تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ } أي : مترددين بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين . فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا ، ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا . أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين ، وهذا أعظم ضلال يقدر . ولهذا قال : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } أي : لن تجد طريقا لهدايته ولا وسيلة لترك غوايته ، لأنه انغلق عنه باب الرحمة ، وصار بدله كل نقمة .

فهذه الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها ، من الصدق ظاهرا وباطنا ، والإخلاص ، وأنهم لا يجهل ما عندهم ، ونشاطهم في صلاتهم وعباداتهم ، وكثرة ذكرهم لله تعالى . وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط المستقيم . فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به ، وبالله{[248]}  المستعان .


[248]:- في ب: والله.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

وقوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك } حال من فاعل يراءون واسم الإِشارة " ذلك " مشار به إلى الإِيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين .

قال القرطبى : المذبذب : المتردد بين أمرين . والذبذبة : الاضطراب . يقال : ذبذبته فتذبذب . ومنه قول النابغة - فى مدح النعمان بل المنذر -

ألم تر أن الله أعطاك سورة . . . ترى كل ملك دونها يتذبذب

أى : يضطرب وقال ابن جنى : المذبذب : المهتز القلق الذى لا يثبت ولا يتمهل . فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين . لا مخلصين للإِيمان ولا مصرحين بالكفر . وفى صحيح مسلم من حيث ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين - أى المترددة بين قطعتين - تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى " .

وقوله { إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } فى محل نصب على أنه حال من ضمير { مُّذَبْذَبِينَ } أو على أنه بيان وتفسير له .

وقوله : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أى : ومن يضلله الله - تعالى - عن طريق الحق ، بسبب إيثاره الغواية على الهداية . فلن تجد له سبيلا يوصله إلى الصراط المسقيم .

وبعد هذا الذم الشديد لما كان عليه المنافقون من خداع ورياء وضلال . وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن موالاة الكافرين فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

و { مذبذبين } معناه : مضطربين لا يثبتون على حال : والتذبذب : الاضطراب بخجل أو خوف أو إسراع في مشي ونحوه ، ومنه قول النابغة :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ترى كل ملك دونها يتذبذب{[4342]}

ومنه قول الآخر : [ البعيث بن حريث ] :

خَيَالٌ لأُمِّ السَّلْسَبيلِ وَدُونَها مَسِيرةُ شَهْرٍ للْبَرِيدِ المُذَبْذَبِ{[4343]}

بكسر الذال الثانية ، قال أبو الفتح : أي المهتز القلق الذي لا يثبت ، ولايتمهل فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين »{[4344]} فالإشارة بذلك إلى حالي الكفر والإيمان ، وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكره ، لظهور تضمن الكلام له ، كما جاء { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] { وكل من عليها فان }{[4345]} وقرأ جمهور الناس «مذبذَبين » بفتح الذال الأولى والثانية ، وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد ، «مذَبذِبين » بكسر الذال الثانية وقرأ أبي بن كعب «متذبذِبين » بالتاء وكسر الذال الثانية وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مَذَبذَبين » بفتح الميم والذالين وهي قراءة مردودة وقوله تعالى : { فلن تجد له سبيلاً } معناه سبيل هدى وإرشاد .


[4342]:- البيت بتمامه- وقد قاله يخاطب النعمان بن المنذر ويمدحه: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب؟ يريد: إن الله أعطاك منزلة ومكانة يضطرب أمامها ويخجل كل ملك آخر.
[4343]:- البيت للبعيث بن حريث، وبعده –كما في الحماسة-: فقلت لها أهلا وسهلا ومرحبا فردت بتأهيل وسهل ومرحب والمذبذِب بكسر الذال الثانية معناه: "الممتر القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل" قال ابن جني.
[4344]:- رواه مسلم، وأحمد في مسنده، والنسائي- عن ابن عمر، ونصه كاملا: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع). والعائرة: مؤنث العائر- ومعناها فسّره الحديث نفسه.
[4345]:- الآية الأولى رقم (32) من سورة (ص)- وهي قوله تعالى: {فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب}- يعني الشمس، أضمرها ولم يجر لها ذكر. والآية الثانية رقم (26) من سورة (الرحمان) وهي: {كل من عليها فان} يريد: على الأرض. أيضا أضمرها ولم يجر لها ذكر- والعرب تفعل ذلك إذا كان في الكلام ما يدل عليه باللفظ أو القرائن المعنوية.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله : { مُذبذبينَ بينَ ذلك } وهو حال من ضمير { يُراءون } .

والمذَبْذَب اسم مفعول من الذّبْذَبة . يقال : ذبذبه فتذبذب . والذبذبة : شدّة الاضطراب من خوف أو خجل ، قيل : إن الذبذبة مشتقّة من تكرير ذَبّ إذا طَرد ، لأنّ المطرود يعجّل ويضطرب ، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير ، مثل زلزل ولَمْلَم بالمكان وصلصل وكبكب ، وفيه لغة بدالين مهملتين ، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم ، يقولون : رجل مدبدب ، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق . فقيل : إنّها مشتقّة من الدْبَّة بضمّ الدال وتشديد الباء الموحدة أي الطريقة بمعنى أنّه يَسلك مرّة هذا الطريق ومرّة هذا الطريق .

والإشارة بقوله : { بين ذلك } إلى ما استفيد من قوله : { يُراءون الناس } لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذباً ، إذ يجد في النماس أصنافاً متبايَنة المقاصد والشهوات . ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور ، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه ، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر .

وجملة { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } صفة ل { مذبذبين } لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة ، أو هي بيان لقوله : { مذبذبين بين ذلك } . و { هؤلاء } أحدهما إشارة إلى المؤمنين ، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين ، إذ ليس في المقام إلاّ فريقان فأيّها جعلته مشاراً إليه بأحد اسمي الإشارة صحّ ذلك ، ونظيره قوله تعالى { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه } .

والتقدير لا هُم إلى المسلمين ولا هُم إلى الكافرين . و ( إلى ) متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الانتهاء ، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر ، والذهاب الذي دلّت عليه ( إلى ) ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب ، أي هُم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون ، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على ( لا ) النافية مكرّرةً في غرضين : تارة يقصدون به إضاعة الأمرين ، كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع « لا سَهْلٌ فيُرْتقَى ولا سمين فيُنْتَقَل » وقوله تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ ولا صلّى } [ القيامة : 31 ] { لا ذلول تثير الأرض وَلا تسْقي الحرث } [ البقرة : 71 ] . وتارة يقصدون به إثبات حالة وسَط بين حالين ، كقوله تعالى : { لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ } [ النور : 35 ] { لا فارض ولا بكر } [ المائدة : 68 ] ، وقول زهير :

فلاَ هُو أخفاها ولم يَتَقَدّمِ

وعلى الاستعمالين فمعنى الآية خفي ، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر ، لأنّه لا طائل تحت معناه ، فتعيّن أنّه من الاستعمال الأول ، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين . وهم في التحقيق . ، إلى الكافرين . كما دَلّ عليه آيات كثيرة . كقوله : { الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ النساء : 139 ] وقوله : { وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } [ النساء : 141 ] . فتعيّن أنّ المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين ، وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله ، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب . والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتِهم لينبذهم الفريقان .

وقوله : { فلن تجد له سبيلاً } الخطاب لغير مُعّين ، والمعنى : لم تجد له سيبلاً إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله : { ومن يضلل الله } .