ثم فصل أوصاف التقوى . فقال { الصابرين } أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة ، { والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم { والمنفقين } مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم { والمستغفرين بالأسحار } لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم ، حالا ولا مقاما ، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم ، ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر ، قال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ، ثم جلسوا يستغفرون ربهم . فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي ، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما ، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها ، ووصف أهل الجنة وهم المتقون ، ثم فصل خصال التقوى ، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه ، هل هو من أهل الجنة أم لا ؟
{ الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ }
يعني بقوله : { الصّابِرِينَ } الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس . ويعني بالصادقين : الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرار به وبرسوله ، وما جاء به من عنده بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه . ويعني بالقانتين : المطيعين له . وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها ، وبالإخبار عمن قال فيها قولاً فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وقد كان قتادة يقول في ذلك بما :
حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالقانِتِينَ وَالمُنفِقِينَ } الصادقين : فقوم صدقت أفواههم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، وصدقوا في السر والعلانية . والصابرين : قوم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن محارمه . والقانتون : هم المطيعون لله .
وأما المنفقون : فهم المؤتون زكوات أموالهم ، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها ، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جلّ ثناؤه بإنفاقها فيها . وأما الصابرين والصادقين وسائر هذه الحروف فمخفوض ردّا على قوله : { الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنَا آمَنّا } والخفض في هذه الحروف يدلّ على أن قوله : { الّذِينَ يَقُولُونَ } خفض ردّا على قوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { والمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحارِ } .
اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم ، فقال بعضهم : هم المصلون بالأسحار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحارِ } هم أهل الصلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : { والمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحارِ } قال : يصلون بالأسحار .
وقال آخرون : هم المستغفرون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حريث بن أبي مطر ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه ، قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي ! فنظرت فإذا ابن مسعود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن قول الله عز وجل : { والمُسْتَغْفِرِينَ بالأسحارِ } قال : حدثني سليمان بن موسى ، قال : حدثنا نافع : أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة ، ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فيقول : لا . فيعاود الصلاة ، فإذا قلت : نعم ، قعد يستغفر ويدعو حتى يصبح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن بعض البصريين ، عن أنس بن مالك قال : أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا أبو يعقوب الضبي ، قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين بالأسحار .
وقال آخرون : هم الذين يشهدون الصبح في جماعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، قال : قلت لزيد بن أسلم من المستغفرين بالأسحار ؟ قال : هم الذين يشهدون الصبح .
وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله : { وَالمُسْتَغفِرِينَ بالأسْحارِ } قول من قال : هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها بالأسحار ، وهي جمع سَحَر . وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء ، وقد يحتمل أن يكون معناه : تعرضهم لمغفرته بالعمل والصلاة ، غير أن أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت أعمالهم، فقال: الجنة هي ل {الصابرين} على أمر الله وفرائضه. {والصادقين} بكتاب الله ورسله. {والقانتين}: المطيعين لله. {والمنفقين} أموالهم في حق الله. {والمستغفرين بالأسحار}: المصلين لله بالأسحار، يعني المصلين من آخر الليل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{الصّابِرِينَ}: الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس. ويعني بالصادقين: الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرار به وبرسوله، وما جاء به من عنده بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه. ويعني بالقانتين: المطيعين له...
وأما المنفقون: فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جلّ ثناؤه بإنفاقها فيها.
{والمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحارِ}: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم؛ فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار.
وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصبح في جماعة. وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله: {وَالمُسْتَغفِرِينَ بالأسْحارِ} قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها بالأسحار، وهي جمع سَحَر. وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء، وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غير أن أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الصابرين} قيل: {الصابرين} على المرازي والمصائب والشدائد. والصبر هو حبس النفس عن جميع ما تهوى وتشتهي...
{والصادقين} قيل: في إيمانهم، وقيل: {والصادقين} بما وعدوا، وقيل: {والصادقين} في جميع ما يقولون، ويخبرون...
