الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ }[ النساء :48 ] .

هذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ ببَيَانِ ما تَعَارَضَ مِنْ آيات الوعْدِ والوعيدِ ، وتلخيصُ الكلامِ فيها أنْ يُقَالَ : النَّاسُ أربعةُ أصْنَافٍ : كَافِرٌ مات على كُفْره ، فهذا مُخَلَّد في النَّار بإجمَاع ، ومُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قطُّ ، وماتَ على ذلك ، فهذا في الجنة مَحْتُومٌ علَيْه حَسَبَ الخَبَرِ من اللَّه تعالى بإجماع ، وتَائِبٌ مَاتَ على توبتِهِ ، فهو عنْدَ أَهْلِ السُّنَّة وجمهورِ فُقَهَاء الأُمَّة لاَحِقٌ بالمُؤْمِنِ المُحْسِنِ ، إلاَّ أنَّ قانُونَ المتكلِّمين أنَّه في المَشيئَةِ ، ومُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ ، فهذا هو موضعُ الخلاَفِ ، فقالَت المُرْجِئَةُ : هو في الجنَّة بإيمانه ، ولا تَضُرُّه سيئاته ، وجعلوا آيات الوعيدِ كلَّها في الكُفَّار ، وآياتِ الوَعْد عامَّةً في المؤْمنين ، تَقِيّهِمْ وعَاصِيهِمْ ، وقالتِ المعتزِلةُ : إذا كان صاحبَ كبيرةٍ ، فهو في النَّار ، ولا بُدَّ ، وقالتِ الخوارجُ : إذا كان صاحِبَ كَبيرة ، أو صغيرةٍ ، فهو في النَّار مخلَّد ، ولا إيمان له ، لأنهم يَرَوْنَ كل الذنُوبِ كبائرَ ، وجعلوا آيات الوَعْدِ كلَّها في المؤمِنِ الذي لم يَعْصِ قَطُّ ، والمؤمِنِ التائِبِ ، وقال أهْلُ السُّنَّة : هو في المشيئة ، وهذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ ، وهي النصُّ في مَوْضِعِ النِّزاعِ ، وذلك أنَّ قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } فصْلٌ مجمعٌ عليه ، وقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } فَصْلٌ قاطع للمعتزلة ، رادٌّ على قولهم ، ردًّا لا محيدَ لهم عنه ، ولو وقَفْنَا في هذا الموضع مِنَ الكلامِ ، لَصَحَّ قولُ المرجئَةِ ، فجاء قوله : { لِمَن يَشَاءُ } ، ردًّا عليهم ، مبيناً أنَّ غفران مَا دُونَ الشِّرْك إنما هو لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ ، بخلاف ما زَعَمُوه مِنْ أنه مغفورٌ لكلِّ مؤمنٍ ، ولما حتم سبحانه على أنه لا يغفرُ الشِّرك ، ذكر قُبْحَ موقعه ، وقَدْرِهِ في الذُّنُوبِ ، والفِرْيَةُ : أشدُّ مراتبِ الكَذِبِ قُبْحاً ، وهو الاختلاقُ .