تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }

يخبر تعالى : أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين ، ويغفر ما دون الشرك{[210]}  من الذنوب صغائرها وكبائرها ، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك ، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه .

فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة ، كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا ، والبرزخ ويوم القيامة ، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض ، وبشفاعة الشافعين . ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد .

وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة ، وأغلق دونه أبواب الرحمة ، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد ، ولا تفيده المصائب شيئا ، وما لهم يوم القيامة { مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ }

ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أي : افترى جرما كبيرا ، وأي : ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب ، الناقص من جميع الوجوه ، الفقير بذاته من كل وجه ، الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا- بالخالق لكل شيء ، الكامل من جميع الوجوه ، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ، الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع ، الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى ، فهل أعظم من هذا الظلم شيء ؟

ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب ، وأما التائب ، فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أي : لمن تاب إليه وأناب .


[210]:- في ب: ذلك.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَىَ إِثْماً عَظِيماً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقا لمِا معكم ، وإن الله لا يغفر أن يشرك به ، فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر ، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والاَثام . وإذ كان ذلك معنى الكلام ، فإن قوله : { أنْ يُشْركَ بهِ } في موضع نصب بوقوع يغفر عليها وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرا ، وذلك أن يوجه معناه : إلى أن الله لا يغفر بأن يشرك به على تأويل الجزاء ، كأنه قيل : إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك أو عن شرك¹ وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون «أن » في موضع خفض في قول بعض أهل العربية . وذكر أن هذه الاَية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جمِيعا إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ } . ذكر الخبر بذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ثني محبر ، عن عبد الله بن عمر ، أنه قال : لما نزلت : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسهِمْ } . . . الاَية ، قام رجل فقال : والشرك يا نبيّ الله . فكره ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : { إنّ اللّهِ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيما } .

حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } قال : أخبرني محبر ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما نزلت هذه الاَية : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ } . . . الاَية ، قام رجل فقال : والشرك يا نبيّ الله . فكره ذلك النبيّ ، فقال : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا الهيثم بن حماد ، قال : حدثنا بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر ، قال : كنا معشر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لا نشكّ في قاتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الاَية : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } فأمسكنا عن الشهادة .

وقد أبانت هذه الاَية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركا بالله .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يُشْرِكُ باللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيما } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يشرك بالله في عبادته غيره من خلقه ، فقد افترى إثما عظيما ، يقول : فقد اختلق إثما عظيما . وإنما جعله الله تعالى ذكره مفتريا ، لأنه قال زورا وإفكا بجحوده وحدانية الله وإقراره بأن لله شريكا من خلقه وصاحبة أو ولدا ، فقائل ذلك مفتر ، وكذلك كلّ كاذب فهو مفتر في كذبه مختلق له .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

وقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ، هذه مسألة الوعد والوعيد ، وتلخيص الكلام فيها أن يقال : الناس أربعة أصناف ، كافر مات على كفره ، فهذا مخلد في النار بإجماع ، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك ، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع ، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة ، ومذنب مات قبل توبته ، فهذا موضع الخلاف ، فقالت المرجئة : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته ، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار ، وآيات الوعد عامة في المؤمنين ، تقيّهم وعاصيهم .

وقالت المعتزلة : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد ، وقالت الخوارج : إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له ، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر ، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط ، والمؤمن التائب ، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفاراً أو مؤمنين ، وقال أهل السنة والحق : آيات الوعد ظاهرة العموم ، وآيات الوعيد ظاهرة العموم ، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها ، كقوله تعالى : { لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى }{[4094]} وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله : { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم }{[4095]} فلا بد أن نقول : إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم ، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن ، وفي التائب ، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة ، وأن آيات الوعيد لفظها عموم ، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة ، ونحكم بقولنا : هذه الآية النص في موضع النزاع ، وهي قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين ، المرجئة والمعتزلة ، وذلك أن قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فصل مجمع عليه ، وقوله : { ويغفر ما دون ذلك } فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم رداً لا محيد عنه ، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة ، فجاء قوله { لمن يشاء } راداً عليهم ، موجباً أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم ، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن .

قال القاضي أبو محمد : ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها ، بأن قالوا : «من يشاء » هو التائب ، وما أرادوه فاسد ، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل ، إذ التائب من الشرك يغفر له .

