تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (285)

{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }

يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه ، وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة ، فأخبر أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهذا يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه ، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل ، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص ، ويتضمن الإيمان بالملائكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيلا ، وعلى الإيمان بجميع الرسل والكتب ، أي : بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي ، وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله ، بل يؤمنون بجميعهم ، لأنهم وسائط بين الله وبين عباده ، فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله { وقالوا سمعنا } ما أمرتنا به ونهيتنا { وأطعنا } لك في ذلك ، ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا ، ولما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام ، قالوا { غفرانك } أي : نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب ، ومحو ما اتصفنا به من العيوب { وإليك المصير } أي : المرجع لجميع الخلائق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (285)

ثم ختم - سبحانه - سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها ، وبين في الثانية أنه - سبحانه - لم يكلف الناس إلا بما في قدرتهم ، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم ، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء . قال - تعالى - :

{ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ . . . }

آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 )

قوله : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون } استئناف قصد به الإِخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما يشرفهم ويعلى من أقدارهم ومنازلهم .

أي : صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه من ربه في هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام والسنن والبينات والهدايات تصديق إذعان وإقرار وإطمئنان ، وكذلك المؤمنون الذين صدقوه واتبعوه آمنوا بما آمن به رسولهم وداعيهم إلى الحق صلى الله عليه وسلم .

وقد قرن - سبحانه - إيمان المؤمنين بإيمان رسولهم صلى الله عليه وسلم تشريفاً لهم وللإِشارة إلى أنهم متى صدقوا في إيمانهم كانت منزلتهم عند الله - تعالى - قريبة من منازل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .

وفي تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع ، وإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من آمن بما أوحى إليه من ربه ، وهو أقوى الناس إيماناً ، وأصدقهم يقينا . وأكثرهم استجابة لأوامر الله .

وقوله : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } بيان للإِيمان الكامل الذي اعتقدوه وصدقوا به .

أي : كل فريق من هذين الفريقين وهما الرسول والمؤمنون آمن إيماناً تاماً بوجود الله - تعالى - ووحدانيته ، وكمال صفاته ، ووجوب الخضوع والعبادة له ، وبوجود الملاكئة وأنهم عباد مكرمون { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } كما آمنوا بكتب الله التي أنزلها لسعادة البشر ، وبرسله الذين أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور .

ثم بين - سبحانه - أن من صفات هؤلاء الأخيار أنهم لا يفرقون بين رسل الله - تعالى - فقال : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } أي يقولون لا نفرق في الإِيمان بين رسل الله - تعالى - وإنما نؤمن بهم جميعاً ، ونصدق برسالة كل رسول أرسله الله - تعالى - ولا نقول كما قال الضالون { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } ثم حكى - سبحانه - ما قالوه مما يدل على صدق إيمانهم ، ونقاء نفوسهم وطهارة قلوبهم فقالوا : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : وقالوا سمعنا قولك وفهمناه ، وامتثلنا أمرك - يا الهنا - واستقمنا عليه ، وصبرنا على تكاليفه بكل رضا واستسلام . { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من فضل رحمتك ونعمك فأنت ربنا وخالقنا والعليم بأحوالنا وبضعفنا .

فقوله : { غُفْرَانَكَ } مصدر منصوب على المفعول المطلق والعامل فيه مقدر أي : اغفر غفرانك . وقوله : { وَإِلَيْكَ المصير } أي : وإليك وحدك المرجع والمآب ، ومنك وحدك يكون الحساب والثواب والعقاب ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت الرسول صلى الله عليه وسلم مدحاً عظيماً ، ومدحت أتباعه المؤمنين الصادقين لاستجابتهم لأوامر الله ونواهيه ، وتضرعهم إليه بخالص الدعاء أن يغفر لهم ما فرط منهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (285)

284

285

فقوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .

قال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية : " ويحق له أن يؤمن " {[4707]} .

وقد روى الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو النضر الفقيه : حدثنا معاذ بن نجدة القرشي ، حدثنا خلاد بن يحيى ، حدثنا أبو عقيل ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حق له أن يؤمن " . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . {[4708]} .

وقوله : { وَالْمُؤْمِنُون } عطف على { الرَّسُولُ } ثم أخبر عن الجميع فقال : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لا إله غيره ، ولا رب سواه . ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء ، لا يفرقون بين أحد منهم ، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مَهْديون هادون إلى سُبُل{[4709]} الخير ، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله ، حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، الذي تقوم الساعة على شريعته ، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين .

وقوله : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : سمعنا قولك يا ربنا ، وفهمناه ، وقمنا به ، وامتثلنا العمل بمقتضاه ، { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } سؤال للغَفْر {[4710]}والرحمة واللطف .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } قال : قد غفرت لكم ، { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب . {[4711]}


[4707]:تفسير الطبري (6/124).
[4708]:المستدرك (2/287) وتعقبه الذهبي، قلت: "منقطع"، وذلك لأن يحيى بن أبي كثير رأى أنسا ولم يسمع منه.
[4709]:في أ: "إلى سبيل".
[4710]:في جـ، أ: "بالعفو".
[4711]:في أ، و: "إلى آخر السورة".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (285)

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 )

سبب هذه الآية( {[2854]} ) أنه لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية التي قبلها . وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ثم تقرر الأمر على أن { قالوا سمعنا وأطعنا } ، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية ، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا ، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله أعاذنا الله من نقمه ، و { آمن } معناه صدق ، و { الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم ، و { بما أنزل إليه من ربه } هو القرآن وسائر ما أوحي إليه( {[2855]} ) ، من جملة ذلك هذه الآية( {[2856]} ) التي تأولوها شديدة الحكم ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه قال : ويحق له أن يؤمن( {[2857]} ) ، وقرأ ابن مسعود «وآمن المؤمنون » ، و { كل } لفظة تصلح للإحاطة ، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام( {[2858]} ) ، ولما وردت هنا بعد قوله { والمؤمنون } دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر .

والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه .

والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم .

والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ما أخبر هو به ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «وكتبه » على الجمع ، وقرؤوا في التحريم و «كتابه »( {[2859]} ) على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه » على الجمع ، وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه » على التوحيد فيهما ، وروى حفص عن عاصم ها هنا وفي التحريم «وكتبه » مثل أبي عمرو ، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك ، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء ، فمن جمع أراد جمع كتاب ، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى ، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا : نسج اليمن( {[2860]} ) ، وقال أبو علي في صدر كلامه : أما الإفراد في قول من قرأ «وكتابه » فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير ، كقوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] ونحو ذلك ، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، كقولهم : كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك( {[2861]} ) ، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة ، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل :{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }( {[2862]} ) [ إبراهيم : 34 ] وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها( {[2863]} ) ، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف ، ومنه قول ابن الرقاع :

يَدَعُ الْحَيَّ بالعشيِّ رَعَاهَا . . . وَهُم عَنْ رَغِيفِهِمْ أَغْنِيَاءُ( {[2864]} )

ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، وقرأت الجماعة «ورسُله » بضم السين ، وكذلك «رسُلنا » و «رسُلكم » و «رسُلك »( {[2865]} ) إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا » و «رسلكم » ، وروي عنه في «رسلك » التثقيل والتخفيف ، قال أبو علي من قرأ «على رسلك » بالتثقيل فذلك أصل الكلمة ، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب ، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل ، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتْبه ورسْله » بسكون التاء والسين ، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله » ، وقرأ جمهور الناس «لا نفرق » بالنون ، والمعنى يقولون لا نفرق( {[2866]} ) ، وقرأ سعيد بن جبير ويحيي بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب «لا يفرق » بالياء ، وهذا على لفظ { كل } ، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود «لا يفرقون » ، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .

وقوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا } مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر ، والطاعة قبول الأوامر ، و { غفرانك } مصدر كالكفران والخسران ، ونصبه على جهة نصب المصادر ، والعامل فيه فعل مقدر ، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك ، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك ، { وإليك المصير } إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال له جبريل : يا محمد إن الله قد أجل( {[2867]} ) الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تعطه ، فسأل إلى آخر السورة( {[2868]} ) .


[2854]:- انظر صحيح الإمام مسلم، وبهذا السبب ظهرت مناسبة الآية لما قبلها.
[2855]:- من العقائد والشرائع والأحكام في القرآن وفي غيره.
[2856]:- وهي قوله تعالى: [وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء].
[2857]:- رواه ابن جرير عن قتادة، ورواه الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال: إسناده صحيح.
[2858]:- نحو قوله تعالى: [تدمر كل شيء بأمر ربّها]، فإنها إنما دمرتهم ودمرت مساكنهم دون غيرهم.
[2859]:- في قوله تعالى: [ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا، وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه، وكانت من القانتين]. الآية (12).
[2860]:- أي منسوجه، فالكتاب بمعنى المكتوب.
[2861]:- يعني أن معنى الكثرة في المصادر المفردة غير معنى الكثرة في الأسماء المفردة، كما تقول: خرق كثير – أي واسع، وهلاك كثير: أي دائم.
[2862]:- من الآية (18) من سورة النحل. وقوله تعالى: (وادعوا ثبورا) من الآية (14) من سورة الفرقان.
[2863]:- رواه الإمام أحمد في مسند أبي هريرة بلفظ – (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، يشهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه). ورواه الإمام مسلم في الفتن وأشراط الساعة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعدتم من حيث بدأتم) هو بمعنى: بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ.
[2864]:- أي عدي بن الرقاع. يقال: غرث غرثاً: جاع، فهو غرثان.
[2865]:- تكررت (رسلنا) في كثير من الآيات – منها: [ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات] (32) من سورة المائدة. وجاءت (رسلكم) في الآية (50) من سورة غافر: [قالوا: أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات]. وجاءت (رسلك) في الآية (194) من سورة آل عمران: [ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك].
[2866]:- وحذف القول في الكلام الفصيح كثير، من ذلك قوله تعالى: [والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم] أي: يقولون: سلام عليكم الخ.
[2867]:- في نسخة بالجيم، وفي أخرى بالحاء، ومنه حديث: (اليوم أُحلّ عليكم رضواني).
[2868]:- رواه ابن جرير عن جابر رضي الله عنه. وهي سبعة أسئلة مستجابة، لما ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: قد فعلت – عقب كل دعاء من هذه الأدعية، أي قد استجبت. ومن أدب القرآن حذف النداء في نداء الله تعالى فيقال: ربِّ، ربّنا، ولا يوجد في القرآن بالنداء إلا في موضعين: الأول: في سورة الفرقان: [وقال الرسول يا رب إن قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورا] والثاني: في سورة الزخرف: [وَقِيلِهِ ياربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون].
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (285)