{والقانتين}: قيل: القانت الخاضع، وقيل: القانت المطيع، وقيل: الخاشع، وكله يرجع إلى واحد.. وأصله: القيام، وكل من قان لآخر كان مطيعا وخاشعا وخاضعا ومقرا، وقيل: القانت: المقر كقوله: {كل له قانتون} [الروم: 26] أي مقرون. {والمنفقين}: يحتمل الأنفاق ما لزم من أموالهم من الزكاة والصدقات، ويحتمل: {والمنفقين} المؤدين حقوق بعضهم بعض من حق القرابة والصلة...
{والصادقين}: الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، {والمستغفرين} وأصل الاستغفار طلب المغفرة مما ارتكب من المآثم على ندامة القلب والعزيمة على ترك العود إلى مثله أبدا، ليس كقول الناس: أستغفر الله على غير ندامة القلب. ولكن كقول نوح عليه السلام: {استغفروا ربكم} أمرهم بالتوحيد. ثم أخبر جل وعلا أن الجنة هي للصابرين والصادقين إلى آخر ما ذكر، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{الصَّابِرِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الصابرين عما نهوا عنه من المعاصي. والثاني: يعني في المصائب. والثالث: الصائمين. ويحتمل رابعاً: الصابرين عما زُيِّن للناس من حب الشهوات...
{وَالصَّادِقِينَ} فيه وجهان: والثاني: في القول والفعل والنيَّة، والصدق في القول: الإخبار بالحق، والصدق في الفعل: إتمام العمل، والصدق في النية: إمضاء العزم...
{وَالْقَانِتِينَ} فيه تأويلان: والثاني: معناه القائمون على العبادة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"والمستغفرين بالأسحار": وخص الأسحار لأنهم كانوا يقدّمون قيام الليل فيحسن طلب الحاجة بعده...
الصفة الأولى: كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن... وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى، كما قال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156] قال سفيان بن عيينة في قوله {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} [السجدة: 24] إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر...
الصفة الثانية: كونهم صادقين، اعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور، وهو مجانبة الكذب، والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه، يقال: صدق فلان في القتال وصدق في الحملة، ويقال في ضده: كذب في القتال، وكذب في الحملة، والصدق في النية إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل...
الصفة الثالثة: كونهم قانتين، وقد فسرناه في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها... الصفة الرابعة: كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر..
الصفة الخامسة: كونهم مستغفرين بالأسحار... واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه: الأول: أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}: حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإن معاملته مع الله تعالى؛ إما توسل وإما طلب، والتوسل: إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما، وإما بالبدن؛ وهو إما قولي وهو: الصدق، وإما فعلي وهو: القنوت الذي هو: ملازمة الطاعة، وإما بالمال وهو: الإنفاق في سبل الخير، وإما الطلب فبالاستغفار، لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منهما وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها، وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة، لأن العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع أجمع للمجتهدين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: ولما وصف تقوى قلوبهم باطناً وأدب مقالهم ظاهراً، وصف لهم أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال: {الصابرين} فوصفهم بالصبر إشعاراً بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها، والصبر أمدح أوصاف النفس، به تنحبس عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك الدنيا للآخرة فصبروا عن الشهوات؛ أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر، وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها أصناماً يضر موجودها، وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها؛ وأما الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل، يقال: إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف، لأن كل مستزيد تمولاً من الدنيا زائداً على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه، وأما الحرث فبالاقتصار منه على قدر الكفاية لما يكون راتباً للإلزام ومرصداً للنوائب ومخرجاً للبذر، فإن أعطاه الله فضلاً أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع، ولا يمسكه متمولاً لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكراً، فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من لا خلاق له في الآخرة، ولما كان سن التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذاناً بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم فيء بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال: {والصادقين} قال الحرالي: في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها إذا كملت وتتبع بعضها بعضاً إذا تركبت والتأمت، يعني مثل: الرمان حلو حامض -إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة، ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة على ما عينه حكم النظم، في الآية السابقة، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل، قيتحقق به فيصدق في جميع أموره، والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه- انتهى.
{والقانتين} أي المخلصين لله في جميع أمورهم الدائمين عليه...
ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق، لأن من أكرم المنتمي إليك فقد بالغ في إكرامك فقال: {والمنفقين} أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة. قال الحرالي: فيه إشعار بأن من صبر نوّل، ومن صدق أعلى، ومن قنت جل وعظم قدره، فنوله الله ما يكون له منفقاً، والمنفق أعلى حالاً من المزكي، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضاً، والمنفق يجود بما في يده فضلاً -انتهى...
ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص: {والمستغفرين} أي من نقائصهم مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال {بالأسحار} التي هي أشق الأوقات استيقاظاً عليهم، وأحبها راحة لديهم، وأولاها بصفاء القلوب، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول كما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء. قال الحرالي: وهو جمع سحر، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه ما، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر، ومنه السحور، تعلل عن الغداء؛ ثم قال: وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى: {كانوا قليلاً من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون}...} [الذاريات: 17، 18]... أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤاً من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئاماً بصدق قولهم في الابتداء: {ربنا إننا آمنا} وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره، فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيراً لهم من الدنيا وما فيها، وقد بان بهذا محكم آيات الخلق من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها، فتم بذلك منزل الفرقان في آيات الوحي المسموع والكون المشهود- انتهى...
ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس، فأشار بالصبر إلى الإيمان، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما، شعارها تعرية الظاهر، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية، عمادها تعرية الباطن، فختم بمثل ما بدأ به، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
مجموع الآيات الواردة في الصبر تدلنا على أن الصبر هو حبس النفس عند كل مكروه يشق على النفس احتماله. وأكمل أنواعه الصبر على ملازمه الشريعة في المنشط والمكره. فعندما تهب زوابع الشهوات فتزلزل الاعتقاد بقبح المعاصي وسوء عاقبتها يكون الصبر هو الذي يثبت الإيمان ويقف بالنفس عند الحدود المشروعة. لذلك قرن الأمر يالتواصي بالحق بالأمر بالتواصي بالصبر في سورة العصر، والحق هو المقصود الأول من الدين، وهو لا يقوم إلا بالصبر. وكما يحفظ النفس عند حدود الشرع يحفظ شرف الإنسان في الدنيا عند المكاره ويحفظ حقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع. وكتب في تفسير سورة العصر "الصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله والرضا بما يكره في سبيل الحق، وهو خلق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خلق وما أتي الناس من شيء مثل ما أوتوا من فقد الصبر أو ضعفه. كل أمة ضعف الصبر في نفوس أفرادها ضعف فيها كل شيء وذهبت منها كل قوة". وأتى بأمثلة متعددة على ذلك...
{والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} [الزمر: 33 -35] فقد جعل الصدق ملاك الدين كله وجامع حقيقته، وجعل أسوأ الذنوب معه مستحقا لأن يكفر ويغفر، وأي ذنب يدنس نفس الصادق في إيمانه وأخلاقه وأقواله وأفعاله فيمنعها استحقاق المغفرة؟ أليس أسوأ ما يمكن أن يلم به الصادق من الذنب بادرة غضب لا تلبث أن تفيء، أو نزوة شهوة لا تمكث أن تسكن، فيكون مس طائف الشيطان ضعيفا قصير الأمد لا يقوى على إضعاف فضيلة تلك النفس القوية بالصدق ولا على إطفاء نورها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{والمستغفرين بالأسحار}؛ لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم، حالا ولا مقاما، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم، ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر... فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها، ووصف أهل الجنة وهم المتقون، ثم فصل خصال التقوى، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه، هل هو من أهل الجنة أم لا؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة:
في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى، وثبات على تكاليف الدعوة، وأداء لتكاليف الحق، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاء..
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفع عن الضعف؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة.
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه.
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال؛ وانفلات من ربقة الشح؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس!
والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالا رفافة ندية عميقة.. ولفظة "الأسحار "بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر. الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة! فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء. وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان.
هؤلاء الصابرون، الصادقون، القانتون، المنفقون، المستغفرون بالأسحار.. لهم (رضوان من الله).. وهم أهل لهذا الرضوان: ظله الندي ومعناه الحاني. وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع..
وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض.. وشيئا فشيئا يرف بها في آفاق وأضواء، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة، وفي رفق ورحمة. وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها. وفي مراعاة لضعفها وعجزها، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها، ودون ما كبت ولا إكراه. ودون ما وقف لجريان الحياة.. فطرة الله. ومنهج الله لهذه الفطرة.. (والله بصير بالعباد).