ثم قال تعالى : { وَلَكُمْ } أيها الأزواج { نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }
ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه ، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأُنثى ، الواحد والمتعدد ، الذي من الزوج أو من غيره ، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي : من أم ، كما هي في بعض القراءات . وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأُم ، فإذا كان يورث كلالة أي : ليس للميت والد ولا ولد أي : لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا . وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد .
{ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } أي : من الأخ والأخت { السُّدُسُ } ، { فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } أي : من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أي : لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين . ودل قوله : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء ، لأن لفظ " التشريك " {[189]} يقتضي التسوية .
ودل لفظ { الْكَلَالَةِ } على أن الفروع وإن نزلوا ، والأصولَ الذكور وإن علوا ، يُسقطون أولاد الأُم ، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة ، فلو لم يكن يورث كلالة ، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا .
ودل قوله : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية . وهى : زوج ، وأم ، وإخوة لأم ، وإخوة أشقاء . للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخوة للأم الثلث ، ويسقط الأشقاء ، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأُم ، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه . وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض ، والأشقاء عصبات . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : - " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم ، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء ، فيَسْقُط الأشقاء ، وهذا هو الصواب في ذلك .
وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب ، فمذكور في قوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } الآية .
فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف ، والثنتان لهما الثلثان ، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف ، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب{[190]} وهو السدس تكملة الثلثين . وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن . وإن كان الإخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين .
فإن قيل : فهل يستفاد حكم ميراث القاتل ، والرقيق ، والمخالف في الدين ، والمبعض ، والخنثى ، والجد مع الإخوة لغير أم ، والعول ، والرد ، وذوي الأرحام ، وبقية العصبة ، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا ؟
قيل : نعم ، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات . فأما ( القاتل والمخالف في الدين ) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي .
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله : { لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه{[191]} بأعظم الضرر ، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث . فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث ، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن " من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه "
وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له ، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث ، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه ، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب ، فلم يعمل الموجب لقيام المانع . يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية ، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به . فيكون قوله تعالى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } إذا اتفقت أديانهم ، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة .
قال ابن القيم في " جلاء الأفهام " : وتأمل هذا المعنى في آية المواريث ، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة ، كما في قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب ، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب ، فلا يقع بينهما التوارث . وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين{[192]} [ انتهى ] .
وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث ، أما كونه لا يورث فواضح ، لأنه ليس له مال يورث عنه ، بل كل ما معه فهو لسيده . وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك ، فإنه لو ملك لكان لسيده ، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن } { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ونحوها لمن يتأتى منه التملك ، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك ، فعلم أنه لا ميراث له . وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه . فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث ، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك ، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك ، فإذا يكون المبعض ، يرث ويورث ، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية . وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما ، مثابا ومعاقبا ، بقدر ما فيه من موجبات ذلك ، فهذا كذلك . وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته ، أو مشكلا . فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح .
إن كان ذكرا فله حكم الذكور ، ويشمله النص الوارد فيهم .
وإن كان أنثى فله حكم الإناث ، ويشملها النص الوارد فيهن .
وإن كان مشكلا ، فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح ، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته ، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك ، لم نعطه أكثر التقديرين ، لاحتمال ظلم من معه من الورثة ، ولم نعطه الأقل ، لاحتمال ظلمنا له . فوجب التوسط بين الأمرين ، وسلوكُ أعدل الطريقين ، قال تعالى : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور . و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب ، وهل يرثون معه أم لا ؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم ، كما يحجبهم الأب .
وبيان ذلك : أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى : { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } الآية . وقال يوسف عليه السلام : { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }
فسمى الله الجد وجد الأب أبا ، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب ، يرث ما يرثه الأب ، ويحجب من يحجبه .
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم ، وسائر أحكام{[193]} المواريث ، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم .
وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب ؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه . فلم لا يحجب جد الميت أخاه ؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد ، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح .
