التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (3)

وقد أتبع - سبحانه - هذا الوصف وهو { رَبِّ العالمين } ، بوصف آخر هو { الرحمن الرحيم } لحكم سامية من أبرزها : أن وصفه - تعالى - ب { رَبِّ العالمين } أي : مالكهم ، قد يثير في النفوس شيئًا من الخوف أو الرهبة ، فإن المربي قد يكون خشنًا جبارًا متعنتًا ، وذلك مما يخدش من جميل التربية ، وينقص من فضل التعهد . لذا قرن - سبحانه - كونه مربيًا ، بكونه الرحمن الرحيم ، لينفى بذلك هذا الاحتمال ، وليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته وشمول إحسانه ، فهم برحمته يوجدون ، وبرحمته يتصرفون ويرزقون ، وبرحمته يبعثون ويسألون . ولا شك أن في هذا الإِفهام تحريضًا لهم على حمده وعبادته بقلوب مطمئنة ، ونفوس مبتهجة ، ودعوة لهم إلى أن يقيموا حياتهم على الرحمة والإِحسان ، لا على الجبروت والطغيان ، فالراحمون يرحمهم الرحمن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (3)

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 3 )

وقد تقدم القول في «الرحمن الرحيم » .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (3)

وصفان مشتقان من رَحِم ، وفي « تفسير القرطبي » عن ابن الأَنباري عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني نقل إلى العربية قال وأصله بالخاء المعجمة ( أي فأبدلت خاؤه حاء مهملة عند أكثر العرب كشأن التغيير في التعريب ) وأنشد على ذلك قول جرير يخاطب الأخطل :

أو تتركُنَّ إلى القسّيس هِجْرَتكم *** ومسْحَكُم صُلْبَكم رَخْمان قُربَانا

( الرواية بالخاء المعجمة ) ولم يأت المبرد بحجة على ما زعمه ، ولم لا يكون الرحمن عربياً كما كان عبرانياً فإن العربية والعبرانية أختان وربما كانت العربية الأصلية أقدم من العبرانية ولعل الذي جرأه على ادعاء أن الرحمن اسم عبراني ما حكاه القرآن عن المشركين في قوله : { قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] ويقتضي أن العرب لم يكونوا يعلمون هذا الاسم لله تعالى كما سيأتي بعض عرب اليمن يقولون رَخِم رخمة بالمعجمة .

واسم الرحمة موضوع في اللغة العربية لرقة الخاطر وانعطافه نحو حيّ بحيث تحمل من اتصف بها على الرفق بالمرحوم والإحسان إليه ودفع الضر عنه وإعانته على المشاق . فهي من الكيفيات النفسانية لأنها انفعال ، ولتلك الكيفية اندفاع يحمل صاحبها على أفعال وجودية بقدر استطاعته وعلى قدر قوة انفعاله ، فأصل الرحمة من مَقُولة الانفعال وآثارُها من مقولة الفِعل ، فإذا وصف موصوف بالرحمة كان معناه حصول الانفعال المذكور في نفسه ، وإذا أخبر عنه بأنه رحم غيره فهو على معنى صدَر عنه أثر من آثار الرحمة ، إذ لا تكون تعدية فعل رحم إلى المرحوم إلا على هذا المعنى فليس لماهية الرحمة جزئيات وجودية ولكنها جزئيات من آثارها . فوصف الله تعالى بصفات الرحمة في اللغات ناشىء على مقدار عقائد أهلها فيما يجوز على الله ويستحيل ، وكان أكثر الأمم مجسِّمة ثم يجيء ذلك في لسان الشرائع تعبيراً عن المعاني العالية بأقصَى ما تسمح به اللغات مع اعتقاد تنزيه الله عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي الرحمن الرحيم لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقةِ الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض ، بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثباتُ الغرض الاسمي من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة ؛ لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم ألا ترى أن المرء قد يرحم أحداً ولا يملك له نفعاً لعَجز أو نحوه .

وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في « المقصد الأسنى » بقوله : « الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادراً على قضائها لم يسمَّ رحيماً إذ لو تمت الإرادة لوفَّى بها وإن كان عاجزاً فقد يسمى رحيماً باعتبار ما اعتوره من الرحمة والرقة ولكنه ناقص » .

وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه بكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل ، وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون ، ونطلق القدرة مع اليقين بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة . فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] فهي منقولة في لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالبُ الأسماء الحسنى من هذا القبيل . وأما المتشابه فهو ما كانت دلالته على المعنى المنزه عنه أقوى وأشد وسيأتي في سورة آل عمران ( 7 ) عند قوله تعالى : { وأخر متشابهات } والذي ذهب إليه صاحب الكشاف } وكثير من المحققين أن الرحمن صفة مشبهة كغضبان وبذلك مثله في « الكشاف » .

وفعل رَحِم وإن كان متعدياً والصفة المشبهة إنما تصاغ من فِعلٍ لازم إلا أن الفعل المتعدي إذا صار كالسجية لموصوفه ينزل منزلة أفعال الغرائز فيحول من فِعَل بفتح العين أو كسرها إلى فَعُل بضم العين للدلالة على أنه صار سجية كما قالوا فقُه الرجل وظرف وفهم ، ثم تشتق منه بعد ذلك الصفة المشبهة ، ومثله كثير في الكلام ، وإنما يعرف هذا التحويل بأحد أمرين إما بسماع الفعل المحول مثل فقُه وإما بوجود أثره وهو الصفة المشبهة مثل بليغ إذا صارت البلاغة سجية له ، مع عدم أو قلة سماع بلغ . ومن هذا رحمن إذ لم يسمع رحم بالضم . ومن النحاة من منع أن يكون الرحمن صفة مشبهة بناء على أن الفعل المشتق هو منه فعل متعد وإليه مال ابن مالك في « شرح التسهيل » في باب الصفة المشبهة ونظره برب وملك . .

وأما الرحيم فذهب سيبويه إلى أنه من أمثلة المبالغة وهو باق على دلالته على التعدي وصاحب « الكشاف » والجمهور لم يثبتوا في أمثلة المبالغة وزن فعيل فالرحيم عندهم صفة مشبهة أيضاً مثل مريض وسقيم ، والمبالغة حاصلة فيه على كلا الاعتبارين . والحق ما ذهب إليه سيبويه .

ولا خلاف بين أهل اللغة في أن الوصفين دالان على المبالغة في صفة الرحمة أي تمكنها وتعلقها بكثير من المرحومين وإنما الخلاف في طريقة استفادة المبالغة منهما وهل هما مترادفان في الوصف بصفة الرحمة أو بينهما فارق ؟ والحق أن استفادة المبالغة حاصلة من تتبع الاستعمال وأن الاستعمال جرى على نكتة في مراعاة واضعي اللغة زيادة المبنى لقصد زيادة في معنى المادة قال في « الكشاف » : « ويقولون إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى وقال الزجاج في الغضبان هو الممتلىء غضباً ومما طن على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مَرْكَباً من مراكبهم بالشُّقْدُف وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق فقلت في طريق الطائف لرجل منهم ما اسم هذا المحمل أردت المحمل العراقي فقال أليس ذاك اسمه الشقندف ؟ قلت بلى فقال هذا اسمه الشِّقِنْدَاف فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى » وهي قاعدة أغلبية لا تتخلف إلا في زيادات معروفة موضوعة لزيادة معنى جديد دون زيادة في أصل معنى المادة مثل زيادة ياء التصغير فقد أفادت معنى زائداً على أصل المادة وليس زيادة في معنى المادة .

وأما نحو حَذِر الذي هو من أمثلة المبالغة وهو أقل حروفاً من حاذر فهو من مستثنيات القاعدة لأنها أغلبية .

وبعد كون كل من صفتي الرحمن الرحيم دالة على المبالغة في اتصافه تعالى بالرحمة فقد قال الجمهور إن الرحمن أبلغ من الرحيم بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى وإلى ذلك مال جمهور المحققين مثل أبي عبيدة وابن جني والزجاج والزمخشري وعلى رعي هذه القاعدة أعني أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى فقد شاع ورود إشكال على وجه إرداف وصفه الرحمن بوصفه بالرحيم مع أن شأن أهل البلاغة إذا أجروا وصفين في معنى واحد على موصوف في مقام الكمال أن يرتقوا من الأعم إلى الأخص ومن القوي إلى الأقوى كقولهم شجاع باسل وجواد فياض ، وعالم نحرير ، وخطيب مصقع ، وشاعر مفلق ، وقد رأيت للمفسرين في توجيه الارتقاء من الرحمن إلى الرحيم أجوبة كثيرة مرجعها إلى اعتبار الرحمن أخص من الرحيم فتعقيب الأول بالثاني تعميم بعد خاص ولذلك كان وصف الرحمن مختصاً به تعالى وكان أول إطلاقه مما خصه به القرآن على التحقيق بحيث لم يكن التوصيف به معروفاً عند العرب كما سيأتي . ومدلول الرحيم كون الرحمة كثيرة التعلق إذ هو من أمثلة المبالغة ولذلك كان يطلق على غير الله تعالى كما في قوله تعالى في حق رسوله { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] فليس ذكر إحدى الصفتين بمغن عن الأخرى :

وتقديم الرحمن على الرحيم لأن الصيغة الدالة على الإتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلقاتها . وينسب إلى قطرب أن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد من الصفة المشبهة فهما متساويان وجعل الجمع بينهما في الآية من قبيل التوكيد اللفظي ومال إليه الزجاج وهو وجه ضعيف إذ التوكيد خلاف الأصل والتأسيس خير من التأكيد والمقام هنا بعيد عن مقتضى التوكيد . وقد ذكرت وجوه في الجمع بين الصفتين ليست بمقنعة .

وقد ذكر جمهور الأئمة أن وصف الرحمن لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :

{ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] وقال : { وهم يكفرون بالرحمن } [ الرعد : 30 ] وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة الملك وقد ذكر الرحمن في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي في كلامهم ، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله .

ومن دقائق القرآن أنه آثر اسم الرحمن في قوله : { ما يمسكهن إلا الرحمن } في سورة الملك ( 19 ) ، وقال : { ما يمسكهن إلا الله } في سورة النحل ( 79 ) إذ كانت آية سورة الملك مكية وآية سورة النحل القدر النازل بالمدينة من تلك السورة ، وأما قول بعض شعراء بني حنيفة في مسيلمة :

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أباً *** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فإنما قاله بعد مجىء الإسلام وفي أيام ردة أهل اليمامة ، وقد لقبوا مسيلمة أيامئذٍ رحمن اليمامة وذلك من غلوهم في الكفر . وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين أي مدبر شؤونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني ، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمن أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم ، فلما كان رباً للعالمين وكان المربوبون ضعفاء كان احتياجهم للرحمة واضحاً وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحاً .

فإن قلت إن الربوبية تقتضي الرحمة لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً وذلك يجمع النعم كلها ، فلماذا احتيج إلى ذكر كونه رَحماناً ؟ قلت لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده ، فكانت الربوبية نعمة ، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى ، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن تنبيهاً على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج ، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها ، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها ، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق ، ومنها ما منفعته للجمهور فتتبعها رحمات الجميع لأن في رحمة الجمهور رحمة بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة .

وقد اختلف في أن لفظ رحمن لو لم يقرن بلام التعريف هل يصرف أو يمنع من الصرف ؟ قال في « الكافية » : « النون والألف إذا كانا في صفة فشرط منعه من الصرف انتفاء فَعلانة ، وقيل وجود فَعْلى ، ومن ثم اختلف في رحمن ، وبنو أسد يصرفون جميع فَعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة » واختار الزمخشري والرضى وابن مالك عدم صرفه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر؛ {الرحمن} يعني المترحم، {الرحيم} يعني المتعطف بالرحمة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهي إرادة النعمة، وهما اسمان موضوعان للمبالغة، ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

... ذكر الرحمة بعد ذكر "العالمين"، وقبل ذكر {ملك يوم الدين} ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة:

إحداهما: تلتفت إلى خلق رب العالمين، فإنه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها، وآتاه كل ما يحتاج إليه.

