تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

9 - 14 إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ .

أي : اذكروا نعمة اللّه عليكم ، لما قارب التقاؤكم بعدوكم ، استغثتم بربكم ، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم فَاسْتَجَابَ لَكُمْ وأغاثكم بعدة أمور : .

منها : أن اللّه أمدكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي : يردف بعضهم بعضا .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : ويبطل الباطل حين تستغيثون ربكم ، ف «إذا » من صلة «يبطل » ومعنى قوله : تسْتَغيثونَ رَبّكُمْ : تستجيرون به من عدوّكم ، وتدعونه للنصر عليهم . فاسْتَجابَ لَكُمْ يقول : فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يُردف بعضهم بعضا ويتلو بعضهم بعضا .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الأخبار بذلك .

حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة بن عمار ، قال : ثني سماك الحنفي ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعدتهم ، ونظر إلى أصحابه نيفا على ثلاث مئة ، فاستقبل القبلة ، فجعل يدعو ويقول : «اللهمّ أنْجِزْ لي ما وَعَدَتْني اللّهُمّ إنْ تَهْلِكَ هَذهِ العِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلامِ ، لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ » فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فوضع رداءه عليه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : كفاك يا نبيّ الله بأبي وأمي مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله : إذْ تَسْتَغِثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : لما اصطفّ القوم ، قال أبو جهل : اللهمّ أولانا بالحقّ فانصره ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، فقال : «يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الأرْضِ أبَدا » .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «اللّهُمّ رَبّنا أنْزَلْتَ عَليّ الكِتابَ ، وأمَرْتَنِي بالقِتالِ ، وَوَعَدْتَنِي بالنّصْرِ ، وَلا تُخْلِفُ المِيعادَ » فأتاهُ جِبرِيل عليه السلام ، فأنزل الله : ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن ابن إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع قال : كان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ، يقول : «اللّهُمّ انْصُرْ هَذِهِ العِصَابَةَ ، فإنّكَ إنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنْ تُعْبَدَ في الأرْض » قال : فقال أبو بكر : بَعْضَ مناشدتك منجزك ما وعدك .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره ، فأنزل الله عليه الملائكة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ قال : دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ : أي بدعائكم حين نظروا إلى كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، فاستجاب لكم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم معه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشدّ النشدة ، يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله بعض نشدتك ، فوالله ليفينّ الله لك بما وعدك .

وأما قوله : أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فقد بينا معناه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يقول : المزيد ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُرْدِفِينَ قال : متتابعين .

قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ قال : وراء كلّ ملك ملك .

حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُرْدِفِينَ قال : متتابعين .

قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج بن أرطأة ، عن قابوس ، قال : سمعت أبا ظبيان يقول : مُرْدِفِينَ قال : الملائكة بعضهم على إثر بعض .

قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : مُرْدِفِينَ قال : بعضهم على إثر بعض .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : مُرْدِفِينَ قال : ممدين . قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : مُرْدِفِينَ الإرداف : الإمداد بهم .

حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي متتابعين .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يتبع بعضهم بعضا .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مُرْدِفِينَ قال : المردفين بعضهم على إثر بعض ، يتبع بعضهم بعضا .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يقول : متتابعين يوم بدر .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : «مُرْدَفِينَ » بنصب الدال . وقرأه بعض المكيين وعامّة قرّاء الكوفيين والبصريين : مُرْدِفِينَ . وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك ، ويقول فيما ذُكر عنه : هو من أردف بعضهم بعضا . وأنكر هذا القول من قول أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب ، وقال : إنما الإرداف : أن يحمل الرجل صاحبه خلفه ، قال : ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر .

واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرىء بفتح الدال أو بكسرها ، فقال بعض البصريين والكوفيين : معنى ذلك إذا قرىء بالكسر أن الملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضا على لغة من قال : أردفته وقالوا : العرب تقول : أردفته وردفته ، بمعنى : تبعته وأتبعته . واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر :

إذَا الجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثّرَيّا ***ظَنَنْتُ بِآلِ فاطِمَة الظّنُونا

قالوا : فقال الشاعر : «أردفت » ، وإنما أراد «ردفتُ » جاءت بعدها ، لأن الجوزاء تجىء بعد الثريا . وقالوا معناه إذا قرىء مُرْدَفِينَ أنه مفعول بهم ، كأن معناه : بألف من الملائكة يُردف الله بعضهم بعضا .

