البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال ابن الكلبي : نزلت في وحشي وأصحابه ، وكان جعل له على قتل حمزة رضي الله عنه أن يعتق ، فلم يوف له ، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وزنينا ، فلولا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : { إلا من تاب وآمن وعمل } الآيات ، فبعث بها إليهم فكتبوا : إنَّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، فبعث بها إليهم ، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته ، فنزلت : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآيات فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ، فقبل منهم ثم قال لوحشي :

« أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ » فلما أخبره قال : « ويحك غيِّب عني وجهك » فلحق وحشي بالشام إلى أن مات .

وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافراً في النار ، وعلى تخليد من مات مؤمناً لم يذنب قط في الجنة .

فأما تائب مات على توبته فالجمهور : على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب ، وطريقة بعض المتكلمين أنه في المشيئة .

وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول : هو مخلد في النار سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة .

والمرجئة تقول : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته .

والمعتزلة تقول : إن كان صاحب كبيرة خلد في النار .

وأما أهل السنة فيقولون : هو في المشيئة ، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة ، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلداً فيها .

وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد ، فالخوارج جعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين .

وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط ، أو المذنب التائب .

والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار ، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم .

وأهل السنة خصصوا آيات الوعيد بالكفرة ، وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة ، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب ، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة .

والمعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب .

وآيات الوعيد بالكافر وذي الكبيرة الذي لم يتب .

وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع ، وهي جلت الشك ، وردّت على هذه الطوائف الثلاث .

فقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ، والمعنى : أنَّ من مات مشركاً لا يغفر له ، هو أصل مجمع عليه من الطوائف الأربع .

وقوله : ويغفر ما دون ذلك ، راد على الخوارج وعلى المعتزلة ، لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر .

وقوله : لمن يشاء رادّ على المرجئة ، إذ مدلوله أنَّ غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء تعالى ، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له .

وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في علم أصول الدين .

وقد رامت المعتزلة والمرجئة ردّ هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح ، وهي منافية لما دلت عليه الآية .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : قد ثبت أن الله عزّ وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه ، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة ، فما وجه قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؟ ( قلت ) : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله : لمن يشاء كأنه قيل : إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك .

على أن المراد بالأول مَن لم يتب ، وبالثاني مَن تاب .

ونظيره قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه .

فتأول الآية على مذهبه .

وقوله : قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه ، هذا مجمع عليه .

وقوله : وإنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة .

فنقول له : وأين ثبت هذا ؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص ، كاستدلالهم بقوله : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } الآية ، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر .

وقوله : قال : فجزاؤه إن جازاه الله .

وقال : الخلود يراد به المكث الطويل لا الديمومة لا إلى نهاية ، وكلام العرب شاهد بذلك .

وقوله : إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله : لمن يشاء ، إن عنى أنّ الجار يتعلق بالفعلين ، فلا يصح ذلك .

وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كما قيد الثاني فهو تأويل .

والذي يفهم من كلامه أنّ الضمير الفاعل في قوله : يشاء عائد على مِنْ ، لا على الله .

لأن المعنى عنده : أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائب منه ، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها .

والذي يدل عليه ظاهر الكلام أنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة ، وإن كانت جميع الكائنات متوقفاً وجودها على مشيئته على مذهبنا .

وأنّ الفاعل في يشاء هو عائد على الله تعالى ، لا على من ، والمعنى : ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له .

وفي قوله تعالى : لمن يشاء ، ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب ، وإن مات مصرّاً .

قال عبد الله بن عمر : كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا له أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادات .

وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره « ومن أصاب شيئاً من ذلك أي من المعاصي التي تقدّم ذكرها فستره عليه ، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه » أخرجه مسلم .

ويروى عن علي وغيره من الصحابة : ما في القرآن آية أحب إلينا من هذه الآية .

وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركاً في عرف الشرع ، وإلا كان مغايراً للمشرك ، فوجب أن يكون مغفوراً له .

ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فاليهود داخلة تحت اسم الشرك .

فأما قوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } ثم قال : { والذين أشركوا } وقوله : { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } { ولم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي ، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي .

وقد قال الزجاج : كل كافر مشرك ، لأنه إذا كفر مثلاً بنبي زعم أنّ هذه الآيات التي أتى بها ليست من عند الله ، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله ، فيصير مشركاً بهذا المعنى .

فعلى هذا يكون التقدير : إنّ الله لا يغفر كفر من كفر به ، أو بنبي من أنبيائه .

والمراد : إذ ألقى الله بذلك ، لأن الإيمان يزيل عنه إطلاق الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع ، ولقوله عليه السلام : « الإسلام يجبّ ما قبله »

{ ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } أي اختلق وافتعل ما لا يمكن .

« وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم ؟ قال : » أن تجعل الله نداً وقد خلقك «

/خ57