تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

فلم يرتدع ذلك الجاني ولم ينزجر ، ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها ، حتى طوعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه .

{ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دنياهم وآخرتهم ، وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل .

" ومن سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " . ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه " ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول شطر من دمها ، لأنه أول من سن القتل " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

لقد بين الله ذلك بقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } .

قال القرطبي : قوله { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } : أي : سولت وسهلت نفسه له الأمر . وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل . يقال : طاع الشيء يطوع أي : سهل وانقاد . " وطوعه فلان له أي سهله " .

والمعنى : أن قابيل سهلت له نفسه وزينت له - بعد هذه المواعظ - { قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } في دنياه وفي أخراه .

وأصبح من الخاسرين في آخرته ، لأنه ارتكب جريمة من أكبر الجرائم وأشنعها وقد توعد الله مرتكبها بالغضب واللعنة والعذاب العظيم .

والتعبير بقوله - تعالى ( فطوعت ) تعبير دقيق بليغ ، فإن هذه الصيغة - صيغة التفعيل - تشير إلى أنه كانت هناك بواعث متعددة تتجاذب نفسه ، كانت هناك بواعث الشر التي تدعوه إلى الإقدام على قتله ، ودوافع الخير التي تمنعه من الاقدام على قتل أخيه ، وأخيراً تغلبت دوافع الشر على دوافع الخير فقتل أخاه .

وقد صور الإِمام الرازي هذا المعنى تصويرا حسنا فقال :

قال المفسرون : فطوعت ، أي : سهلت له نفسه قتل أخيه ، وتحقيق الكلام أن الإِنسان إذا تصور القتل العمد العدوان وكونه من أعظم الكبائر فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يطيعه بوجه ألبتة . فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها ، صار هذا الفعل سهلا عليه ، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجييبة هذا الفعل كالمطيع له ، بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه ، فهذا هو المراد بقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } .

هذا ، والآية الكريمة بعد كل ذلك ، تشير إلى شناعة الجريمة في ذاتها من حيث الباعث عليها ، إذا الباعث عليها هو الحسد ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول إذ هي صلة أخوة تقتضي المحبة والمودة والتراحم ومن حيث ذات الفعل فإنه أكبر جريمة بعد الإشراك بالله - تعالى - .

قال الآلوسي : أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها . لأنه أول من سن القتل " وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : " إنا لنجد ابن آدم القاتل ، يقاسم أهل النار العذاب . عليه شطر عذابهم " .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

{ فطوعت له نفسه قتل أخيه } فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع . وقرئ " فطاوعت " على أنه فاعل بمعنى فعل ، أو على أن { قتل أخيه } كأنه دعاها إلى الإقدام عليه فطاوعته ، وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله . { فقتله فأصبح من الخاسرين } دينا ودنيا ، إذ بقي مدة عمره مطرودا محزونا . قيل قتل هابيل وهو ابن عشرين سنة عند عقبة حراء . وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (30)

قراءة الجمهور { فطوعت } والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس ، فردته هذه النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى واقعه صاحب هذه النفس{[4511]} ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد «فطاوعت » والمعنى كأن القتل يدعو إلى نفسه بسبب الحقد والحسد الذي أصاب قابيل ، وكأن النفس تأبى لذلك ويصعب عليها ، وكل جهة تريد أن تطيعها الأخرى ، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فواقعته ، وروي أنه التمس الغرة في قتله حتى وجده نائماً في غنمه فشدخ رأسه بحجر ، وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل ، وروي أنه لما انصرف قابيل إلى آدم قال له أين هابيل قال لا أدري كأنك وكلتني بحفظه فقال له آدم أفعلتها والله إن دمه ليناديني من الأرض ، اللهم العن أرضاً شربت دم هابيل ، فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دماً ، ثم أن آدم صلى الله عليه وسلم بقي مائة عام لم يبتسم حتى جاء ملك فقال له حياك الله يا آدم وبياك فقال آدم : ما بياك ؟ قال أضحكك . ويروى أن آدم عليه السلام قال حينئذ :

تغيرت البلادُ ومن عليها . . . فوجه الأرض مغبرٌّ قبيح

تغير كل ذي طعم ولون . . . وقل بشاشة الوجه المليح

وكذا هو الشعر بنصب بشاشة وكف التنوين ، وروي عن مجاهد أنه قال : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج .

قال القاضي أبو محمد :

فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى : { فأصبح من الخاسرين } : ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال إنّا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم ، ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها{[4512]} ، وذلك أنه أول من سن القتل » وقوله : { فأصبح } عبارة عن جميع أوقاته ، أقيم بعض الزمن مقام كله ، وخصّ الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومطية النشاط ، ومنه قول الربيع بن ضبع :

أصبحت لا أحمل السلاح . . . البيت ،

ومنه قول سعد بن أبي وقاص ، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام ، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه .


[4511]:- طوّعت له نفسه: أي سهّلت نفسه عليه الأمر وشجعته، وصورت له أن قتل أخيه طوع له سهل، يقال: طاع الشيء يطوع: سُهل وانقاد، وطوّعه فلان له: سهّله.
[4512]:- الحديث في الصحيحين وغيرهما- عن ابن مسعود، ذكر ذلك الشوكاني. وقال في "الدر المنثور": أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر- عن ابن مسعود رضي الله عنه.