وقال آخرون : معنى ذلك إذا كسرت الدال : أردفت الملائكة بعضها بعضا ، وإذا قرىء بفتحها : أردف الله المسلمين بهم .

والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم أن معناه : يتبع بعضهم بعضا ومتتابعين . ففي إجماعهم على ذلك من التأويل الدليل الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال ، بمعنى : أردف بعض الملائكة بعضا ، ومسموع من العرب : جئت مِرْدِفا لفلان : أي جئت بعده .

وأما قول من قال : معنى ذلك إذا قرىء «مُرْدَفِينَ » بفتح الدال : أن الله أردف المسلمين بهم ، فقول لا معنى له إذ الذكر الذي في مردفين من الملائكة دون المؤمنين .

وإنما معنى الكلام : أن يمدّكم بألف من الملائكة يردَف بعضهم ببعض ، ثم حذف ذكر الفاعل ، وأخرج الخبر غير مسمى فاعله ، فقيل : مُرْدَفِينَ بمعنى : مردَف بعضُ الملائكة ببعض ، ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله وجب أن يكون في المردَفين ذكر المسلمين لا ذكر الملائكة ، وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن .

وقد ذكر في ذلك قراءة أخرى ، وهي ما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال عبد الله بن يزيد : «مُرْدِفِينَ » ، ومُرْدَفِينَ و «مُرْدّفِينَ » ، مثقل على معنى : مُرْتَدِفين .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : ثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جبير ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنا فيها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

وقوله : { إذ تستغيثون ربكم } الآية ، { إذ } متعلقة بفعل ، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال الآية : 7 ] وقال الطبري : هي متعلقة ب { يحق . . ويبطل } .

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يعمل فيها { يعدكم } [ الأنفال : 7 ] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم ، و { تستغيثون } معناه تطلبون ، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم ، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى ، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال ، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك ، وقرأ جمهور الناس «أني » بفتح الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني » بكسر الألف أي قال إني ، و { ممدكم } أي مكثركم ومقويكم من أمددت . وقرأ جمهور الناس «بألف » وقرأ عاصم الجحدري «بآلف »{[5227]} على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف ، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران{[5228]} ، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً «بآلاف » و { مردفين } معناه متبعين ، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف { مردفين } على هذا حال من الضمير في قوله { ممدكم } ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع «مردِفين » بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً{[5229]} وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك ، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء ، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين .

ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً ، ومن قال «مردفين » بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية ، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مرَدِّفين » بفتح الراء وكسر الدال وشدها .

وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك ، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك ، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه ، وحكاه أبو حاتم قال : كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ، ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة ، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر [ خزيمة بن مالك ] : [ الوافر ]

إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثّريَا*** ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا{[5230]}

والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر ، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل : لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف ، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها ، وقال ابن عباس : كانا في خمسمائة خمسمائة ، وقال الزجّاج : قال بعضهم : إن الملائكة خمسة آلاف ، وقال بعضهم : تسعة آلاف ، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير .


[5227]:- أصلها على هذا (أألف) بهمزتين قلبت الثانية منهما ألفا لأنها ساكنة وما قبلها مفتوح فصارت (آلف).
[5228]:- في قوله تعالى في الآية (125): {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
[5229]:- قال الإمام ابن خالويه: "الحجة لمن كسر الدال أنه جعل الفعل للملائكة فأتى باسم الفاعل من (أردف)، والحجة لمن فتح الدال أنه جعل الفعل لله عز وجل فأتى باسم المفعول من (أردف)، والعرب تقول: أردفت الرجل: أركبته على قطاة دابتي خلفي، وردفته: إذا ركبت خلفه: راجع كتاب "الحجة في القراءات السبع"- هذا وقطاة الدابة: العجز وما بين الوركين، أو مقعد الرديف من الدابة. "القاموس المحيط- مادة: قطا".
[5230]:- البيت لخزيمة بن مالك بن نهد- جاء ذلك في (اللسان) مادة: ردف، قال: وأردفه: لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه معنى، قال خزيمة: إذ الجوزاء.." وهو يريد فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين، ومعنى البيت على ما حكاه اللسان عن أبي بكر بن السراج: إن الجوزاء تردف الثريا في شدة الحر، فتتكبد السماء في آخر الليل، وعند ذلك تنقطع المياه وتجف فتتفرق الناس في طلب المياه، فتغيب عنه محبوبته، فلا يدري أين مضت، ولا أين نزلت. (راجع اللسان والتاج).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

