( ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما48 )
( ان الله لا يغفر أن يشرك به ) قال أبو السعود : كلام مستأنف مسوق لتقرير ا قبله من الوعيد ، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان ، ببيان استحالة المغفرة بدونه . فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة . كما في قوله تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ) {[1810]} . ( يأخذون عرض هذا الأدنى ) ( أي على التحريف ) ( ويقولون سيغفر لنا ) . والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليا . فان الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة . وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار . ونزوله في حق اليهود ، كما قال مقاتل ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم . وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم ، بل يكفي اندراجه فيه قطعا . بل لا وجه له أصلا . لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر . أي لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان . لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر . وجواز مغفرته بلا ايمان مما يؤدي إلى فتحه . ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان . فمن لم يكن له ايمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي . انتهى .
قال الشهاب : الشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكا ، وبمعنى الكفر مطلقا ، وهو المراد هنا . وقد صرح به في قوله تعالى في سورة ( لم يكن ) بقوله : ( ان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها ) {[1811]} . فلا يبقى شبهة في عمومه . انتهى .
وقال الرازي : هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا ، في عرف الشرع . ويدل عليه وجهان :
الأول : أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور . فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية . وبالاجماع هي غير مغفورة . فدل على أنها داخلة / تحت اسم الشرك .
الثاني : ان اتصال هذه الآية بما قبلها ، انما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود . فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك ، والا لم يكن الأمر كذلك . فان قيل : قوله تعالى : ( ان الذين آمنوا والذين هادوا . . . ) إلى قوله : ( والذين أشركوا ) {[1812]} . فعطف المشرك على اليهودي ، وذلك يقتضي المغايرة – قلنا المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي . والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي . ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه ، دفعا للتناقض . انتهى .
قال أبو البقاء : الشرك أنواع : شرك الاستقلال وهو اثبات الهين مستقلين . كشرك المجوس . وشرك التبعيض ، وهو تركيب الاله من آلهة كشرك النصارى . وشرك التقريب ، وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى ، كشرك متقدمي الجاهلية . وشرك التقليد ، وهو عبادة غير الله تبعا للغير . كشرك متأخري الجاهلية . وشرك الأسباب . وهو اسناد التأثير للأسباب العادية ، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك . وشرك الأغراض . وهو العمل لغير الله . فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع . وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع . وحكم الخامس التفصيل . فمن قال في الأسباب العادية انها تؤثر بطبعها فقد حكي الإجماع على كفره . ومن قال انها تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق . انتهى . ( ويغفر ما دون ذلك ) أي ما دون الشرك من المعاصي ، صغيرة كانت أو كبيرة ( لمن يشاء ) تفضلا منه واحسانا . قال ابن جرير{[1813]} : وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل . ان شاء / عفا عنه وان شاء عاقبه عليه . ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز وجل اه . وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة . وان لم يقع من ذلك المذنب توبة . وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة . وقد تقدم قوله تعالى : ( ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . {[1814]} وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر . فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته . ولذا قال الرازي : هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر . ثم جود وجوه الاستدلال . ومنها : أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة . ومنها أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة . فوجب أن يكون الغفران المذكور ، في هذه الآية ، هو غفران الكبيرة قبل التوبة . وهو المطلوب .
وأول الزمخشري هذه الآية على مذهبه : بأن الفعل المنفي والمثبت جميعا ، موجهان إلى قوله تعالى : ( لمن يشاء ) على قاعدة التنازع . كأنه قيل : ان الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك . على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب . قال : ونظيره قولك : ان الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء . تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله . انتهى .
قال ناصر الدين في ( الانتصاف ) : عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة . وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له . هذا مع عدم التوبة . وأما مع التوبة فكلاهما مغفور . والآية انما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى . فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة ، كما ترى . فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة . وأما القدرية فانهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر . في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين . فاذا / عرض الزمخشري هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه . إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب ، فلا وجه للتفصيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقا . إذ هما سيان في استحالة المغفرة . وأما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في الشرك انه ( لا يغفر ) والتائب من الشرك مغفور له . وعند ذلك أخذ الزمخشري بقطع أحدهما عن الآخر . فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة . حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحدا منهما :
أحدهما : اضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر . وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا . ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل . فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب ، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء ؟
الثاني : أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر . وما هذا إلا من جعل القرآن تبعا للرأي . نعوذ بالله من ذلك .