وأما مسائل ( العول ) فإنه يستفاد حكمها من القرآن ، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء ، وهم بين حالتين :
إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا . فإن حجب بعضهم بعضا ، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا ، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو ، إما أن لا تستغرق الفروض التركة ، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص ، أو تزيد الفروض على التركة ، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا . وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين :
إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له ، ونكمل للباقين منهم فروضهم ، وهذا ترجيح بغير مرجح ، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر ، فتعينت الحال الثانية ، وهي : أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان ، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم ، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول ، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه .
وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد ، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح ، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل ، ومعارضة لقوله : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم .
ولما كان الزوجان ليسا من القرابة ، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [ هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد ، وهم جمهور القائلين بالرد ، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا ، وعلى القول الآخر ، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما ؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما ، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض ، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة ، والقياس الصحيح ، والله أعلم ]{[194]}
وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا ، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب ، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره ، فتعين توريث ذوي الأرحام .
وإذا تعين توريثهم ، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله . وأن بينهم وبين الميت وسائط ، صاروا بسببها من الأقارب . فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط . والله أعلم .
وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة وبنيهم ، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر " وقال تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء ، لم يستحق العاصب شيئًا ، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة ، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم .
فإن جهات العصوبة خمس : البنوة ، ثم الأبوة ، ثم الأخوة وبنوهم ، ثم العمومة وبنوهم ، ثم الولاء ، فيقدم منهم الأقرب جهة . فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة ، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى ، وهو الشقيق ، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا . والله أعلم .
وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات ، يأخذن ما فضل عن فروضهن ، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات .
فإذا كان الأمر كذلك ، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن ، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن ، كابن الأخ والعم ، ومن هو أبعد منهم . والله أعلم .
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لّمْ يَكُنْ لّهُنّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لّمْ يَكُنْ لّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَىَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرّ وَصِيّةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولكم أيها الناس نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن من مال وميراث إن لم يكن لهنّ ولد يوم يحدث لهنّ الموت لا ذكر ولا أنثى . { فإنْ كَانَ لهُنّ وَلَدٌ } أي فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهنّ الموت ولد ذكر أو أنثى ، فلكم الربع مما تركن من مال وميراث ، ميراثا لكم عنهنّ ، { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بها أو دَيْنٍ } يقول : ذلكم لكم ميراثا عنهنّ مما يبقى من تركاتهنّ وأموالهنّ من بعد قضاء ديونهنّ التي يمتن وهي عليهن ، ومن بعد إنفاذ وصاياهنّ الجائزة إن كنّ أوصين بها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ولهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَركْتُمْ إنْ لمْ يَكُنْ لَكُمْ ولَدٌ فإنْ كانَ لَكُمْ ولَدٌ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَركْتُمْ مِنْ بَعْدِ وِصّيةٍ تُوصُون بِها أوْ ديْنٍ } :
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { ولهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَركْتُمْ إنْ لمْ يَكُنْ لَكُمْ ولَدٌ } : ولأزواجكم أيها الناس ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث إن حدث بأحدكم حدث الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى . { فإنْ كانَ لَكُمْ ولَدٌ } يقول : فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى ، واحدا كان الولد أو جماعة ، { فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَركْتُمْ } يقول : فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم ، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها . وإنما قيل : { مِنْ بَعْدِ وِصّيةٍ تُوصُون بِها أوْ ديْنٍ } فقدّم ذكر الوصية على ذكر الدين ، لأن معنى الكلام : إن الذي فرضت لمن فرضت له منكم في هذه الاَيات إنما هو له من بعد إخراج أيّ هذين كان في مال الميت منكم ، من وصية أو دين . فلذلك كان سواء تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين ، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية ، لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج أحد الشيئين : الدين والوصية من ماله ، فيكون ذكر الدين أولى أن يبدأ به من ذكر الوصية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة .
ثم اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأ ذلك عامة قراء أهل الإسلام : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً } يعني : وإن كان رجل يورَث متكلل النسب . فالكلالة على هذا القول مصدر من قولهم : تكلله النسب تكللاً وكلالة ، بمعنى : تعطف عليه النسب . وقرأه بعضهم : «وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً » بمعنى : وإن كان رجل يورث من يتكلله ، بمعنى : من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت .
واختلف أهل التأويل في الكلالة ، فقال بعضهم : هي ما خلا الوالد والولد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الوليد بن شجاع السكوني ، قال : ثني عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : قال أبو بكر رضي الله عنه : إني قد رأيت في الكلالة رأيا ، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يكن خطأً فمني والشيطان ، والله منه بريءٌ¹ إنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد . فلما استخلف عمر رضي الله عنه ، قال : إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عاصم الأحول ، قال : حدثنا الشعبي : أن أبا بكر رضي الله عنه ، قال في الكلالة : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله : هو ما دون الولد والوالد . قال : فلما كان عمر رضي الله عنه ، قال : إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر .
حدثنا أبو بشر بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي : أن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن عمران بن حدير ، عن السميط ، قال : كان عمر رجلاً أيسر ، فخرج يوما وهو يقول بيده هكذا ، يديرها ، إلا أنه قال : أتى عليّ حينٌ ولست أدري ما الكلالة ، ألا وإن الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي بكر ، قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن جريج يحدّث عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثنا ابن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد السلولي ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ } قال : الكلالة : من لم يترك ولدا ولا والدا .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن ما مات ولم يدع ولدا ولا والدا أنه كلالة .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أن الكلالة : الذي ليس له ولد ولا والد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : أدركتهم وهم يقولون : إذا لم يدع الرجل ولدا ولا والدا وُرِثَ كلالة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ } والكلالة : الذي لا ولد له ولا والد ، لا أب ولا جدّ ولا ابن ولا ابنة ، فهولاء الإخوة من الأم .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، قال في الكلالة : ما دون الولد والوالد .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد ، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة من رجالهم ونسائهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والزهري وأبي إسحاق ، قال : الكلالة : من ليس له ولد ولا والد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن محمد ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق ، مثله .
وقال آخرون : الكلالة : ما دون الولد . وهذا قول عن ابن عباس ، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه أنه ورث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين .
وقال آخرون : الكلالة : ما خلا الوالد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم عن الكلالة ؟ قال : فهو ما دون الأب .
واختلف أهل العربية في الناصب للكلالة¹ فقال بعض البصريين : إن شئت نصبت كلالة على خبر كان ، وجعلت «يورث » من صفة الرجل ، وإن شئت جعلت «كان » تستغني عن الخبر نحو : وقع ، وجعلت نصب كلالة على الحال : أي يورث كلالة ، كما يقال : يضرب قائما . وقال بعضهم : قوله «كلالة » ، خبر «كان » ، لا يكون الموروث كلالة ، وإنما الوارث الكلالة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أن الكلالة منصوب على الخروج من قوله { يُورَثُ } وخبر «كان » «يورث » . والكلالة وإن كانت منصوبة بالخروج من يورث ، فليست منصوبة على الحال ، ولكن على المصدر من معنى الكلام ، لأن معنى الكلام وإن كان رجل يورث متكلله النسب كلالة ، ثم ترك ذكر متكلله اكتفاء بدلالة قوله : «يورث » عليه .
واختلف أهل العلم في المسمى كلالة ، فقال بعضهم : الكلالة : الموروث ، وهو الميت نفسه ، سمي بذلك إذا ورثه غير والده وولده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قولهم في الكلالة ، قال : الذي لا يدع والدا ولا ولدا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر رضي الله عنه ، فسمعته يقول ما قلت ، قلت : وما قلت ؟ قال : الكلالة : من لا ولد له .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ويحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة : من لا ولد له ولا والد .
وقال آخرون : الكلالة : هي الورثة الذين يرثون الميت إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم إذا لم يكونوا ولدا ولا والدا على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك .
وقال آخرون : بل الكلالة : الميت والحيّ جميعا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الكلالة : الميت الذي لا ولد له ولا والد ، والحيّ كلهم كلالة ، هذا يرث بالكلالة ، وهذا يورث بالكلالة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله هؤلاء ، وهو أن الكلالة الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده ، وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أنه قال : قلت يا رسول الله ، إنما يرثني كلالة ، فكيف بالميراث ؟ وبما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، قال : كنا مع حميد بن عبد الرحمن في سوق الرقيق ، قال : فقام من عندنا ثم رجع ، فقال : هذا آخر ثلاثة من بني سعد حدثوني هذا الحديث ، قالوا : مرض سعد بمكة مرضا شديدا ، قال : فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقال : يا رسول الله لي مال كثير ، وليس لي وارث إلا كلالة ، فأوصي بمالي كله ؟ فقال : «لا » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن العلاء بن زياد ، قال : جاء شيخ إلى عمر رضي الله عنه ، فقال : إني شيخ وليس لي وارث إلا كلالةُ أعرابٍ متراخٍ نَسَبهم ، أفأوصي بثلث مالي ؟ قال : لا .
فقد أنبأت هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى الكلالة وأنها ورثة الميت دون الميت ممن عدا والده وولده .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدً مِنْهُما السّدُسُ فإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثّلُثِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { ولَهُ أخٌ أو أخْتٌ } وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت يعني أخا أو أختا من أمه . كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم ، عن سعد ، أنه كان يقرأ : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } قال سعد : لأمه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت القاسم بن ربيعة يقول : قرأت على سعد : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } قال سعد : لأمه .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة بن قانف ، قال : قرأت على سعد ، فذكر نحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة ، قال : سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ : «وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت » من أمه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } فهؤلاء الإخوة من الأم إن كان واحدا فله السدس ، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } فهؤلاء الإخوة من الأم ، فهم شركاء في الثلث ، سواء الذكر والأنثى .
وقوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ } إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها ، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه فله السدس من ميراث أخيه لأمه ، فإن اجتمع أخ وأخت أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما ، أو أختان كذلك ، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما ، فلكلّ واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس . { وَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } يعني : فإن كان الإخوة والأخوات لأمّ الميت الموروث كلالة أكثر من اثنين ، { فَهُمْ شُرَكاءَ فِي الثّلُثِ } يقول : فالثلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة شركة بينهم إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رءوسهم ، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك ، ولكنه بينهم بالسوية .
فإن قال قائل : وكيف قيل وله أخ أو أخت ، ولم يقل لهما أخ أو أخت ، وقد ذكر قبل ذلك «رجل أو امرأة » ، فقيل : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ؟ قيل : إن من شأن العرب إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر فعطفت أحدهما على الاَخر بأو ثم أتت بالخبر أضافت الخبر إليهما أحيانا وأحيانا إلى أحدهما ، وإذا أضافت إلى أحدهما ، كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أيّ الأسمين اللذين ذكرتهما إضافته ، فتقول : من كان عنده غلام أو جارية فليحسنْ إليه ، يعني : فليحسن إلى الغلام ، وفليحسن إليها ، يعني : فليحسن إلى الجارية ، وفليحسن إليهما . وأما قوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهما السّدُسُ } وقد تقدم ذكر الأخ والأخت بعطف أحدهما على الاَخر ، والدلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله : { وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } فإن ذلك إنما جاز لأن معنى الكلام : فلكل واحد من المذكورين السدس .
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَا أوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّة يُوصَى بِها } : أي هذا الذي فرضت لأخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته ، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حدث الموت من تركته ، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِها أوْ دَيْنٍ } والدين أحقّ ما بدىء به من جميع المال ، فيؤدى عن أمانة الميت ، ثم الوصية ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم .
وأما قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } فإنه يعني تعالى ذكره : من بعد وصية يوصي بها غير مضارّ ورثته في ميراثهم عنه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } قال : في ميراث أهله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } قال : في ميراث أهله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثني يزيد ، قال : ثني سعيد ، عن قتادة ، قوله : { غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّة مِنَ اللّهِ } إن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدم فيه ، فلا تصلح مضارّة في حياة ولا موت .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا عبيدة بن حميد ، وثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الاَية : { غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } قال : الضرار في الوصية من الكبائر .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الضرار في الوصية من الكبائر .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الحيف في الوصية من الكبائر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ وعبد الأعلى ، قالا : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الضرار والحيف في الوصية من الكبائر .