وثانيهما: تعلقها بقول {ملك يوم الدين}، فيشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد...

[و] الرحمة ترجع إلى الإرادة مضافة إلى قضاء حاجة المحتاج الضعيف...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات...

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

يحتمل في "الرحمن الرحيم "أنه يريد الإحسان، أو الإحسان نفسه... قال العلماء: وللكافر من هذه الرحمة حظـ، وذلك الحظ هو تأخير العذاب عنه إلى يوم القيامة بسبب إرساله عليه السلام...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

"الرحمن الرحيم": هما مع قوله {رب العالمين} صفات مدح، لأن ما قبلهما علم لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص، وبدأ أولاً بالوصف بالربوبية؛ فإن كان الرب بمعنى السيد، أو بمعنى المالك، أو بمعنى المعبود، كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية، لينبسط أمل العبد في العفو إن زل، ويقوى رجاؤه إن هفا...

وفي تكرار الرحمن الرحيم إن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

قدم أولا الوصف برَبّ العَالمِينَ تنبيها على أصل النشأة، وأنه هو الخالق المبدئ، ثم ثنى بحال الإنسان في الدّنيا من النعم والإحسان، فلولا رحمة الله تعالى لما كان ذلك...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة، أتبع ذلك بصفتي {الرحمن الرحيم} ترغبياً في لزوم حمده، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلاً...

السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :

{الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين} ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أسمائه خمسة: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك. والسبب فيه كأنه يقول: خلقتك أوّلاً، فأنا الله، ثم ربيتك بوجود النعمة، فأنا رب، ثم عصيت فسترت عليك، فأنا رحمن، ثم تبت عليك، فأنا رحيم، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك، فأنا مالك يوم الدين. فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية، ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية، فما الحكمة في ذلك؟ أجيب بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى: اذكر أني إله ورب مرّة واحدة، واذكر أني رحمن رحيم مرّتين، ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{الرحمن الرحيم} صفتان لله، فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين، أو ما يَفيضُ على الكل بعد الخروج إلى طوْر الوجودِ من النعم، فوجهُ تأخيرِهما عن وصف الربوبية ظاهر. وإن أريد ما يعمّ الكلَّ في الأطوار كلِّها حسبما في قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء} [الأعراف، الآية 156] فوجهُ الترتيب أن التربية لا تقتضي المقارنة للرحمة، فإيرادُهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضلٌ فيها، فاعلٌ بقضية رحمتِه السابقةِ من غير وجوبٍ عليه، وبأنها واقعةٌ على أحسنِ ما يكون، والاقتصارُ على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسبُ بحال المتبرِّك المستعين باسمه الجليل، والأوفقُ لمقاصده...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

{الرحمن الرحيم} إيرادهما عقب وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

النكتة في [إعادة {الرحمان الرحيم}] ظاهرة وهي أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم، كجلب منفعة أو دفع مضرة، وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه.

وثم نكتة أخرى، وهي أن البعض يفهم من معنى الرب الجبروت والقهر، فأراد الله تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال، فذكر الرحمان، وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدا. فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده، فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليعلموا أن هذه الصفة هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات، وليتعلقوا به ويقبلوا على اكتساب مرضاته، منشرحة صدورهم، مطمئنة قلوبهم.

ولا ينافي عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات في الدنيا، وما أعده من العذاب في الآخرة، للذين يتعدون الحدود، وينتهكون الحرمات، فإنه وإن سمي قهرا بالنسبة لصورته ومظهره، فهو في حقيقته وغايته من الرحمة، لأن فيه تربية للناس وزجرا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفي الانحراف عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفي الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم، والوالد الرؤوف يربي ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان عليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال، ولله المثل الأعلى، لا إله إلا هو، وإليه يرجعون...

والحاصل أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة، وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت {حم تنزيل من الرحمان الرحيم} لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل، وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السورة وقد لاحظ هذا المعنى من قال إن البسملة آية مستقلة فاصلة بين السور. وأما من قال إنها آية من كل سورة فمراده أنها تقرأ عند الشروع في قراءتها، وأن من حلف ليقرأن سورة كذا لا يبرأ إلا إذا قرأ البسملة معها، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءتها أيضا...

هذا – وأما حظ العبد من وصف الله بالربوبية، فهو بحمده تعالى عليه وبشكره له باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله، فليحسن تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ، وباستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والاجتماعية، وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم. وأن لا يبغي كما بغى فرعون فيدعي أنه رب الناس، وكما بغى فراعنة كثيرون، ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى، وبقولهم هذا حلال، وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم، فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته. قال تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا بمثل هذا.

وأما حظ العبد من وصف الله بالرحمة فهو أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم، وأن يتذكر دائما أنه يستحق بذلك رحمة الله تعالى، قال صلى الله عليه سلم "إنما يرحم الله من عباده الرحماء "رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح. وقال "الراحمون يرحمهم الرحمان تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم، من حديث ابن عمر...

ومن مباحث اللغة أن لفظ الرحمان خاص بالله تعالى كلفظ الجلالة. قالوا لم يسمع عن أحد من العرب أنه أطلقه على غير الله تعالى، وكذلك لفظ "رحمان" غير معرّف، قالوا لم يرد إطلاقه على غير الله تعالى إلا في شعر لبعض الذين فتنوا بمسيلمة الكذاب، وقيل إن هذا تعنت وغلو، لا من الاستعمال المعروف عند العرب. وأما العرب فكانت تطلق لفظ رب على الناس، يقولون: رب الدار ورب هذه الأنعام مثلا لا رب الأنعام مطلقا... ويرى بعض العلماء أن هذا الاستعمال ممنوع في الإسلام، واستدل بالنهي في الحديث عن قول المملوك لسيده "ربي" والصواب أن يمنع ما ورد النص به كهذا الاستعمال وما من شأنه ألا يقال إلا في البارئ تعالى كلفظ الرب بالتعريف مطلقا ولفظ رب الناس، رب المخلوقات، رب العالمين وما أشبه ذلك...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

.. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه، وبين الخالق ومخلوقاته. إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وتقديم الرحمن على الرحيم لأن الصيغة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلقاتها...

وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ، لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين، أي مدبر شؤونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمن؛ أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم، فلما كان رباً للعالمين، وكان المربوبون ضعفاء، كان احتياجهم للرحمة واضحاً وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحاً.

فإن قلت إن الربوبية تقتضي الرحمة لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً وذلك يجمع النعم كلها، فلماذا احتيج إلى ذكر كونه رَحماناً؟ قلت: لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات، بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده، فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن تنبيهاً على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة، كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق، ومنها ما منفعته للجمهور فتتبعها رحمات الجميع، لأن في رحمة الجمهور رحمة بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

من موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم.. يعطي نعمه في الدنيا لكل عباده عطاء ربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن والكافر، وعطاء الربوبية لا ينقطع إلا عندما يموت الإنسان..

والله لا يحجب نعمه عن عبيده في الدنيا.. ونعم الله لا تعد ولا تحصى...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ما نضيفه هنا هو أن هاتين الصفتين تتكرران في البسملة والحمد، «والملتزمون» بذكر البسملة في السّورة بعد الحمد يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرّة. وبذلك يصفون الله برحمته ستين مرّة يومياً. وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق الله، وتواقة للتخلق بأخلاق الله. إنه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة. القرآن يركز على علاقة الرحمة والرأفة بين ربّ العباد والعباد، حيث يقول:} قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً {(الزمر،53). هذه العلاقة نستحضرها مرات يومياً إذ نقول:"اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" لنربّي أنفسنا تربية صحيحة في علاقتنا بالله، وفي علاقتنا بأبناء جنسنا.