واما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر ( السيد يعطي والعبد يمنع ) . لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر ، ان شاء . وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح ، التي هي بالفساد أجدر وأحق . انتهى .
وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة :
الأول : عن عائشة{[1815]} قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا . وديوان لا يترك الله منه شيئا . وديوان لا يغفره الله . فأما الديوان / الذي لا يغفره الله فالشرك بالله . قال الله عز وجل : ( ان الله لا يغفر أن يشرك به ) الآية . وقال : ( انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ) {[1816]} . وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها . فان الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز ، ان شاء . وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا ، فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص لا محالة " . رواه الإمام أحمد . وقد تفرد به .
الثاني : عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفره الله . وظلم يغفره الله . وظلم لا يترك الله منه شيئا . فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك . وقال : ( ان الشرك لظلم عظيم ) {[1817]} . وأما الظلم الذي يغفره الله ، فظلم العباد لأنفسهم ، فيما بينهم وبين ربهم . وأما الظلم الذي لا يتركه ، فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض " . رواه أبو بكر البزار في ( مسنده ) .
الثالث : عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره . إلا الرجل يموت كافرا . أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " . رواه الإمام أحمد{[1818]} والنسائي .
الرابع : عن أبي ذر{[1819]} : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد قال : لا اله إلا الله ، / ثم مات على ذلك ، إلا دخل الجنة . قلت : وان زنى وان سرق ؟ قال : وان زنى وان سرق . قلت : وان زنى وان سرق ؟ قال : وان زنى وان سرق ( ثلاثا ) ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر .
قال فخرج أبو ذر وهو يجر ازاره وهو يقول : وان رغم أنف أبي ذر .
وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول : وان رغم أنف أبي ذر " . أخرجه الإمام أحمد والشيخان .
وفي رواية لهما عن أبي ذر : قال صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : يا جبريل ! وان سرق وان زنى ؟ قال : نعم . قلت : وان سرق وان زنى ؟ قال : نعم . قلت : وان سرق وان زنى ؟ قال : نعم . وان شرب الخمر " .
الخامس : عن جابر قال : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟ قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . ومن مات يشرك به دخل النار " . أخرجه مسلم{[1820]} وعبد بن حميد في ( مسنده ) .
السادس : عن أبي سعيد الخدري{[1821]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " . رواه الإمام أحمد .
السابع : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي " . رواه الطبراني .
الثامن : عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له . ومن توعده على عمل عقابا ، فهو فيه بالخيار " . رواه البزار وأبو يعلى .
التاسع : عن ابن عمر ، قال : " كنا ، معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لا نشك في قاتل النفس ، / وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية : ( ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ، فأمسكنا عن الشهادة " . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير{[1822]} .
وفي رواية لابن أبي حاتم : " فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل " .
العاشر : عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : " ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية : ( ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) " . رواه الترمذي{[1823]} وقال : حديث حسن غريب .
الحادي عشر : عن أنس{[1824]} رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : يا ابن آدم ! انك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي . يا ابن آدم ! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي . يا ابن آدم ! انك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة " . رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب . لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذر{[1825]} ولفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ان الله عز وجل يقول : يا عبدي ! ما عبدتني ورجوتني فاني غافر لك على ما كان فيك . ويا عبدي ! ان لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقرابها مغفرة " .
والأحاديث في ذلك متوافرة . ويكفي هذا المقدار .
/ ( ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما ) أي افترى واختلق ، مرتكبا اثما لا يقادر قدره . ويستحقر دونه جميع الآثام . فلا تتعلق به المغفرة قطعا .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ( الجواب الكافي ) : الشرك بالرب تعالى نوعان : شرك به في أسمائه وصفاته ، وجعل آلهة أخرى معه . وشرك به في معاملته . وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار ، وان أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره . وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب ، ويدخل فيه القول على الله بلا علم ، في خلقه وأمره . فمن كان من أهل هذه الذنوب ، فقد نازع الله ، سبحانه وتعالى ، ربوبيته وملكه . وجعل له ندا . وهذا أعظم الذنوب عند الله . ولا ينفع معه عمل .
