فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ( 48 ) ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ( 49 ) }

{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، ولا يختص بكفار أهل الحرب ، لأن اليهود قالوا عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالوا ثالث ثلاثة .

ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته ، وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .

قال ابن جرير قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز وجل ، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة .

وقد تقدم قوله تعالى { وإن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم } وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيآت من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيآته .

عن ابن عمر بسند صحيح قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم { إن الله لا يغفر } الآية وقال : إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا .

وعن ابن عباس قال في هذه الآية : إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم عن المغفرة وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال : ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية .

وعن جابر قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما الموجبتان قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك به دخل النار ، أخرجه مسلم{[486]} .

{ ومن يشرك بالله } يعني يجعل معه شريكا غيره ، إظهار في موضع الإضمار لإدخال الروع { فقد افترى } أي اختلق وفعل ، لأن الافتراء كما يطلق على القول حقيقة يطلق على الفعل مجازا كما صححه التفتازاني { إثما عظيما } يعني ذنبا كبيرا غير مغفور إن مات عليه .


[486]:روي عن أبي ذر قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة...)