قال الزجاج : « لما ذكر الله في هذه السورة أحكاماً كثيرةً ، وقصصاً ، ختمها بقوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } تعظيماً لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل » . يعني : أنّ هذا انتقال من المواعظ ، والإرشاد ، والتشريع ، وما تخلّل ذلك : ممّا هو عون على تلك المقاصد ، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرّع عليه العمل ؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب ، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل . فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم ، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر : هو كالحاصل والفذلكة ، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض . وورد في أسباب النزول أنّ قوله : { آمن الرسول } يرتبط بقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } [ البقرة : 284 ] كما تقدم آنفاً .

وأل في الرسول للعد . وهو عَلَم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالى : { وهمّوا بإخراج الرسول } [ التوبة : 13 ] . و { المؤمنون } معطوف على { الرسول } ، والوقف عليه .

والمؤمنون هنا لَقَب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله : { آمن } فائدةٌ ، مع أنّه لا فائدةَ في قولك : قامَ القائمون .

وقوله : { كل آمن بالله } جمع بعد التفصيل ، وكذلك شأن ( كلَ ) إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حُكْم ، ثم إرادة جمعه في ذلك ، كقول الفضل بن عباس اللَّهَبِي ، بعد أبيات :

كُلٌّ له نِيَّةٌ في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتَقْلُونا

وإذ كانت ( كلّ ) من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوينَ عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في « التسهيل » . ولا يعكر عليه أنّ ( كل ) اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه . فمن جوّز أن يكون عَطْفُ { المؤمنون } عطفَ جملة وجعل { المؤمنون } مبتدأ وجعل { كلٌّ } مبتدأ ثانياً { وآمن } خبره ، فقد شذّ عن الذوق العربي .

وقرأ الجمهور { وكتبه } بصيغة جمع كتاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي : وكِتَابِه ، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب . فيكون مساوياً لقوله : { وكتبه } ، إذ المراد الجنس ، والحقُّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس ، ألا تراهم يقولون : إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري ، ولذلك يقال : إذا دَخلت ألْ الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية ، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين ، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام ، وعن ابن عباس أنّه قال ، لما سئل عن هذه القراءة : « كتابِه أكثر من كُتبِه أو الكتاب أكثر من الكتب » فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس ، لاحتمال إرادة جنس الجموع ، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس ، ولهذا قال صاحب « المفتاح » « استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع » .

والحقُّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات . وأنّ كلام ابن عباس إن صح نقله عنه فتأويله أنّه أكْثَر لمساواته له معنى ، مع كونه أخصر لفظاً ، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى .

وقوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارَك ، وهو يحتمل الالتفات : بأن يكون من مقول قول محذوففٍ دل عليه السياق وعطف { وقالوا } عليه . أو النون فيه للجلالة أي آمَنُوا في حَال أنّنا أمرناهم بذلك ، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة . وقيل : هو مقول لقول محذوف دل عليه آمَن ؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول . وقرأه يعقوب بالياء : على أنّ الضمير عائد على { كلُّ آمن بالله } .

والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق : بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض .

وقوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى : { لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] .

{ وقالوا سمعنا وأطعنا } عطف على { آمن الرسول } والسمع هنا كناية عن الرضا ، والقبول ، والامتثال ، وعكسه لا يَسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة :

* تَناذَرَهَا الرّاقُون مِنْ سُوءِ سَمْعِها *

أي عدم امتثالها للرُّقْيَا . والمعنى : إنَّهم آمنوا ، واطمأنّوا وامتثلوا ، وإنّما جيء بلفظ الماضي ، دون المضارع ، ليدلوا على رسوخ ذلك ؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا ، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعْت .

وغفرانك نُصب على المفعول المطلق : أي اغفِرْ غفرانك ، فهو بدل من فعله . والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث ، وجعل منتهياً إلى الله لأنّه منتهٍ إلى يوم ، أو عالَم ، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة . ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان . كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين ، ثم صاروا إلى الله ، وهذا كقوله تعالى : { ففروا إلى اللَّه } [ الذاريات : 50 ] . وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه : كقوله : { ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه } [ النور : 39 ] وتقديم المجرور لإفادة الحصر : أي المصير إليك لا إلى غيرك ، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته ، وهو أنّهم عالِمون بأنّهم صائرون إليه ، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال .