تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

ثم قال : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن والسنة ، قال تعالى : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه ، فيؤمنون ببعضه ، ولا يؤمنون ببعضه ، إما بجحده ، أو تأويله على غير مراد الله ورسوله ، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة ، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم ، بما حاصله عدم التصديق بمعناها ، وإن صدقوا بلفظها ، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا .

وقوله : { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يشمل الإيمان بالكتب{[34]}  السابقة ، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه ، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور ، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية{[35]}  وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم .

ثم قال : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت ، وخصه [ بالذكر ] بعد العموم ، لأن الإيمان باليوم الآخر ، أحد أركان الإيمان ، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل ، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، الموجب للعمل .


[34]:- في ب: بجميع الكتب.
[35]:- في ب: بالكتب السماوية كلها.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت ، وأيّ أجناس الناس هم . غير أنا نذكر ما روي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قوله :

فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أي يصدقونك بما جئت به من الله جل وعز ، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من عند ربهم .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب . القول في تأويل قوله تعالى :

وبالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ .

قال أبو جعفر : أما الاَخرة ، فإنها صفة للدار ، كما قال جل ثناؤه : ( وَإِنّ الدّارَ الاَخِرَةِ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخرة لأولى كانت قبلها كما تقول للرجل : أنعمت عليك مرة بعد أخرى فلم تشكر لي الأولى ولا الاَخرة . وإنما صارت الاَخرة آخرة للأولى ، لتقدم الأولى أمامها ، فكذلك الدار الاَخرة سميت آخرة لتقدم الدار الأولى أمامها ، فصارت التالية لها آخرة . وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الخلق ، كما سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الخلق . وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله من المرسلين من إيقانهم به من أمر الاَخرة ، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين ، من البعث والنشر والثواب والعقاب والحساب والميزان ، وغير ذلك مما أعدّ الله لخلقه يوم القيامة . كما :

حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وبالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ، ويكفرون بما جاءك من ربك .

وهذا التأويل من ابن عباس قد صرّح عن أن السورة من أولها ، وإن كانت الاَيات التي في أولها من نعت المؤمنين ، تعريض من الله عز وجل بذم الكفار أهل الكتاب ، الذين زعموا أنهم بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه مصدقون وهم بمحمد عليه الصلاة والسلام مكذبون ، ولما جاء به من التنزيل جاحدون ، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله : { الم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتّقِينَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصّلاةَ وممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } . وأخبر جل ثناؤه عباده أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى خاصة ، دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب . ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما أُنزل إليه وإلى من قبله من الرسل بقوله : { أُولئِكَ على هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم ، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه ، معطوفون على { الذين يؤمنون بالغيب } ، داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم ، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار ، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلا { للمتقين } ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما . أو على المتقين وكأنه قال { هدى للمتقين } عن الشرك ، والذين آمنوا من أهل الملل . ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم ، ووسط العاطف كما وسط في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

وقوله :

يا لهف ذؤابة للحارث الص *** ائح فالغانم فالآيب

على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع . وكرر الموصول تنبيها على تغاير القبيلين وتباين السبيلين . أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم .

والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها ، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى .

تلقفا روحانيا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول . والمراد { بما أنزل إليك } القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد . أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ، ونظيره قوله تعالى : { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } . فإن الجن لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله منزلا حينئذ . وبما { أنزل من قبلك } التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة ، والإيمان بها جملة فرض عين ، وبالأول دون الثاني تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ، ولكن على الكفاية . لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش .

{ وبالآخرة هم يوقنون } أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لم تمسهم إلا أياما معدودة ، واختلافهم في نعيم الجنة : أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره ؟ وفي دوامه وانقطاعه ، وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب ، وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان . واليقين : إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظرا واستدلالا ، ولذلك لا يوصف به علم البارئ ، ولا العلوم الضرورية . والآخرة تأنيث الآخر ، صفة الدار بدليل قوله تعالى : { تلك الدار الآخرة } فغلبت كالدنيا ، وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام ، وقرئ يوقنون بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقتت ونظيره :

لحب المؤقدان إلى مؤسى *** وجعدة إذ أضاءهما الوقود .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

/خ4

قوله : { بما أنزل إليك } يعني القرآن { وما أنزل من قبلك } يعني الكتب السالفة . وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب . «بما أنزل . . . وما أنزل » بفتح الهمزة فيهما خاصة . والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى ، ويحتمل إلى جبريل ، والأول أظهر وألزم .

{ وبالآخرة }( {[173]} ) قيل معناه بالدار الآخرة ، وقيل بالنشأة الآخرة .

و { يوقنون } معناه يعلمون علماً متمكناً في نفوسهم . واليقين أعلى درجات العلم ، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه .

وقول مالك رحمه الله : «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك » تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب ، ولم يقصد( {[174]} ) تحرير الكلام في اليقين .


[173]:- ذكر الآخرة بعد قوله: [الذين يؤمنون بالغيب] مع أن الغيب يشمل الآخرة وغيرها- كان لعظمها، وللتنبيه على وجوب اعتقادها، وللرد على الكفرة الجاحدين لها.
[174]:- أي لأن اليقين وهو أعلى درجات العلم لا يمكن أن يخرج على خلاف المتيقن، وإنما المراد به في عبارات الفقهاء الظن، وكما يعبر عن الظن باليقين، كذلك يعبر عن اليقين بالظن، وذلك على سبيل المجاز. قال أبو القاسم الجنيد: اليقين هو استقرار العلم، وقال أيضا: اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب.