبالُ فَدُكّتا دَكّةً وَاحِدَةً . واستشهد بعضهم على ذلك بقول حميد :

يَدُكّ أرْكانَ الجِبالِ هَزَمُهْ ***تَخْطِرُ بالبِيضِ الرّقاقُ بُهَمُهْ

وقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : «جَعَلَهُ دَكّاءَ » بالمدّ وترك الجرّ والتنوين ، مثل حمراء وسوداء . وكان ممن يقرؤه كذلك عكرمة ، ويقول فيه ما :

حدثني به أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عباد بن عباد ، عن يزيد بن حازم ، عن عكرمة ، قال : دكّاء من الدكّاوات . وقال : لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صخره ترابا .

واختلف أهل العربية في معناه إذا قرىء كذلك . فقال بعض نحويي البصرة : العرب تقول : ناقة دكاء : ليس لها سنام ، وقال : الجبل مذكر ، فلا يشبه أن يكون منه إلا أن يكون جعله مثل دكاء حذف مثل وأجراه مجرى : واسألِ القَرْيَةِ . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : معنى ذلك : جعل الجبل أرضا دكّاء ، ثم حذفت الأرض وأقيمت الدكاء مقامها إذ أدّت عنها .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأ : «جعله دكاء » بالمدّ ، وترك الجرّ لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحته وذلك أنه رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «فَساخَ الجَبَلُ » ولم يقل : فتفتّت ، ولا تحوّل ترابا . ولا شكّ أنه إذا ساخ فذهب ظهر وجه الأرض ، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها ، وصارت دكاء بلا سنام . وأما إذا دكّ بعضه فإنما يكسر بعضه بعضا ويتفتّت ولا يسوخ . وأما الدكاء فإنها خَلَفٌ من الأرض ، فلذلك أُنثت على ما قد بينت . فمعنى الكلام إذن : فلما تجلى ربه للجبل ساخ ، فجعل مكانه أرضا دكاء .

وقد بيّنا معنى الصعِق بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمّا أفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ .

يقول تعالى ذكره : فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته ، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى صلى الله عليه وسلم ، قال : سُبْحانَكَ تنزيها لك يا ربّ وتبرئة أن يراك أحد في الدنيا ثم يعيش . تُبْتُ إلَيْكَ من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية . وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ بك من قومي أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ قال : كان قبله مؤمنون ، ولكن يقول : أنا أوّل من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما رأى موسى ذلك وأفاق ، عرف أنه قد سأل أمرا لا ينبغي له ، فقال : سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ قال أبو العالية : عنى أنى أوّل من آمن بك أنه لن يراك أحد قبل يوم القيامة .

حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : قال سفيان : قال أبو سعد ، عن عكرمة عن ابن عباس : وَخَرّ مُوسَى صَعِقا فمرّت به الملائكة وقد صعق ، فقالت : يا ابن النساء الحيض لقد سألت ربك أمرا عظيما . فلما أفاق قال : سبحانك لا إله إلا أنت ، تبت إليك ، وأنا أوّل المؤمنين قال : أنا أوّل من آمن أنه لا يراك أحد من خلقك ، يعني في الدنيا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ يقول : أنا أوّل من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ قال : من مسألتي الرؤية .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ أن أسألك الرؤية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن عيسى بن ميمون ، عن رجل ، عن مجاهد : سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ أن أسألك الرؤية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عيسى بن ميمون ، عن مجاهد ، في قوله : سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ قال : تبت إليك من أن أسألك الرؤية .

وقال آخرون : معناه قوله : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ بك من بني إسرائيل . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ قال : أوّل من آمن بك من بني إسرائيل .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ يعني : أوّل المؤمنين من بني إسرائيل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ أنا أوّل قومي إيمانا .

حدثنا ابن وكيع والمثنى ، قالا : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن عيسى بن ميمون ، عن رجل ، عن مجاهد : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ يقول : أوّل قومي إيمانا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ قال : أنا أوّل قومي إيمانا .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ قال : أوّل قومي آمن .

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله : وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ على قول من قال : معناه : أنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء ، منهم ولد إسرائيل لصلبه ، وكانوا مؤمنين وأنبياء ، فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

جُعل مجيءُ موسى في الوقت المعين أمراً حاصلاً غير محتاج للإخبار عنه ، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك ، وجُعل تكليمُ الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضاً حاصلاً غير محتاج للإخبار عن حلوله ، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام ، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير مُمكنة ، فليس يحصل من شؤون المواعدة إلاّ الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته ، فلذلك كله جُعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطاً لحرف ( لمّا ) لأنه كالمعلوم ، وجعل الإخبار متعلقاً بما بعد ذلك ، وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله ، فكان الكلام ضرباً من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين اسغناء عنهما بأنهما جعلتا شرطاً للمّا .