وقال بعد ذلك : وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال : ان الله عز وجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السماوات والأرض ، ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله له ، والطاعة كلها له ، والدعوة له . كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) {[1826]} . وقال تعالى : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ){[1827]} . وقال تعالى : ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ){[1828]} . وقال تعالى : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد * ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) {[1829]} . فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته ، ويعبد وحده لا يشرك به ، / وأن يقوم الناس بالقسط . وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض . كما قال تعالى{[1830]} : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) . فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل . ومن أعظم القسط التوحيد . بل هو رأس العدل وقوامه . وان الشرك ظلم عظيم . كما قال تعالى{[1831]} . ( ان الشرك لظلم عظيم ) . فالشرك أظلم الظلم . والتوحيد أعدل العدل . فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر . وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له . وما كان أشد موافقة لهذا المقصود ، فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات . فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله ، تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم . وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي . فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود ، وكان أكبر الكبائر على الإطلاق ، وحرم الله الجنة على كل مشرك ، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد ، وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا ، أو يقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة ، أو يقيل له فيها عثرة – فان المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه ندا ، وذلك غاية الجهل به . كما أنه غاية الظلم منه . وان كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه . ووقعت مسألة : وهي أن المشرك انما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى . وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء . كحال الملوك . فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية . وانما قصد تعظيمه . وقال : انما أعبد هذه الوسائط لتقربني وتدخلني عليه . فهو المقصود . وهذه وسائل وشفعاء . / فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى ومخلدا في النار وموجبا لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم ؟ وترتب على هذا سؤال آخر : وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقريب إليه بالشفعاء والوسائط ؟ فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع ، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول ، يمتنع أن تأتي به شريعة ، بل جاءت بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح ؟ وما السبب في كونه لا يغفر من دون سائر الذنوب ؟ كما قال تعالى : ( ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . فتأمل هذا السؤال . واجمع قلبك وذهنك على جوابه . ولا تستهونه فان به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين ، والعالمين بالله والجاهلين به ، وأهل الجنة وأهل النار . فنقول : ( وبالله التوفيق والتأييد ، ومنه نستمد المعونة والتسديد . فانه من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له . ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ) : الشرك شركان : شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله . وشرك في عبادته ومعاملته ، وان كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . والشرك الأول نوعان :
أحدهما : شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك . كشرك فرعون إذ قال{[1832]} ( وما رب العالمين ؟ ) وقال تعالى مخبرا عنه أنه قال{[1833]} : ( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فاطلع إلى اله موسى واني لأظنه كاذبا ) . فالشرك والتعطيل متلازمان . فكل مشرك معطل وكل معطل مشرك . لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقرا بالخالق سبحانه وصفاته . ولكن عطل حق التوحيد . وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها هو التعطيل . وهو ثلاثة أقسام : تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه . وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله . / وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد . ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود ، الذين يقولون : ما ثم خالق ومخلوق ، ولا ههنا شيئان . بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه . ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته . وانه لم يكن معدوما أصلا . بل لم يزل ولا يزال . والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت ايجادها . يسمونها العقول والنفوس . ومن هذا أشرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة . فلم يثبتوا له اسما ولا صفة . بل جعلوا المخلوق أكمل منه . إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها .
النوع الثاني : شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسمائه وربوبيته وصفاته . كشرك النصارى الذي جعلوه ثالث ثلاثة . فجعلوا المسيح إلها وأمه إلها . ومن هذا شرك المجوس القائلين باسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة . ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه ، وإنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته . ولهذا كانوا من أشباه المجوس . ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه : ( إذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) {[1834]} . فهذا جعل نفسه ندا لله ، يحيي ويميت بزعمه . كما يحيي الله ويميت . فألزمه إبراهيم ، عليه السلام ورحمة الله وبركاته ، أن طرد قولك ، أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها . وليس هذا / انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل ، بل الزاما على طرد الدليل ان كان حقا . ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم . كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم . ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم . ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الاله على الحقيقة . ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة . ومنهم من يزعم أنه اله من جملة الآلهة ، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه ، أقبل إليه واعتنى به . ومنهم من يزعم أنه معبودهم الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه . والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه . حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه . فتارة تكثر الوسائط وتارة تقل .
وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخف أمرا . فانه يصدر ممن يعتقد أنه لا اله إلا الله . وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله . وانه لا اله غيره ولا رب سواه . ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته . بل يعمل لحظ نفسه تارة وطلب الدنيا تارة . ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة . فلله من عمله وسعيه نصيب . ولنفسه وحظه وهواه نصيب . وللشيطان نصيب . وللخلق نصيب . هذا حال أكثر الناس . وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن حبان في ( صحيحه ) {[1835]} : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل . قالوا : وكيف ننجو منه ؟ يا رسول الله ! قال : قل : اللهم ! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم " .
فالرياء كله شرك . قال تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم اله واحد * فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ){[1836]} . / أي كما أنه اله واحد ، لا اله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده . فكما تفرد بالالهية ، يجب أن يفرد بالعبودية . فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء ، المقيد بالسنة . وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " اللهم اجعل عملي كله صالحا ، واجعله لوجهك خالصا . ولا تجعل لأحد فيه شيئا " . وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل . وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا . فانه ينزله منزلة من لم يعمله ، فيعاقب على ترك الأمر . فان الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة . قال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) {[1837]} . فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به . بل الذي أتى به ، شيء غير المأمور به ، فلا يصح ولا يقبل منه . ويقول الله تعالى{[1838]} : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه " . وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور . وأكبر وأصغر . والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر . وليس شيء منه مغفورا . فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب الله . فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله . وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ) {[1839]} الآية .
وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم : ( تالله ان كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين ) {[1840]} . ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة . وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل . وهذا غاية الجهل والظلم . فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب ؟ وكيف يسوى / العبيد بمالك الرقاب ؟ وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات ، العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم – بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده واحسانه وعلمه ورحمته ، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته ؟ فأي ظلم أقبح من هذا ؟ وأي حكم أشد جورا منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه ، كما قال تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) {[1841]} . فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه ! !
ويتبع هذا الشرك ، الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات . فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره ، والطواف بغير بيته ، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره ، وتقبيل الأحجار ، غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض ، أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها . وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى فيها . فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله . وفي ( الصحيحين ) {[1842]} عنه أنه قال : " لعنة الله على اليهود والنصارى . اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . وفي ( الصحيح ) {[1843]} عنه : / " ان من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء . ومن يتخذ القبور مساجد " . وفي ( الصحيح ) {[1844]}أيضا عنه : " ان من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد . ألا فلا تتخذوا القبور مساجد . فاني أنهاكم عن ذلك " . وفي ( مسند الإمام أحمد ) {[1845]} رضي الله عنه و ( صحيح ابن حبان ) عنه صلى الله عليه وسلم : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " . وقال : " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " {[1846]} . وقال : " ان من كان قبلكم ، إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور . أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " .
فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر . فكيف حال من سجد للقبر بنفسه ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم{[1847]} : " اللهم ! لا تجعل قبري وثنا يعبد " . وقد حمى النبي جانب التوحيد أعظم حماية حتى نهى{[1848]} عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها . لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين . وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح ، لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس . وأما السجود لغير الله فقال{[1849]} : " لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا الله " . و ( لا ينبغي ) في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم – للذي هو في غاية الامتناع شرعا . كقوله تعالى : ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) {[1850]} . وقوله : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) {[1851]} . وقوله : ( وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم ) {[1852]} . وقوله عن الملائكة : ( ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ) {[1853]} .
ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ . كالحلف بغيره . كما رواه أحمد{[1854]} وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " من حلف بشيء دون الله فقد أشرك " . وصححه الحاكم وابن حبان . ومن ذلك قول القائل للمخلوق : ما شاء الله وشئت . كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم{[1855]} أنه قال له رجل : " ما شاء الله وشئت . قال : أجعلتني ندا ؟ قل : ما شاء الله وحده " . وهذا ، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة ، كقوله : ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) {[1856]} – فكيف من يقول : أنا متوكل على الله وعليك ؟ وأنا في حسب الله وحسبك ؟ وما لي إلا الله وأنت ؟ وهذا من الله ومنك ؟ وهذا من بركات الله وبركاتك ؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض ؟ أو يقول : والله ! وحياة فلان . أو يقول : نذرا لله ولفلان . وأنا تائب لله ولفلان . وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك . فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل : ما شاء الله وشئت ، ثم انظر أيهما أفحش ؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة . وأنه إذا كان قد جعله ندا لله بها ، فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء ، بل لعله أن يكون من أعدائه ، ندا لرب العالمين . فالسجود والعبادة ، والتوكل والإنابة ، والتقوى والخشية ، والتحسب والتوبة ، والنذر والحلف ، والتسبيح والتكبير ، والتهليل والتحميد ، والاستغفار وحلق الرأس ، خضوعا وتعبدا ، والطواف بالبيت ، والدعاء – كل ذلك محض حق الله . لا يصلح ولا ينبغي لسواه ، من ملك مقرب ولا نبي مرسل . وفي ( مسند الإمام أحمد ) {[1857]} " أن رجلا أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب ذنبا . فلما وقف بين يديه قال : اللهم ! اني أتوب اليك ولا أتوب إلى محمد . فقال : قد عرف الحق لأهله " .