قال القاضي أبو محمد : ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها بأن قالوا : { لمن يشاء } معناه : يشاء أن يؤمن ، لا يشاء أن يغفر له ، فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن ، لا بغفران الله لمن يغفر له ، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله : { ويغفر ما دون ذلك } عام في كافر ومؤمن ، فإذا خصص المؤمنون بقوله { لمن يشاء } وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك ، ويجازون به .

قال القاضي أبو محمد : وذلك وإن كان مما قد قيل - فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء ، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم ، لأن الشرك مغفور أيضاً لمن شاء الله أن يؤمن .

قال القاضي أبو محمد : ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة ، قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً }{[4096]} والآية مخرجة عنهم لوجوه ، منها : أن الأصح في تأويل قوله تعالى { متعمداً } ما قال ابن عباس : إنه أراد مستحلاً ، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر ، ويدل على ما قال ابن عباس : إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد ، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص ، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي ، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر ، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبداً » فجائز أن يراد به الزمن المتطاول ، إذ ذلك معهود في كلام العرب ، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك ، ومن ذلك قول امرىء القيس : [ الطويل ]

وَهَلْ يَعِمَنْ إلاّ سعيدٌ مُخَلَّدٌ . . . قَليلُ الهمومِ ما يَبِيتُ بِأَوْجَالِ{[4097]}

وقال عبد الله بن عمرو لما نزلت { قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً }{[4098]} قال بعض أصحاب النبي عليه السلام : والشرك يا رسول الله ، فنزلت : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب ، والفرية : أشد مراتب الكذب قبحاً ، وهو الاختلاق للعصبية .


[4094]:- الآيتان (15، 16) من سورة (الليل).
[4095]:- من الآية (23) من سورة (الجن).
[4096]:- الآية (93) من سورة (النساء).
[4097]:- يعمن: ينعمن، الهموم: الأحزان، والوجل: الخوف، يقال: وجل كفرح ياجل، وييجل، ويوجل. وقبل هذا البيت يقول الشاعر: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟
[4098]:- من الآية (53) من سورة (الزمر).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

يجوز أن تكون هذه الجملة متعلقة بما قبلها من تهديد اليهود بعقاب في الدنيا ، فالكلام مَسوق لترغيب اليهود في الإسلام ، وإعلامهم بأنّهم بحيث يتجاوز الله عنهم عند حصول إيمانهم ، ولو كان عذابُ الطمس نازلاً عليهم ، فالمراد بالغفران التجاوز في الدنيا عن المؤاخذة لهم بعظم كفرهم وذنوبهم ، أي يرفع العذاب عنهم . وتتضمّن الآية تهديداً للمشركين بعذاب الدنيا يحلّ بهم فلا ينفعهم الإيمان بعد حلول العذاب ، كما قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس } [ يونس : 98 ] الآية . وعلى هذا الوجه يكون حرف ( إنّ ) في موقع التعليل والتسبّب ، أي آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب ، لأنّ الله يغفر ما دون الإشراك به ، كقوله : { وما كان الله ليعذبّهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] ، أي ليعذّبهم عذاب الدنيا ، ثم قال : { ومالهم أن لا يعذّبهم الله } [ الأنفال : 34 ] ، أي في الدنيا ، وهو عذاب الجوع والسيف . وقوله : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } [ الدخان : 10 ، 11 ] ، أي دخانٌ عامَ المجاعة في قريش . ثم قال : { إنّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدُون يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون } [ الدخان : 15 ، 16 ] أي بطشة يوم بدر ؛ أو يكون المراد بالغفران التسامح ، فإنّ الإسلام قَبِل من أهل الكتابين الدخول تحت ذمَّة الإسلام دون الدخول في دين الإسلام ، وذلك حكم الجزية ، ولم يرض من المشركين إلاّ بالإيمان دون الجزية ، لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إلى قوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] . وقال في شأن أهل الكتاب { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرّم الله ورسولُه ولا يدينون دينَ الحقّ من الذين أوتوا الكتَاب حتّى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهُم صاغرون } [ التوبة : 29 ] .

ويجوز أن تكون الجملة مستأنَفة ، وقعت اعتراضاً بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم ، فيكون حرفُ ( إنَّ ) لتوكيد الخبر لقصد دفع احتمال المجاز أو المبالغة في الوَعيد ، وهو إمّا تمهيد لما بعده لتشنيع جرم الشرك بالله ليكون تمهيداً لتشنيع حال الذين فَضَّلوا الشرك على الإيمان ، وإظهاراً لمقدار التعجيب من شأنهم الآتي في قوله : { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] ، أي فكيف ترضون بحال من لا يرضى الله عنه . والمغفرة على هذا الوجه يصحّ حملها على معنى التجاوز الدنيوي ، وعلى معنى التجاوز في الآخرة على وجه الإجمال .

وإمّا أن يكون استئنافَ تعليمِ حكم في مغفرة ذنوب العصاة : ابتدىء بمُحْكَم وهو قوله : { لا يغفر أن يشرك به } ، وذُيِّل بمتشابه وهو قوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ؛ فالمغفرة مراد منها التجاوز في الآخرة .

قال القرطبي « فهذا من المتشابه الذي تكلّم العلماء فيه » وهو يريد أنّ ظاهرها يقتضي أموراً مشكلة :

الأول : أنّ يقتضي أنّ الله قد يغفر الكفر الذي ليس بشرك ككفر اليهود .

الثاني : أنّه يغفر لمرتكب الذنوب ولو لم يتب .

الثالث : أنّه قد لا يغفر للكافر بعد إيمانه وللمذنب بعد توبته ، لأنّه وَكَل الغفران إلى المشيئة ، وهي تلاقي الوقوع والانتفاء . وكلّ هذه الثلاثة قد جاءت الأدلّة المتظافرة على خلافها ، واتّفقت الأمّة على مخالفة ظاهرها ، فكانت الآية من المتشابه عند جميع المسلمين . قال ابن عطية : « وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد . وتلخيصُ الكلام فيها أن يقال : الناس أربعة أصناف : كافر مات على كفره ، فهذا مخلّد في النار بإجماع ، ومؤمن محسن لم يذنب قط ومات على ذلك فهو في الجنة محتوم عليه حسب الوعد في الله بإجماع وتائب مات على توبته فهذا عند أهل السنّة وجمهور فقهاء الأمّة لا حق بالمؤمن المحسن ، ومُذنب مات قبل توبته فهذا هو موضع الخلاف : فقالت المرجئة : هو في الجنّة بإيمانه ولا تضره سيّئاته ، وجعلوا آيات الوعيد كلّها مخصّصة بالكفار وآيات الوعد عامّة في المؤمنين ؛ وقالت المعتزلة : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار لا محالة ؛ وقالت الخوارج : إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلّد ولا إيمان له ، وجعلوا آيات الوعد كلّها مخصّصة بالمؤمن المحسن والمؤمن التائب ، وجعلوا آيات الوعيد عامّة في العصاة كفاراً أو مؤمنين ؛ وقال أهل السنّة : آيات الوعد ظاهرة العموم ولا يصحّ نفوذ كلّها لوجهه بسبب تعارضها كقوله تعالى : { لا يصلاها إلاّ الأشقى الذي كذّب وتولّى } [ الليل : 15 ، 16 ] وقوله : { ومن يعص الله ورسوله فإنّ له نار جهنّم } [ الجن : 23 ] ، فلا بدّ أن نقول : إنّ آيات الوعد لفظها لفظ العموم ، والمراد به الخصوص : في المؤمن المحسن ، وفيمن سبق في علم الله تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة ، وأنّ آيات الوعيد لفظها عموم والمراد به الخصوص في الكفرة ، وفيمن سبق علمه تعالى أنّه يعذّبه من العصاة . وآية { إنّ الله لا يغفر أنّ يشرك به } جَلت الشكّ وذلك أنّ قوله : { ويغفر ما دون ذلك } مبطل للمعتزلة ، وقوله : { لمن يشاء } رادّ على المرجئة دالّ على أنّ غفران ما دون الشرك لقوم دون قوم . ولعلّه بنى كلامه على تأويل الشرك به بما يشمل الكفر كلّه ، أو بناه على أنّ اليهود أشركوا فقالوا : عزير ابن الله ، والنصارى أشركوا فقالوا : المسيح ابن الله ، وهو تأويل الشافعي فيما نسبه إليه فخر الدين ، وهو تأويل بعيد . فالإشراك له معناه في الشريعة ، والكفر دونه له معناه .

والمعتزلة تأوّلوا الآية بما أشار إليه في « الكشّاف » : بأنّ قوله { لمن يشاء } معمول يتنازعه { لا يغفر } المنفي { ويغفرُ } المثبت . وتحقيق كلامه أن يكون المعنى عليه : إنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ، ويصير معنى لا يغفر لمن يشاء أنّه لا يشاء المغفرة له إذ لو شاء المغفرة له لغفر له ، لأنّ مشيئة الله المُمْكنَ لا يمنعها شيء ، وهي لا تتعلّق بالمستحيل ، فلمّا قال : { لا يغفر } علمنا أنّ ( من يشاء ) معناه لا يشاء أن يغفر ، فيكون الكلام من قبيل الكناية ، مثل قولهم : لا أعرفنَّك تفعل كذا ، أي لا تفعلْ فأعرفَك فاعلاً ، وهذا التأويل تعسّف بيّن .

وأحسب أنّ تأويل الخوارج قريب من هذا . وأمّا المرجئة فتأوّلوا بما نقله عنهم ابن عطية : أنّ مفعول { من يشاء } محذوف دلّ عليه قوله : { أن يشرك به } ، أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء الإيمان ، أي لمن آمن ، وهي تعسّفات تُكْرِه القرآننِ على خدمة مذاهبهم . وعندي أنّ هذه الآية ، إن كانت مراداً بها الإعلام بأحوال مغفرة الذنوب فهي آية اقتصر فيها على بيان المقصود ، وهو تهويل شأن الإشراك ، وأجمل ما عداه إجمالاً عجيباً ، بأن أدخلت صورهُ كلّها في قوله : { لمن يشاء } المقتضي مغفرةً لفريق مبْهم ومؤاخذة لِفريق مبهم . والحوالة في بيان هذا المجمل على الأدّلة الأخرى المستقرَاة من الكتاب والسنّة ، ولو كانت هذه الآية ممّا نزل في أوّل البعثة لأمكن أن يقال : إنّ ما بعدها من الآيات نسخ ما تضمّنته ، ولا يهولنا أنّها خبَر لأنّها خبر مقصود منه حكم تكليفي ، ولكنّها نزلت بعدَ معظم القرآن ، فتعيّن أنّها تنظر إلى كلّ ما تقدّمها ، وبذلك يستغني جميعُ طوائف المسلمين عن التعسّف في تأويلها كلّ بما يساعد نحلته ، وتصبح صالحة لمحامل الجميع ، والمرجع في تأويلها إلى الأدّلة المبيّنة ، وعلى هذا يتعيّن حمل الإشراك على معناه المتعارف في القرآن والشريعة المخالف لمعنى التوحيد ، خلافَ تأويل الشافعي الإشراك بما يشمل اليهودية والنصرانية ، ولعلّه نظر فيه إلى قول ابن عمر في تحريم تزوّج اليهودية والنصرانية بأنّهما مشركتان . . وقال : أيّ شرك أعظم من أن يدعى الله ابن .

وأدّلة الشريعة صريحة في اختلاف مفهوم هذين الوصفين ، وكونُ طائفة من اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، لا يقتضي جعلهم مشركين إذ لم يدّعوا مع ذلك لهذين إلهية تشارك الله تعالى ، واختلاف الأحكام التكليفية بين الكُفرين دليل على أن لا يراد بهذا اللفظ مفهوم مطلق الكفر ، على أنه ماذا يغني هذا التأويل إذا كان بعض الكفرة لا يقول بإلهية غير الله مثل معظم اليهود .

وقد اتّفق المسلمون كلّهم على أنّ التوبة من الكفر ، أي الإيمانَ ، يوجب مغفرته سواء كان كفر إشراك أم كفراً بالإسلام ، لا شكّ في ذلك ، إمّا بوعد الله عند أهل السنّة ، أو بالوجوب العقلي عند المعتزلة ؛ وأنّ الموت على الكفر مطلقاً لا يغفر بلا شكّ . إمّا بوعيد الله ، أو بالوجوب العقلي ؛ وأنّ المذنب إذا تاب يغفر ذنبه قطعاً ، إمّا بوعد الله أو بالوجوب العقلي .

واختلف في المذنب إذا مات على ذنبه ولم يتب أو لم يكن له من الحسنات ما يغطّي على ذنوبه ، فقال أهل السنّة : يعاقب ولا يخلّد في العذاب بنصّ الشريعة ، لا بالوجوب ، وهو معنى المشيئة ، فقد شاء الله ذلك وعَرَّفنَا مشيئته بأدلّة الكتاب والسنّة .

وقال المعتزلة والخوارج : هو في النار خالداً بالوجوب العقلي . وقال المرجئة : لا يعاقب بحال ، وكلّ هاته الأقسام داخل في إجمال { لمن يشاء } .

وقوله : { ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } زيادة في تشنيع حال الشرك . والافتراءُ : الكذب الذي لا شبهة للكاذب فيه . لأنّه مشتقّ من القرى ، وهو قطع الجلد . وهذا مثل ما أطلقوا عليه لفظ الاختلاق من الخَلْق . وهو قطع الجلد ، وتقدّم عند قوله تعالى : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } في سورة آل عمران . والإثم العظيم : الفاحشة الشديدة .