ويجوز أن تجعل الواو في قوله : { وَكلّمه ربه } زائدة في جواب { لمّا } كما قاله الأكثر في قول امرىء القيس :

فلمّا أجَزْنَا ساحةَ الحي وانتحى *** بنا بطْنُ خبت ذي حقاف عقنقل

أن جواب { لَما } هو قوله وانتحى ، وجوزوه في قوله تعالى : { فلمّا أسلما وتَلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم } [ الصافات : 103 ، 104 ] الآية ، أن يكون { وناديناه } هو جواب ( لَما ) فيصير التقدير : لما جاء موسى لميقاتنا كَلّمه ربه ، فيكون إيجازاً بحذف جملة واحدة ، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلاّ من لازم المواعدة .

واللام في قوله : { لميقاتنا } صنفٌ من لام الاختصاص ، كما سماها في « الكشاف » ومثلها بقولهم : أتيته لعشر خلَون من الشهر ، يعني أنه اختصاص مّا ، وجعلها ابن هشام بمعنى عند ، وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر ، والمعنى : فلما جاء موسى مجيئاً خاصاً بالميقات أي : حاصلاً عنده لا تأخير فيه ، كقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال : " الصلاة لوقتها " أي عند وقتها ومنه { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] .

ويجوز جعل اللام للأجل والعلة ، أي جاء لأجل ميقاتنا ، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة ، أي جاء لأجل مناجاتنا .

والمجيء : انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعيّن فيه مكانُ المناجاة .

والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معانيَ بحسب وضع مصطلح عليه ، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لأنها من أعراض الحوادث ، فتعين أن يكون إسناد التكليم إلى الله مجازاً مستعملاً في الدلالة على مُراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطَب به بكيفية يوقن المخاطَب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وَفْق الإرادة ووَفْقِ العلم ، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد ، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى كما رُوي أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها ، وذلك أولُ كلام كلّمه الله موسى في أرض مَدين في جبل ( حوريب ) ، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خِلال السحاب وذلك الكلام الواقع في طُور سينا ، وهو المراد هنا ، وهو المذكور في الإصحاح 19 من سفر الخروج .

والكلام بهذه الكيفية كان يسمعه موسى حين يكون بعيداً عن الناس في المناجاة أو نحوها ، وهو أحد الأحوال الثلاثة التي يكلم الله بها أنبياءه كما في قوله تعالى : { وما كان لِبَشَرٍ أن يكلمه الله إلاّ وحيا } الآية في سورة الشورى ( 51 ) ، وهو حادث لا محالة ونسبته إلى الله أنه صادر بكيفية غير معتادة لا تكون إلاّ بإرادة الله أن يخالف به المعتاد تشريفاً له ، وهو المعبر عنه بقوله : { أوْ منْ وراء حجاب } [ الشورى : 51 ] ، وقد كلم الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، وأحسب الأحاديث القدسية كلها أو معظمها مما كلم الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأما إرسال الله جبريل بكلام إلى أحد أنبيائه ، فهي كيفية أخرى ، وذلك بإلقاء الكلام في نفس المَلَك الذي يبلغه إلى النبي ، والقرآنُ كله من هذا النوع ، وقد كان الوحي إلى موسى بواسطة الملَك في أحوال كثيرة وهو الذي يعبر عنه في التوراة بقولها : قال الله لموسى .

وقوله : { قال رب أرني } هو جواب { لَمّا } على الأظهر ، فإنْ قدرنا الواو في قوله : { وكلمهُ } زائدة في جواب لما كان قوله : { قال } واقعاً في طريق المحاورة فلذلك فُصل .

وسؤالُ موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي ، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة . وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث ، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم ، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة ، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعْلُ جملة { وكلمه ربه } شرطاً لحرف ( لمّا ) لأن ( لمّا ) تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها ، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما } في هذه السورة ( 22 ) ، هذا على جعل { وكَلمه } عطفاً على شرط لمّا ، وليسَ جوابَ لما ، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى ، وهي مثل الرؤية الموعود بها في الآخرة ، فكان موسى يحسب أن مثلِها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا ، ولا يمتنع على نبي عدمُ العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يُعلمها الله إياه ، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وقُل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] ، ولذلك كان أيمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلاهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم : « بلا كيف » .

وكانَ المعتزلةُ غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة .

وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ ، فإن الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحَيز ، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله تعالى ، وأما ما تبجح به الزمخشري في « الكشاف » فذلك من عُدوان تعصبه على مخالفيه على عادته ، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازلُ لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به ، ولكنه قال فأوْجَب .

وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلبٌ على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤالَ الذي سأله بنوا اسرائيل المحكي في سورة البقرة ( 55 ) بقوله : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } وما تمحل به في « الكشاف » من أنه هو ذلك السؤال تكلفٌ لا داعي له .

ومفعول { أرني } محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله : { إليك } .

وفصل قوله : { قالَ لنْ تراني } لأنه واقع في طريق المحاورة .

و { لَن } يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل ، وهما متقاربان ، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد ، فنفت ( لن ) رؤية موسى ربّه نفياً لا طمع بعده للسائِل في الإلحاح والمراجعة بحيث يَعلم أن طلبته متعذرة الحصول ، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة .

والاستدراك المستفاد من { لكن } لرفع توهم المخاطَب الاقتصارَ على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع ، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائِل ومنقصة فيه ، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيُرفع ، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه ، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيءٌ من شأن الجلال الإلهي ، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم ، فيعلم موسى أنه أحرى بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سُبُحات الله تعالى .

وعلق الشرط بحرف ( إنْ ) لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعَذره ، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوماً لله انتفاؤه ، صح تعليق الأمر المرادِ تعذُر وقوعُه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء ، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجَة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى ، خلافاً لما اعتاد كثيرٌ من علمائنا من الاحتجاج بذلك .

وقوله : { فسوف تراني } ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سُبق قوله : { لن تراني } أزال طماعية السائل الرؤية ، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظرِه إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجزَ القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى ، من عدم ثبات قوة الجبل ، فصارت قوة الكلام : أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني ، لأنك لا تستطيع ذلك ، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف ( لو ) بدلالة قرينة السابِق .

والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب ، وهو هنا مجاز ، ولعله أريد به إزالة الحوائِل المعتادة التي جعلها الله حجاباً بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقاديرَ مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيباً يعلمه الله .

وتقريبُه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة ، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثاراً لقدرته بدون واسطة ، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيراً خارقاً للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالاً تظهرُ له آثار مناسبة لنوع تلك القوة ، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسندُ إلى الله تعالى تقريباً للإفهام ، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تُماثل اتصال الرؤية اندّك الجبل ، ومما يقرب هذا المعنى ، ما رواه الترمذي وغيره ، من طرق عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى : { فلما تجلى ربه } فوضع إبهامه قريباً من طرف خنصره يُقلل مقدار التجلي .

وصَعِق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فُضاضاً .

وقرأ الجمهور { دكّاً } بالتنوين والدك مصدر وهو والدق مترادفان ، وهو الهدّ وتفرق الأجزاء كقوله { وتَخِر الجبال هدّاً } [ مريم : 90 ] ، وقد أخبر عن الجبل بأنه جعل دَكاً للمبالغة ، والمراد أنه مدكوك أي : مدقوق مهدوم . وقرأ الكسائي ، وحمزة ، وخلف { دَكّاء } بمد بعد الكاف وتشديد الكاف والدكاء الناقة التي لا سنام لها ، فهو تشبيه بليغ أي كالدكاء أي ذهبت قُنته ، والظاهر أن ذلك الذي اندك منه لم يرجع ولعل آثار ذلك الدك ظاهرة فيه إلى الآن .

والخرور السقوط على الأرض .

والصعق : وصف بمعنى المصعوق ، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها ، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق ، فإذا أصابت جسماً أحرقته ، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته ، أو من بعيد غُشي عليه من رائحتها ، وسُمي خويلدُ بن نُفيْل الصِعقَ عَلماً عليه بالغلبة ، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقاً من الصعق ؛ لأن أيمة اللغة قالوا : إن الصعْق الغشيُ من صيحة ونحوها ، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجَة ، وإن لم يكن ذلك من الصاعقة .

والإفاقة : رجوع الإدراك بعد زواله بغشْي ، أو نوم ، أو سُكر ، أو تخبط جنون .

و { سبحانك } مصدر جاء عوضاً عن فعله أي أسبحك ، وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به ، لمناسبة سؤاله منه مَا تبين له أنه لا يليق به سؤالهُ دون استيذانه وتحقققِ إمكانه كما قال تعالى لنوح : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } في سورة هود ( 46 ) .

وقوله : { تبت إليك } إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله ، وهذا كقول نوح عليه السلام : { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود : 47 ] وصيغة الماضي من قوله : { تُبت } مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعْتُ وزَوّجْتُ . مبالغة في تحقق العقد .

وقوله : { وأنا أول المؤمنين } أطلق { الأول } على المُبادر إلى الإيمان ، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة ، والمرادُ به هنا وفي نظائره الكناية عن قوة إيمانه ، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه ، فهو للمبالغة ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولا تكونوا أولَ كافر به } في سورة البقرة ( 41 ) ، وقوله : { وأنا أول المسلمين } في سورة الأنعام ( 163 ) .

والمراد بالمؤمنين من كان الإيمان وصفهم ولقبَهم ، أي الإيمان بالله وصفاته كما يليق به فالإيمان مستعمل في معناه اللقبي ، ولذلك شُبه الوصف بأفعال السجايا فلم يذكر له متعلّق ، ومن ذهب من المفسرين يقدر له متعلّقاً فقد خرج عن نهج المعنى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (143)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولما جاء موسى} الجبل {لميقاتنا}، يعني لميعادنا لتمام الأربعين يوما، {وكلمه ربه}، فلما سمع كلام ربه، استحلاه واشتاق إلى رؤية ربه، {قال}: يا {رب أرني أنظر إليك} قال له ربه: إنك {لن تراني ولكن}، اجعل بيني وبينك علما هو أقوى منك، يعني الجبل، {انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}، وإن لم يستقر الجبل مكانه، فإنك لن تطيق رؤيتي، {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا}، يعني قطعا... {وخر موسى صعقا}... {فلما أفاق}، يعني رد عليه نفسه، {قال} موسى: {سبحانك تبت إليك} من قولي: {رب أرني أنظر إليك}، {وأنا أول المؤمنين}: يعني أول المصدقين بأنك لن تُرى في الدنيا...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قوله تعالى: {قال لن تراني} [الأعراف: 143]. 423- القاضي عياض: قال مالك، لم ير في الدنيا لأنه باق. ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة، ورزقوا أبصارا باقية رُئي الباقي بالباقي. 704

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه، وكلّمه ربه وناجاه، قال موسى لربه:"أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ" قال الله له مجيبا: "لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ"... عن ابن عباس، قوله: "أرِني أنْظُرْ إلَيْكَ "قال: أعطني...

"فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرّ مِوسَى صَعِقا" يقول تعالى ذكره: فلما اطلع الربّ للجبل جعل الله الجبل "دكّا": أي مستويا بالأرض. "وخَرّ مُوسَى صَعِقا" أي مغشيّا عليه... حدثني المثنى، قال: ثني الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية: فَلَمّا تَجَلّى رَبّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا قال: «هكذا» بأصبعه ووضع النبيّ صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، «فسَاخَ الجَبَلُ»...

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: دَكّا. فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة: دَكّا مقصورا بالتنوين، بمعنى: دك الله الجبل دكّا أي فَتّتَه، واعتبارا بقول الله: "كَلاّ إذَا دُكّتِ الأرْضِ دَكّا دَكّا"، وقوله: "وحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبالُ فَدُكّتا دَكّةً وَاحِدَةً"...

وقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: «جَعَلَهُ دَكّاءَ» بالمدّ وترك الجرّ والتنوين، مثل حمراء وسوداء...عن عكرمة، قال: دكّاء من الدكّاوات. وقال: لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صخره ترابا.

واختلف أهل العربية في معناه إذا قرئ كذلك. فقال بعض نحويي البصرة: العرب تقول: ناقة دكاء: ليس لها سنام... وكان بعض نحويي الكوفة يقول: معنى ذلك: جعل الجبل أرضا دكّاء، ثم حذفت الأرض وأقيمت الدكاء مقامها إذ أدّت عنها.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأ: «جعله دكاء» بالمدّ، وترك الجرّ لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحته وذلك أنه رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فَساخَ الجَبَلُ» ولم يقل: فتفتّت، ولا تحوّل ترابا. ولا شكّ أنه إذا ساخ فذهب ظهر وجه الأرض، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها، وصارت دكاء بلا سنام. وأما إذا دكّ بعضه فإنما يكسر بعضه بعضا ويتفتّت ولا يسوخ. وأما الدكاء فإنها خَلَفٌ من الأرض، فلذلك أُنثت على ما قد بينت. فمعنى الكلام إذن: فلما تجلى ربه للجبل ساخ، فجعل مكانه أرضا دكاء...

"فَلَمّا أفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ" يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى صلى الله عليه وسلم، قال: "سُبْحانَكَ" تنزيها لك يا ربّ وتبرئة أن يراك أحد في الدنيا ثم يعيش. "تُبْتُ إلَيْكَ" من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية. "وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ" بك من قومي أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك...

وقال آخرون: معناه قوله: وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ بك من بني إسرائيل...

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله: "وأنا أوّلُ المُؤْمِنِينَ" على قول من قال: معناه: أنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء، منهم ولد إسرائيل لصلبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء، فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وكلّمه ربه} لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيّته سوى أنه أنشأ كلاما وصوتا أسمعه موسى كيف شاء بما شاء...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يخبر تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله [تعالى] سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} وقد أشكل حرف "لن "هاهنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].

وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وقيل: إنها لنفي التأبيد في الدنيا، جمعا بين هذه الآية، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة. وقيل: إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقد تقدم ذلك في الأنعام [الآية: 103].

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته عنهم فقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا} أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة؛ ولما كان مقام الجلال مهولاً لا يستطاع وعي الكلام معه، التفت إلى مقام الإكرام فقال: {وكلمه} أي من غير واسطة {ربه} أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان، والذي سمعه موسى عليه السلام... ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف، وكانت الرؤية جائزة، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعلمه أنها جائزة {قال} مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب -{رب أرني} أي ذاتك الأقدس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر، وهو معنى قول الحبر ابن عباس: أعطني، وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر- {أنظر} أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه علو العظمة لا المسافة -بالتعدية بحرف النهاية بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان- فقال: {إليك} أي فأراك. ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا {قال} نافياً المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين {لن تراني} ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لم يقل: لن أُرى، أو لن يراني أحد؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال: {ولكن انظر إلى الجبل} إشارة جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك، وزاد في الإشارة إلى إمكان الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال -: {فإن استقر مكانه} أي وجد قراره وجوداً تاماً، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله: {فسوف تراني} أي بوعد لا خلف فيه {فلما تجلى ربه} أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال -: {للجبل} أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته {جعله دكاً} أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان {وخر} أي وقع {موسى صعقاً} أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، فإن الفاني -كما نقل عن الإمام مالك- لا ينبغي له أن يرى الباقي -{فلما أفاق} أي من غشيته {قال سبحانك} أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه {تبت إليك} أي من ذلك {وأنا أول المؤمنين} أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا صلى الله عليه وسلم آيتان: إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله {وأنا أول المسلمين} والثانية تومئ إلى عدمها وهي {آمن الرسول} إلى قوله: {كل آمن بالله}- والله أعلم -، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} الآية...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} أي إنك لا تراني الآن، ولا فيما تستقبل من الزمان، ثم استدرك تبارك وتعالى على ذلك بما يدل على تعليل النفي، ويخفف عن موسى شدة وطأة الرد، بإعلامه ما لم يكن يعلم من سنته، وهو أنه لا يقوى شيء في هذا الكون على رؤيته كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى عن مسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فقال:"ولكن انظر إلى الجبل" فإنني سأتجلى له فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا في مكانه فسوف تراني، لمشاركتك له في مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل في قوته ورسوخه لا يثبت ولا يستقر لهذا التجلي لعدم استعداد مادته لقوة تجلي خالقه وخالق كل شيء فاعلم أنك لن تراني أيضا وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية في قوتها وضعف استعدادها {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28] وقبولها للفناء...

{فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا} يقال جلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى بنفسه أو بغيره وجلاه فتجلى- إذا انكشف وظهر ووضح بعد خفاء في نفسه ذاتي أو إضافي أو خفاء على مجتليه وطالبه. ويكون ذلك التجلي والظهور بالذات وبغير الذات من صفة أو فعل يزول به اللبس والخفاء، وفي صيغة التجلي ما ليس في صيغة الجلاء والانجلاء من معنى التدريج والكثرة النوعية أو الشخصية قال تعالى: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} [الليل: 1، 2] فالليل يغشى النهار ويستره ثم يتجلى النهار ويظهر بالتدريج... الدك الدق أو ضرب منه. قال في الأساس: دككته دققته، ودك الركية كبسها، وحمل أدك وناقة دكاء: لا سنام لهما، واندك السنام: افترش على الظهر ونزلنا بدكداك: رمل متلبد بالأرض اه. وأقول: إن الفرق بين الدق والدك كما يؤخذ من استعمال العالم الموروث عن العرب أن الدق ما يخبط به الشيء ليتفتت ويكون أجزاء دقيقة ومنه الدقيق. وكان القمح في عصور البداوة الأولى يدق بالحجارة فيكون دقيقا ثم اهتدوا إلى الأرحية التي تسحقه وتطحنه. وأما الدك فهو الهدم والخبط الذي يكون به الشيء المدكوك ملبدا ومستويا، يقال أرض مدكوكة وطريق مدكوكة، ودك الحفرة والركية...

أحسن ما ورد في التفسير المأثور لهذه الآية مطابقا لمتن اللغة ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الرؤية عن ابن عباس {فلما تجلى ربه للجبل} قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر (جعله دكا) قال ترابا (وخر موسى صعقا) قال مغشيا عليه. اه. وما رواه ابن المنذر عن عكرمة أنه – أي الجبل- كان حجرا أصم فلما تجلى له صار تلا ترابا دكا من الدكاوات –أي مستويا بالأرض. ولولا ذلك لجاز أن يقال إن صيرورته ترابا وإن كان بمعنى الدكاء والمدكوك لا ينافي استقرار الجبل مكانه وقد ورد في بعض الآثار والأحاديث المرفوعة أيضا أنه ساخ أي غاص في الأرض، وهو يتفق مع المعنى الأول، أي أنه رج بالتجلي رجا، بست بها حجارته بساً، وساخ في الأرض كله أو بعضه في أثناء ذلك حتى صار كما قال بعضهم ربوة دكاء كالرمل المتلبد. والمعنى فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهدَّ وهبط من شدته وعظمته وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء –وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنما كان للجبل دونه فكيف لو كان له؟ وقد روي في تفسير هذه الآيات من الأخبار والآثار الواهية والموضوعة غرائب وعجائب أكثرها من الإسرائيليات...

{فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين} أي (فلما أفاق) موسى من غشيه والتعبير بالإفاقة يدل على صحة تفسير ابن عباس والجمهور للصعق بالغشي وبطلان تفسير قتادة له بالموت وقال به بعض شذاذ الصوفية وادّعوا أنه رأى ربه فمات، أو مات ثم رأى ربه، ولو مات لقال تعالى: (فلما بعث)... خلاصة معنى الآية أن موسى عليه السلام لما نال فضيلة تكليم الله تعالى له بدون واسطة فسمع ما لم يكن يسمع قبل ذلك وهو من الغيب الذي لا شبه له ولا نظير في هذا العالم طلب من الرب تبارك وتعالى أن يمنحه شرف رؤيته وهو يعلم حتما أنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته التي منها كلامه عز وجل فكما أنه سمع كلاما ليس كمثله كلام بتخصيص رباني –استشرف لرؤية ذات ليس كمثلها شيء من الذوات، كما فهم من ترتيب السؤال على التكليم، فلم يكن عقل موسى- وهو في الذروة العليا من العقول البشرية بدليلي العقل والنقل- مانعا له من هذا الطلب، ولم يكن دينه وعلمه بالله تعالى وهما في الذروة العليا أيضا مانعين له منه. ولكن الله تعالى قال له: {لن تراني} ولكي يخفف عليه ألم الرد وهو كليمه الذي قال له في أول العهد بالوحي إليه {واصطنعتك لنفسي} أراه بعينيه ومجموع إدراكه من تجليه للجبل بما لا يعلمه سواه أن المانع من جهته هو لا من جانب الجود الرباني، فنزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره الله تعالى بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه أي دون رؤيته، وأمره بأن يأخذ ما أعطاه، ويكون من الشاكرين له...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

...جُعل مجيءُ موسى في الوقت المعين أمراً حاصلاً غير محتاج للإخبار عنه، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك، وجُعل تكليمُ الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضاً حاصلاً غير محتاج للإخبار عن حلوله...

وقوله: {قال رب أرني}... وسؤالُ موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة. وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعْلُ جملة {وكلمه ربه} شرطاً لحرف (لمّا) لأن (لمّا) تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما} في هذه السورة (22)، هذا على جعل {وكَلمه} عطفاً على شرط لمّا، وليسَ جوابَ لما، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى، وهي مثل الرؤية الموعود بها في الآخرة، فكان موسى يحسب أن مثلِها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا، ولا يمتنع على نبي عدمُ العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يُعلمها الله إياه، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وقُل رب زدني علماً} [طه: 114]، ولذلك كان أيمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلاهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم: « بلا كيف».

وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلبٌ على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤالَ الذي سأله بنوا اسرائيل المحكي في سورة البقرة (55) بقوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}... ومفعول {أرني} محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله: {إليك}. وفصل قوله: {قالَ لنْ تراني} لأنه واقع في طريق المحاورة.

و {لَن} يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل، وهما متقاربان، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد، فنفت (لن) رؤية موسى ربّه نفياً لا طمع بعده للسائِل في الإلحاح والمراجعة بحيث يَعلم أن طلبته متعذرة الحصول، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة. والاستدراك المستفاد من {لكن} لرفع توهم المخاطَب الاقتصارَ على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائِل ومنقصة فيه، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيُرفع، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيءٌ من شأن الجلال الإلهي، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم، فيعلم موسى أنه أحرى بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سُبُحات الله تعالى.

وعلق الشرط بحرف (إنْ) لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعَذره، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوماً لله انتفاؤه، صح تعليق الأمر المرادِ تعذُر وقوعُه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجَة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى، خلافاً لما اعتاد كثيرٌ من علمائنا من الاحتجاج بذلك.

...وقوله: {فسوف تراني} ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سُبق قوله: {لن تراني} أزال طماعية السائل الرؤية، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظرِه إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجزَ القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى، من عدم ثبات قوة الجبل، فصارت قوة الكلام: أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني، لأنك لا تستطيع ذلك، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف (لو) بدلالة قرينة السابِق.

والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب، وهو هنا مجاز، ولعله أريد به إزالة الحوائِل المعتادة التي جعلها الله حجاباً بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقاديرَ مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيباً يعلمه الله.

وتقريبُه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثاراً لقدرته بدون واسطة، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيراً خارقاً للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالاً تظهرُ له آثار مناسبة لنوع تلك القوة، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسندُ إلى الله تعالى تقريباً للإفهام، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تُماثل اتصال الرؤية اندّك الجبل، ومما يقرب هذا المعنى، ما رواه الترمذي وغيره، من طرق عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: {فلما تجلى ربه} فوضع إبهامه قريباً من طرف خنصره يُقلل مقدار التجلي.

وصَعِق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فُضاضاً.

.. والخرور السقوط على الأرض.

والصعق: وصف بمعنى المصعوق، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق، فإذا أصابت جسماً أحرقته، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته، أو من بعيد غُشي عليه من رائحتها، وسُمي خويلدُ بن نُفيْل الصِعقَ عَلماً عليه بالغلبة، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقاً من الصعق؛ لأن أيمة اللغة قالوا: إن الصعْق الغشيُ من صيحة ونحوها، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجَة، وإن لم يكن ذلك من الصاعقة.

والإفاقة: رجوع الإدراك بعد زواله بغشْي، أو نوم، أو سُكر، أو تخبط جنون.

و {سبحانك} مصدر جاء عوضاً عن فعله أي أسبحك، وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به، لمناسبة سؤاله منه مَا تبين له أنه لا يليق به سؤالهُ دون استيذانه وتحققِ إمكانه كما قال تعالى لنوح: {فلا تسألني ما ليس لك به علم} في سورة هود (46).

وقوله: {تبت إليك} إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله، وهذا كقول نوح عليه السلام: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} [هود: 47] وصيغة الماضي من قوله: {تُبت} مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعْتُ وزَوّجْتُ. مبالغة في تحقق العقد.

وقوله: {وأنا أول المؤمنين} أطلق {الأول} على المُبادر إلى الإيمان، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة، والمرادُ به هنا وفي نظائره الكناية عن قوة إيمانه، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه، فهو للمبالغة، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {ولا تكونوا أولَ كافر به} في سورة البقرة (41)، وقوله: {وأنا أول المسلمين} في سورة الأنعام (163)...