{ فِي بِضْعِ سِنِينَ } تسع أو ثمان ونحو ذلك مما لا يزيد على العشر ، ولا ينقص عن الثلاث ، وأن غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال : { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب ، وإنما هي لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أي : يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .
قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .
وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .
فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .
وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .
أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .
قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .
وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .
أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .
وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .
أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .
والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .
وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .
قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .
وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .
ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .
لفظ { بضع } بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة ، وقد تقدم في قوله تعالى { فلبث في السجن بضع سنين } في سورة يوسف ( 42 ) . وهذا أجل لرد الكَرَّة لهم على الفرس .
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على المقصود إجمالاً وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم . وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .
روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم فكانت فارس يوم نزلت ألم غلَبت الروم قاهرين للروم فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله فقال رسول الله " أما أنهم سيَغلبون " ونزلت هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة { ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } [ الروم : 13 ] فقال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبكم أن الروم ستغلِب فارسَ في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال : بلى وذلك قبل تحريم الرهان وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسمِّ بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه . فسمّى أبو بكر لهم سِت سنين فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " ألا أخفضت يا أبا بكر ، ألا جعلته إلى دون العشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع " . وعَاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير . وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أُبَيّ بنُ خلف ، وأنهم جعلوا الرهان خمسَ قلائص ، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجَل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص ، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أُبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلاً بالخَطَر إن غُلِبْتَ ، فكفل به ابنه عبد الرحمان ، وكان عبد الرحمان أيامئذ مشركاً باقياً بمكة . وأنه لما أراد أُبي بن خلف الخروج إلى أُحُد طلبه عبد الرحمان بكفيل فأعطاه كفيلاً . ثم مات أُبي بمكة من جرح جَرحَه النبي صلى الله عليه وسلم فلما غلَب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطَر من ورثة أبي بن خلف . وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين . وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : « لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين » . والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية .
وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السّين وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع هو تصحيف . وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم ، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام ونزل حِمص ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجاراً إلى الشام .
واعلمْ أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأُبي بن خلف وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب . وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخاً بما ورد من النهي عن القمار نهياً مطلقاً لم يقيد بغير أهل الحرب . وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأُبَيّ بن خلف جرت على الإباحة الأصلية إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريع أنفٌ وليس من النسخ في شيء . { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ }
جملة معترضة بين المتعاطفات . والمراد بالأمر أمر التقدير والتكوين ، أي أن الله قدر الغلب الأول والثاني قبل أن يقعا ، أي مِن قبللِ غَلب الروم على الفرس وهو المدة التي من يوم غلب الفرس عليهم ومن بعد غلب الروم على الفرس . فهنالك مضافان إليهما محذوفان . فبنيت { قبلُ وبعدُ } على الضم لِحذف المضاف إليه لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحَرْف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره . وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وقُدِّر لوجود دليل عليه في الكلام ، وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أُريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات ، كما قال عبد الله بن يَعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق :
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً *** أكاد أغَصُّ بالماء الحميم
أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه ، وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين ، ودرج عليه ابن هشام وأنكره الزجاج وجعل من الخطأ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه :
ومن قبلِ نادَى كلّ مولى قرابة *** فما عطفت مولًى عليه العواطف
بكسر لام { قبلِ } رادّاً قول الفراء أنه روي بكسرٍ دون تنوين يريد الزجاج ، أي الواجب أن يروى بالضم .
وتقديم المجرور في قوله { لله الأمْرُ } لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عُبادَها ، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفاً كما دل عليه التذييل بقوله { ينصر من يشاء } .
فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعلّلوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عِللاً توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم .
وهذا المعنى كان النبي يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي فقال الناس : كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي فقال في خطبته : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته . وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادثَ المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواماً وتضر بآخرين ، ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعوداً به من قبلُ ليعلم الناس كلهم أنه متحدّىً به قبل وقوعه لا مدَّعى به بعد وقوعه ، ولهذا قال تعالى بعد الوعود : { ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله } .
{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون }
عطف على جملة { وهُمْ مِن بعد غلبهم الخ أي : ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل ، وكان غلبهم السابق أيضاً بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديْهم ، وقد أومأ إلى هذا قوله لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ } .
والجملة المضافة إلى { إذ } في قوله { ويَوْمَئِذٍ } محذوفة عوض عنها التنوين . والتقدير : ويوم إذ يغلبون يفرحُ المؤمنون ، ف { يومَ } منصوب على الظرفية وعامله { يَفْرَحُ المُؤْمِنُون } .