وأما الشرك في الإرادات والنيات ، فذلك البحر الذي لا ساحل له ، وقل من ينجو منه . فمن أراد بعمله غير وجه الله ، ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه ، فقد أشرك في نيته وإرادته . والإخلاص : أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإرادته ونيته . وهذه هي الحنيفية ، ملة إبراهيم ، التي أمر الله بها عباده كلهم . ولا يقبل من أحد غيرها . وهي حقيقة الإسلام . ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) {[1858]} . وهي ملة إبراهيم عليه السلام ، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء .
واذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور . فنقول : ( ومن الله وحده نستمد الصواب ) : حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به . وهذا هو التشبيه في الحقيقة . لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه يلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيها والتشبيه تعظيما وطاعة . فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الالهية . فان من خصائص الالهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده . فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق . وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، أفضل من غيره . تشبيها بمن له الأمر كله . فأزمة الأمور كلها بيده ، ومرجعها اليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع . بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد . وان أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد . فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات ، بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الالهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده . والتعظيم والاجلال والخشية والدعاء والرجاء والانابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده . ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره . فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بما لا شبيه ولا ند له . وذلك أقبح التشبيه وأبطله . ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم ، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره . مع أنه كتب على نفسه الرحمة . ومن خصائص الالهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما : غاية الحب مع غاية الذل . هذا تمام العبودية . وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم بهذين الأصلين . فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ، فقد شبهه به في خالص حقه . وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع . وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل . ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، واجتالتهم عنها . ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى . فأرسل اليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم . فازدادوا بذلك نورا على نور . يهدي الله لنوره من يشاء .
اذا عرف هذا ، فمن خصائص الالهية السجود . فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به . ومنها التوكل . فمن توكل على غيره فقد شبهه به . ومنها التوبة . فمن تاب لغيره فقد شبهه به . ومنها الحلف باسمه تعظيما واجلالا . فمن حلف بغيره فقد شبهه به . هذا في جانب التشبيه . وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع والرجاء وتعليق القلب به خوفا ورجاء ، والتجاء واستعانة ، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته والهيته . وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان . ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه . وفي ( الصحيح ){[1859]} عنه صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : العظمة ازاري والكبرياء ردائي . فمن نازعني واحدا منهما عذبته " . وإذا كان المصور ، الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة ، لتشبهه بالله في مجرد الصنعة –فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والالهية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم{[1860]} : " أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون . يقال لهم : أحيوا ما خلقتم " . وفي ( الصحيح ) {[1861]} عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة . فليخلقوا شعيرة " . فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر . والمقصود أن هذا الحال من تشبه به في صنعة صورة . فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته والهيته ؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده . كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه . وقد ثبت في ( الصحيح ) {[1862]} عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ان أخنع الأسماء عند الله رجل يتسمى بشاهان شاه ملك الملوك . ولا ملك إلا الله " . وفي لفظ : " أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك " . فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له . فهو سبحانه ملك الملوك وحده . وهو حاكم الحكام وحده . فهو الذي يحكم على الحكام كلهم ، ويقضي عليهم كلهم ، لا غيره .
حيثما وقع في حديث : من فعل كذا فقد أشرك . أو فقد كفر – لا يراد به الكفر المخرج عن الملة ، والشرك الأكبر المخرج عن الإسلام الذي تجري عليه أحكام الردة ، والعياذ بالله تعالى . وقد قال البخاري{[1863]} : باب كفران العشير وكفر دون كفر .