يتعلق ظرف { إذ تستغيثون ربكم } بفعل { يريد الله } [ الأنفال : 7 ] لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمانُ استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ ربّهم على عدوهم ، حين لقائهم مع عدوهم يومَ بدر ، فكانت استجابة الله لهم بإمدادهم بالملائكة ، من مظاهر إرادته تحقيقَ الحق فكانت الاستغاثةُ يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يُحِق الحق حصلت في المدينة يوم وعَدَهم الله إحدى الطائفتين ، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة ، وبيْنَ وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدةَ أيام ، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها ، لأنه اقترن ببعضها في امتدادها ، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه .

وقد أشارت الآية إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب قال « نظر نبيء الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فاستقبل نبيء الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تَهْلك هذه العصابة من أهل الإسلام ( لا ) تُعَبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمَه من ورائه فقال يا نبيء الله كفَاك مُناشَدَةُ ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردَفين } أي فأنزل الله في حكاية تلك الحالة . وعلى هذه الرواية يكون ضمير { تستغيثون } مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأنه كان يدعو لأجلهم ، ولأنه كان معلنا بدعائه وهم يسمعونه ، فهم بحال من يدعون ، وقد جاء في « السيرة » أن المسلمين لما نزلوا ببدر ورأوا كثرة المشركين استغاثوا الله تعالى فتكون الاستغاثة في جميع الجيش والضمير شاملاً لهم .

والاستغاثة : طلب الغوث ، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة .

{ فاستجاب لكم } أي وعدكم بالإغاثة .

وفعل استجاب يدل على قبول الطلب ، والسين والتاء فيه للمبالغة أي تحقيق المطلوب .

وقوله : { أني ممدكم بألف من الملائكة } هو الكلام المستجاب به ولذلك قدره في « الكشاف » بأن أصله بأني ممدكم أي فحذف الجار وسلط عليه { استجاب } فنصب محله .

وأرى أن حرف ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد ( ما ) فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد كما كانت تفيد معنى المصدرية مع التأكيد ، فمن البيّن أن ( أن ) المفتوحة الهمزة مركبة من ( أنْ ) المفتوحة الهمزة المخففة النون المصدرية في الغالب ، يجوز أن يُعتبر تركيبها من ( أنْ ) التفسيرية إذا وقعت بعد ( ما ) فيه معنى القول دون حروفه ، وذلك مظنة ( أن ) التفسيرية ، وأعْتضِدُ بما في « اللسان » من قول الفراء : « إذا جاءت [ أن : ] بعد القول وما تصرف من القول كانت حكاية ، فلم يقع عليها ( أي القول ) فهي مكسورة ، وإن كانت تفسيراً للقول نصبتَها ومثله : قد قلت لك كلاماً حسناً أن أباك شريف ، فتحتَ أن لأنها فسرت الكلام .

قلت : ووقوع ( أن ) موقع التفسير كثير : في الكلام . وفي القرآن ، ومنه قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] الآية ، ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله : { أني ممدكم بألف من الملائكة } في كون ( أن ) تفسيرية ، دون كونها مجرورة بحرف جر محذوف . مع أن معنى ذلك الحرف غير بين .

والإمداد إعطاء المدد وهو الزيادة من الشيء النافع .

وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب : بفتح الدال من { مردَفين } أي يَرِدُ فهم غيرُهم من الملائكة ، وقرأ البقية : بكسر الدال أي تكون الألف رادِفاً لغيرهم قبلَهم .

والإرداف الإتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مدداً ، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران ، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله : { بثلاثة آلافٍ } في سورة آل عمران ( 124 ) ، وهم مردَفون بألفين ، فتلك خمسة آلاف ، وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيماً أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو .

ويوجه سيوفهم ، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى : إما بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيهم ، وإما بإراءة الله الناس ما ليس من شأنه أن يُرى عادة .