حدثني موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النصر ، قال : حدثنا عمر بن المغيرة ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «الضّرَارُ في الوَصِيّةِ مِنَ الكَبَائِرِ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو عمرو التيمي ، عن أبي الضحى ، قال : دخلت مع مسروق على مريض ، فإذا هو يوصي ، قال : فقال له مسروق : اعدل لا تضلل !
ونصبت «غيرَ مضارّ » على الخروج من قوله : { يُوصَى بِها } . وأما قوله : { وَصِيّةً } فإن نصبه من قوله : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ } وسائر ما أوصى به في الاثنين ، ثم قال : { وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } مصدرا من قوله : { يُوصِيكُمْ } . وقد قال بعض أهل العربية : ذلك منصوب من قوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } قال : هو مثل قولك : لك درهمان نفقة إلى أهلك .
والذي قلناه بالصواب أولى ، لأن الله جلّ ثناؤه افتتح ذكر قسمة المواريث في هاتين الاَيتين بقوله : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } ثم ختم ذلك بقوله : { وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } أخبر أن جميع ذلك وصية منه به عباده ، فنصب قوله : { وَصِيّةً } على المصدر من قوله : { يُوصِيكُمْ } أولى من نصبه على التفسير من قوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ } لما ذكرنا . ويعني بقوله تعالى ذكره : { وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } : عهدا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم . { وَاللّهُ عَلِيمٌ } يقول : ذو علم بمصالح خلقه ومضارّهم ، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه ، ومن يحرم ذلك منهم ، ومبلغ ما يستحقّ به كلّ من استحقّ منهم قسما ، وغير ذلك من أمور عباده ومصالحهم . { حَلِيمٌ } يقول : ذو حلم على خلقه ، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضا في إعطائهم الميراث لأهل الجلد والقوّة من ولد الميت وأهل الغناء والبأس منهم ، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم .
{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن } أي ولد وارث من بطنها ، أو من صلب بنيها ، أو بني بنيها وإن سفل ذكرا كان أو أنثى منكم أو من غيركم . { من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما للمرأة كما في النسب ، وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب ، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة ، وتستوي الواحدة والعدد منهم في الربع والثمن . { وإن كان رجل } أي الميت . { يورث } أي يورث منه من ورث صفة رجل . { كلالة } خبر كان أو يورث خبره ، وكلالة حال من الضمير فيه وهو من لم يخلف ولدا ولا والدا . أو مفعول له والمراد بها قرابة ليست من جهة الوالد والولد . ويجوز أن يكون الرجل الوارث ويورث من أورث ، وكلالة من ليس له بوالد ولا ولد . وقرئ { يورث } على البناء للفاعل فالرجل الميت وكلالة تحتمل المعاني الثلاثة وعلى الأول خبر أو حال ، وعلى الثاني مفعول له ، وعلى الثالث مفعول به ، وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال قال الأعشى :
فآليت لا أرثي لها من كلالة *** ولا من حفا حتى ألاقي محمدا
فاستعيرت لقرابة ليست بالبعضية ، لأنها كالة بالإضافة إليها ، ثم وصف بها المورث والوارث بمعنى ذي كلالة كقولك فلان من قرابتي . { أو امرأة } عطف على رجل . { وله } أي وللرجل ، وأكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه . { أخ أو أخت } أي من الأم ، ويدل عليه قراءة أبي وسعد بن مالك " وله أخ أو أخت من الأم " ، وأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وللأخوة الكل ، وهو لا يليق بأولاد الأم وأن ما قدر ههنا فرض الأم فيناسب أن يكون لأولادها . { فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } سوى بين الذكر والأنثى في القسمة لأن الإدلاء بمحض الأنوثة ، ومفهوم الآية أنهم لا يرثون ذلك مع الأم والجدة كما لا يرثون مع البنت وبنت الابن فخص فيه بالإجماع . { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } أي غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث ، أو قصد المضارة بالوصية دون القربة والإقرار بدين لا يلزمه ، وهو حال من فاعل يوصى المذكور في هذه القراءة والمدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير وابن عامر وابن عياش عن عاصم . { وصية من الله } مصدر مؤكد أو منصوب بغير مضار على المفعول به ، ويؤيده أنه قرئ { غير مضار وصية } بالإضافة أي لا يضار وصية من الله ، وهو الثلث فما دونه بالزيادة ، أو وصية منه بالأولاد بالإسراف في الوصية والإقرار الكاذب . { والله عليم } بالمضار وغيره . { حليم } لا يعاجل بعقوبته .
{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } .
هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة ، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين : أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه ، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام ، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كباراً ، فإن كانوا صغاراً قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه ، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله : { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء : 19 ] . فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة ، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } [ النساء : 21 ] .
والجمع في { أزواجكم } وفي قوله : { مما تركتم } كالجمع في الأولاد والآباء ، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة ، وههنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددّهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال . والمعنى : ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله : { فلكم الربع مما تركن } .
وقوله : { ولهن الربع مما تركتم } أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ . وكذلك قوله : { فلهن الثمن مما تركتم } وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام .
وأعقبت فريضة الأزواج بذكر { من بعد وصية يوصين بها أو دين } لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية . وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات ، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يُستحقّ إلاّ بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين .
{ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين } .
بعد أن بيّن ميراث ذي الأولاد أو الوالدَيْن وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين ، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد ، وهو الموروث كلالة ، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين .
والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى :
فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة *** ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا
وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع .
ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى ، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد ، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه :
فإنّ أبا المرءِ أحمى له *** ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ
ثم أطلقوه على إرث البعيد ، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية . قال الفرزدق :
ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة *** عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ
ومنه قولهم : ورِث المجدَ لاعن كلالة . وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عُمر بن الخطاب : « ثلاث لأن يكون رسول الله بَيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا : الكلالةُ ، والربا ، والخلافةُ » . وقال أبو بكر : « أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء ، الكلالة ما خلا الولدَ والوالدَ » . وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وقال به الزهري ، وقتادة والشعبي ، وهو قول الجمهور ، وحكي الإجماع عليه ، وروي عن ابن عباس « الكلالة من لا ولد له » أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضاً ثم رجعا عنه ، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } [ النساء : 176 ] وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين .
وانتصب قوله : { كلالة } على الحال من الضمير في { يورث } الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين .
وقوله : { أو امرأة } عطف على { رجل } الذي هو اسم ( كان ) فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر ( كان ) إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها .
وقوله : { وله أخ أو أخت } يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنَّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يُشْبه دلالةَ الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام . وقد أثبت الله بهذا فرضاً للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلاً ، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفاً من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن .
وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ .
وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها .
{ غير مضار وصية من الله والله عليم حليم }
{ غير مضار } حال من ضمير { يوصى } الأخير ، ولمّا كان فعل يوصي تكريراً ، كان حالا من ضمائر نظائره .
و { مضارّ } الأظهر أنّه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضارّ ورثته بإكثار الوصايا ، وهو نهي عن أن يقصد الموصي من وصيته الإضرارَ بالورثة . والإضرارُ منه ما حدّده الشرع ، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي بقوله لسعد بن أبي وقّاص الثلثُ والثلث كثير . ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الاضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { غير مضار } . ولمّا كانت نيَّة الموصي وقصدُه الإضرار لا يُطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه ، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة ، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى : { غير مضار } نهي عن الإضرار ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيِّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله { من بعد وصية } إلخ ، لأنّ هذه المطْلقات متّحدة الحكم والسبب . فيحمِل المطْلَق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول .
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا ، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة . وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه . ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من « المدوّنة » ، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين . ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار . وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح . وبه الفتوى .
وقوله : { وصية } منصوب على أنّه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله ، والتقدير : يوصيكم الله بذلك وصيّة منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله : { يوصيكم الله } [ النساء : 11 ] وهذا من ردّ العجز على الصدر .
وقوله : { والله عليم حليم } تذييل ، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية ، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة . فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب . فهذا ونحوه جهل ، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم .
وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية ، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف ، وقد أشار قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأنفال ( 75 ) وقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأحزاب ( 6 ) إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام . وأشار قوله الآتي قريباً { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه ، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلى رَجُلٍ ذَكَر » وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لمَوالي العصبة ومن ترك كَلا أو ضَياعا فأنا وليّه » وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة .