تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

الآية 48

وقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } أجمع الناس أنه{[5708]}يغفر الذنوب كلها : الشرك وما دونه إذا انتهى ، وتاب ، بقوله تعالى : { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ( الأنفال : 38 ) دل أن إطماع المغفرة لما دون الشرك لمن ينتهي{[5709]}عنه . وقال الخوارج : الكبائر كلها الشرك بالله تعالى ، فمن ارتكبها دخل تحت قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } .

والمسألة بيننا وبينهم في ذلك . فيقال لهم : المعتبر الذي صار مشركا عندكم بارتكاب الكبيرة ، ذلك المعنى موجود في ارتكاب الصغائر ، فيجيء أن يكون كافرا ، فإذا لم يصر بذلك كافر ، لم يصر بارتكابه الكبائر كافرا .

وقالت المعتزلة : صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان ، ولا يدخل في الكفر . وقال أبو بكر الأصم : ظهر الوعيد في الكبائر وشرط المغفرة لنا دون الشرك بقوله تعالى : { لمن يشاء } فهو الصغائر كقوله : { نكفر عنكم سيئاتكم } ( النساء : 31 )أخبر أن من السيئات ما يكفر ، ومنها ما لا يكفر ، فهو للصغائر .

وأما عندنا فإن الله عز وجل أطمع المؤمنين المغفرة ما دون الشرك . ثم له المشيئة ؛ إن شاء عذبهم فيها ، وإن شاء عفا عنهم . وأما إطماع المغفرة في الشرك فإنه لا يجوز في العقل ؛ لأن من اعتقد دينا /97-ب/ فإنما يعتقد للأبد . وليس كل من ارتكب ذنبا يرتكبه للأبد ، بل إنما يرتكبه لقضاء شهوة{[5710]} تغلبه ، فهو يندم على على إثره . لذلك قلنا : يجوز في العقل إطماع المغفرة لما دون الشرك ، ولا يجوز للشرك ، وبالله التوفيق .

ووجه أخر أن الوعيد الذي ذكرته يحتمل الاستحلال {[5711]}والاستخفاف بالأمر والنهي ، فلا ينزل بما أطمع بهذه الآية من المغفرة ، فيزال الطمع والرجاء بالوعيد المتجه وجهين [ في الرفق ]{[5712]}فيهم . فأما القطع في أحد الوجهين بالمحتمل ، ومنع القطع بالآخر للاحتمال فهو بحكم ، ولا قوة إلا بالله .

ووجه آخر أن الآية في التفصيل بين المحتمل للغفران والذي لا يحتمل ؛ فإذا صرفت إلى الصغائر ، يبطل{[5713]}تخصيص اسم الشرك ، ويلتبس على السامع حله{[5714]} . وليس أمر الوعيد في ما جاء بموضع التفصيل ، بل الذي جاء في حق التفصيل ذكر الغفران بالتكفير مقابلة الجزاء من حسنات أو عقوبات كقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه }الآية ( النساء : 31 ) .

ووجه أخر : قال الله عز وجل : { لمن يشاء } وهذا كناية عن الأنفس المغفورات لا من الآثام التي تغفر ، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس ، وفي آيات الوعيد في الذين جاء بهم ، وفي ما جاء عاما فبان[ أنه ]{[5715]}لا صرف [ له ] {[5716]} في ذلك ، فهو أولى ، وبالله التوفيق .

وبعد فإنه عز وجل : قال : { لمن يشاء } والصغائر عندكم مغفرة بالحكمة لا بالوعد ، والآية في التعريف ، ولا قوة إلا بالله . وقوله أيضا : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فمعلوم أنه ما يلزمه حتى يختم به ، لا في ما يتوب عنه . أيد ذلك قوله : { إن ينتهوا يغفر لهم }( الأنفال : 38 ) وغير واحدة من الآيات التي جاءت في الكفرة لما آمنوا ، والله أعلم ، فصار كأنه قال{ لا يغفر أن يشرك به } إذا لم يتب عنه{ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وإن لم يتب عنه{[5717]} .

فلو كان شيئا مما دونه لا يحتمل في الحكمة المغفرة لضمه إلى الممتنع عن الاحتمال لا أن ألحقه بالمحتمل له في ما كان معلوما أنه القصد فيه إلى بيان ما فيه الرجاء والإياس . وأيد ذلك قوله تعالى : { إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون } ( يوسف : 87 ) . فلو كان يلزم الإياس لما دونه لوجب {[5718]}الوصف له بالكفر ؛ إذ الإياس لهم بالكفر وفي تحقيقه . فأي الوجهين لزم تبعه الآخر في الإياس في وجود فعله ؛ إذ قد يوجد في الكفرة ، ثبت أن ذلك في الحكم والتحقيق لا في وجود الفعل ، وبالله التوفيق .


[5708]:في الأصل وم:أن.
[5709]:في الأصل وم: لم ينته.
[5710]:في الأصل وم: شهوته.
[5711]:من م، في الأصل: الاستحال.
[5712]:في الأصل: الرفق، في م: الوقف.
[5713]:في الأصل وم: فيبطل.
[5714]:في الأصل وم: محله.
[5715]:. ساقطة من الأصل وم
[5716]:ساقطة من الأصل وم
[5717]:في الأصل وم: منه.
[5718]:في الأصل وم: ليجب.