قال القاضي أبو بكر ابن العربي في ( شرحه ) : مراده أن يبين أن الطاعات ، كما تسمى ايمانا ، كذلك المعاصي تسمى كفرا . لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج عن الملة . فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركا أو كافرا ، فانه يعذر بالجهل والخطأ ، حتى تتبين له الحجة ، الذي يكفر تاركها ، بيانا واضحا ما يلتبس على مثله . وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعا جليا قطعيا . يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل . كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع . قال الشيخ تقي الدين في ( كتاب الإيمان ) : لم يكفر الإمام أحمد الخوارج ولا المرجئة ولا القدرية . وانما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهمية . مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية . ولا كل من قال : أنا جهمية – كفره . بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم ، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة . ولم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم ، والحج والغزو معهم ، والمنع من الخروج عليهم بما يراه لأمثالهم من الأئمة . وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم . وان لم يعلموا هم أنه كفر . كان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان . فيجمع بين طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين ، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة ، وان كانوا جهالا مبتدعين . وظلمة فاسقين . انتهى كلام الشيخ . فتأمله تأملا خاليا عن الميل والحيف .
وقال الشيخ تقي الدين أيضا : من كان في قلبه الإيمان بالرسول وبما جاء به ، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع ولو دعا إليها ، فهذا ليس بكافر أصلا . والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرا لها . ولم يكن في الصحابة من يكفرهم ، لا علي ولا غيره . بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين . كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع . وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة ، من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن . ومن كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرا في الباطن . وان كان أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه . وقد يكون في بعضهم شعبة من النفاق . ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار . ومن قال : ان الثنتين والسبعين فرقة ، كل واحد منهم يكفر كفرا ينقل عن الملة ، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة . بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة . فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة . انتهى .
وقال ابن القيم في طرق أهل البدع : الموافقون على أصل الإسلام ولكنهم مختلفون في بعض الأصول ، كالخوارج والمعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وغلاة المرجئة – فهؤلاء . أقسام :
أحدهما : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له . فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى . وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان .
القسم الثاني : متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق . ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذاته ومعاشه . فهذا مفرط مستحق للوعيد ، آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته . فهذا ، ان غلب ما فيه من البدعة والهوى ، على ما فيه من السنة والهدى ، ردت شهادته . وان غلب ما فيه من السنة والهدى ، على ما فيه من البدعة والهوى ، قبلت شهادته .
الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويترك ، تعصبا أو معاداة لأصحابه . فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا . وتكفيره محل اجتهاد . انتهى كلامه . فانظره وتأمله . فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه . وذكر أن الأئمة وأهل السنة لا يكفرونهم . هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر ، والكفر الأكبر . وبين في غالب كتبه مخازيهم . ولنذكر من كلامه طرفا تصديقا لما ذكرنا عنه . قال رحمه الله في ( المدارج ) : المثبتون للصانع نوعان :
أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيته والهيته . كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية . فانهم يثبتون مع الله الها آخر . والمجوسية القدرية تثبت مع الله خالقا للأفعال . ليست أفعالهم مخلوقة لله ولا مقدورة له . وهي صادرة بغير مشيئته تعالى وقدرته . ولا قدرة له عليها . بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين مريدين شيائين . وحقيقة قول هؤلاء : ان الله ليس ربا خالقا لأفعال الحيوان . انتهى كلامه . وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه . وشبههم بالمجوس الذين يقولون : إن للعالم خالقين . وانظر لما تكلم على التكفير هو وشيخه ، كيف حكيا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السنة . حتى مع معرفة الحق والمعاندة . قال : كفره محل اجتهاد . كما تقدم كلامه قريبا .
وقال ابن تيمية ، وقد سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير . فأجاب وأطال . وقال في آخر الجواب : لو فرض أن رجلا دفع التكفير عمن يعتقد أنه ليس بكافر ، حماية له ونصرا لأخيه المسلم ، لكان هذا غرضا شرعيا حسنا . وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران . وان اجتهد فيه فأخطأ فله أجر . وقال رحمه الله : التكفير انما يكون بانكار ما علم من الدين بالضرورة . أو بانكار الأحكام المتواترة المجمع عليها . وسئل أيضا ، قدس الله روحه ، عن التكفير الواقع في هذه الأمة ، من أول من أحدثه وابتدعه ؟ فأجاب : أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة . وعنهم تلقاه من تلقاه . وكذلك الخوارج هم أول من أظهره . واضطرب الناس في ذلك . فمن الناس من يحكي عن مالك فيه قولين . وعن الشافعي كذلك . وعن أحمد روايتان . وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم قولان . وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرا . فيطلق القول بتكفير قائله . ويقال : من قال كذا فهو كافر . لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، من تعريف الحكم الشرعي ، من سلطان ، أو أمير مطاع . كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنة . وهي كثيرة جدا . والقول بموجبها واجب على وجه العموم . والإطلاق ، من غير أن يعين شخص من الأشخاص ، فيقال : هذا كافر أو فاسق أو ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار ، لاسيما إن كان للشخص فضائل وحسنات – فان ما سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر . مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا . كما قد بسط في غير هذا الموضع . من أن موجب الذنوب تتخلف عنه توبته أو باستغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو لمحض مشيئة الله ورحمته . فإذا قلنا بموجب قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) {[1864]} الآية ، وقوله : ( ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا * وسيصلون سعيرا ) {[1865]} . وقوله : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ) {[1866]}الآية . وقوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) –الى قوله : ( ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ) {[1867]} الآية . إلى غير ذلك من آيات الوعيد ، وقلنا بموجب قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من شرب الخمر{[1868]} أو من عق والديه{[1869]} أو من غير منار الأرض{[1870]} أو من ذبح لغير الله أو لعن الله السارق أو لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه أو لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيها أو من أحدث{[1871]} في المدينة حدثا أو آوى محدثا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ، إلى غيره من أحاديث الوعيد –لم يجز أن تعين شخصا ، ممن فعل بعض هذه الأفعال ، وتقول : هذا المعين قد أصابه هذا الوعيد . لامكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة . إلى أن قال : ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك ، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد به لمانع ، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك . وهذه السبيل هي التي يجب اتباعها . فان ما سواها طريقان خبيثان :
أحدهما : القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه . ودعوى أنها عمل بموجب النصوص . وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم . وفساده معلوم بالاضطرار . وأدلته معلومة في غير هذا الموضع . فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق . لكن الشخص المعين الذي فعله لا يشهد عليه بالوعيد . فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار ، لفوات شرط أو لحصول مانع . وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها . قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق . وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده . أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها . أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها . فمن كان مؤمنا بالله ورسوله ، مظهرا للاسلام ، محبا لله ورسوله ، فان الله يغفر له لو قارف بعض الذنوب القولية أو العملية . سواء أطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي . هذا الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام . لكن المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل ، بالفرق بين النوع والعين . بل لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعي ، أنهم لا يكفرون المرجئة الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل . ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم . وإنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية لأنه ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم ، وأنه يدور على التعطيل . وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة . لكن ما كانوا يكفرون أعيانهم . فان الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه . والذي يعاقب مخالفه . أعظم من الذي يدعو فقط . والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقب . ومع هذا فالذين من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية : ان القرآن مخلوق . وان الله لا يرى في الآخرة . وان ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله ، ولا الأحاديث الصحيحة . وان الدين لا يتم إلا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة . وأن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان . وأن أقوال الجهمية والمعطلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله . بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الإمام أحمد وجلدوه وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين . ومع ذلك لا يطلقون أسيرا ولا يعطون من بيت المال إلا من وافقهم ويقر بقولهم . وجرى على الإسلام منهم أمور مبسوطة في غير هذا الموضع . ومع هذا التعطيل الذي هو شر من الشرك ، فالإمام أحمد ترحم عليهم واستغفر لهم ، وقال : ما علمت أنهم مكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا جاحدون لما جاء به . لكنهم تأولوا فأخطأوا . وقلدوا من قال ذلك . والإمام الشافعي لما ناظر حفص الفرد ، من أئمة المعطلة ، في مسألة ( القرآن مخلوق ) قال له الإمام الشافعي : كفرت بالله العظيم . فكفره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك . ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله . وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدري والجعد بن درهم وجهم بن صفوان إمام الجهمية وغيرهم . وصلى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين . وصار قتلهم من باب قتل الصائل . لكف ضررهم ، لا لردتهم . ولو كانوا كفارا لرآهم المسلمون كغيرهم . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع . وقال ابن القيم في ( شرح المنازل ) : أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة ، من وجهين مختلفين . ويكون محبوبا لله ومبغوضا من وجهين . بل يكون فيه ايمان ونفاق ، وايمان وكفر ، ويكون إلى أحدهما أقرب من الآخر . فيكون إلى أهله كما قال تعالى : ( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان ) {[1872]} . وقال : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) . فأثبت لهم ، تبارك وتعالى ، الإيمان مع مقارنة الشرك . فان كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان . وان كان تصديق برسله وهم يرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل واليوم الآخر – فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أهل الكبائر . وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها ودخولهم الجنة ، لما قام بهم من السببين . قال : وقال ابن عباس ، وفي قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) {[1873]} قال ابن عباس رضي الله عنهما : " ليس بكفر ينقل عن الملة . إذا فعله فهو به كفر . وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر " . وكذلك قال طاووس وعطاء . انتهى كلامه .
وقال الشيخ تقي الدين : كان الصحابة والسلف يقولون : انه يكون في العبد ايمان ونفاق . وهذا يدل عليه قوله عز وجل : ( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) {[1874]} . وهذا كثير في كلام السلف . يبينون أن القلب يكون فيه ايمان ونفاق . والكتاب والسنة يدل على ذلك . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم{[1875]} : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من ايمان " . فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل قليل لم يخلد في النار . وان كان معه كثير من النفاق ، فهذا يعذب في النار على قدر ما معه ثم يخرج . إلى أن قال : وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر وشعبة من شعب النفاق . وقد يكون مسلما وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية . كما قال الصحابة ، ابن عباس وغيره : كفر دون كفر . وهذا عامة قول السلف . انتهى .
فتأمل هذا الفصل وانظر حكايتهم الإجماع من السلف . ولا تظن أن هذا في المخطئ . فان ذلك مرفوع عنه اثم خطئه كما تقدم مرارا عديدة .
وقال الشيخ تقي الدين في كتاب ( الايمان ) : الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن . وان المنافقين الذين قالوا : ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) {[1876]} ، هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع المسلمين ويناكحونهم ويوارثونهم . كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بحكم الكفار المظهرين الكفر لا في مناكحتهم ولا في موارثتهم ولا نحو ذلك . بل لما مات عبد الله بن أبي ، وهو من أشهر الناس في النفاق ، ورثه عبد الله ابنه ، وهو من خيار المؤمنين . وكذلك سائر من يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون . وإذا مات لهم وارث ورثوه مع المسلمين وان علم أنه منافق في الباطن . وكذلك كانوا في الحدود والحقوق كسائر المسلمين . وكانوا يغزون مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك . ومع هذا ، ففي الظاهر ، تجري عليهم أحكام أهل الايمان . إلى أن قال : ودماؤهم وأموالهم معصومة ولا يستحل منهم ما يستحل من الكفار . والذين يظهرون أنهم مؤمنون ، بل يظهرون الكفر دون الايمان ، فانه صلى الله عليه وسلم قال{[1877]} : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الله وأني رسول الله . فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . وحسابهم على الله " . وكما قال لأسامة{[1878]} : " أقتلته بعد أن قال لا اله إلا الله ؟ قال : فقلت : انما قالها تعوذا . قال : هل شققت عن قلبه ؟ " وقال{[1879]} : " اني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم " . وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول : " أليس يصلي ؟ أليس يشهد ؟ " فاذا قيل له : انه منافق ، قال ذلك . فكان حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم ولا يستحل منها شيئا مع أنه يعلم نفاق كثير منهم . انتهى كلام الشيخ .
وقد أوضح حجة الاسلام الغزالي رضي الله عنه في ( فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة ) الكفر المخرج عن الملة ، والعياذ بالله تعالى ، بعد مقدمته المدهشة بقوله : لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتنافض عليك أصناف المقلدين . فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض . ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الاسلام . وان اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول : ( لا اله إلا الله محمد رسول الله ) صادقين بها غير مناقضين لها . فأقول : الكفر هو تكذيب الرسول عليه السلام في شيء مما جاء به . والايمان تصديقه في جميع ما جاء به . فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه السلام . والبرهمي كافر بالطريق الأولى . لأنه أنكر ، مع رسولنا ، سائر المرسلين . والدهري كافر بالطريق الأولى ، لأنه أنكر ، مع رسولنا المرسل ، سائر الرسل . وهذا لأن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا . / إذ معناه . اباحة الدم والحكم بالخلود في النار . ومدركه شرعي فيدرك اما بنص واما بقياس على منصوص . وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى . والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية . وكلهم مشركون . فانهم مكذبون للرسول . فكل كافر مكذب للرسول ، وكل مكذب فهو كافر . فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة .
وتتمة هذا البحث في هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه فاضل . فارجع اليه . وعض بنواجذك عليه . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .