وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم ، بأن يتركوا الشرك بالله ، ويقبلوا على إخلاص العمل لله ، وهيهات ، فات الأمر ، وليس الوقت وقت إمهال وإنظار ، ومع هذا ، فهم كذبة ، فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنما هو قول يقولونه ، وأماني يتمنونها ، حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم ، فرأس المتبوعين على الشر ، إبليس ، ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ }
ثم بين - سبحانه - ما قاله الأتباع على سبيل الحسرة والندم فقال : { وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } .
الكرة : الرجعة والعودة . يقال : كر يكر كراً : أي : رجع . و ( لو ) للتمني . وقوله : { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } منصوب بعد الفاء بأن مضمرة في جواب التمني الذي أشربته لو ، والكاف في قوله { كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } في محل نصب نعت لمصدر محذوف أي تبرأ مثل تبرئهم .
والمعنى : وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب ، ولنشفي غيظنا منهم لأنهم خذلونا وأوردونا موارد التهلكة والعذاب الأليم .
وقوله - تعالى - : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } تذبيل لتأكيد الوعيد ، وبيان لحال المشركين في الآخرة .
قال الآلوسي : وقوله : { كَذَلِكَ } في موضع المفعول المطلق لما بعده ، والمشار إليه الإِراء المفهوم من قوله : { إِذْ يَرَوْنَ } أي : كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري وتقطع الأسباب وتمنى الرجعة ، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم . وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإِشارة من الضخامة . أي : مثل ذلك الإِراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } والمراد بأعمالهم : المعاصي التي ارتكبوها وفي مقدمتها اتباعهم لمن أضلوهم .
و { حَسَرَاتٍ } جمع حسرة ، وهي أشد درجات الندم والغم على ما فات . يقال : حسر يحسر حسراً فهو حسير ، إذا اشتدت ندامته على أمر فاته .
قال الرازي : وأصل الحسر الكشف . يقال حسر ذراعيه أي : كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة . والحسور الإِعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر . قال - تعالى - :
{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } بينهم ، يريهم - سبحانه - أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم .
ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } .
أي : وما هم بخارجين من تلك النار التي عوقبوا بها بسبب شركهم ، بل هم مستقرون فيها استقراراً أبدياً ، وقد جاءت الجملة اسمية لتأكيد نفي خروجهم من النار ، وبيان أنهم مخلدون فيها كما قال - تعالى - في آية أخرى : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } وهكذا يسوق لنا القرآن ما يدور بين التابعين والمتبوعين يوم القيامة من تنصل وتحسر وتخاصم بتلك الطريقة المؤثرة ، حتى لكأنك أمام مشهد مجسم ، ترى فيه الصور الشاخصة حاضرة . وذلك لون من ألوان بلاغه القرآن في عرضه للحقائق ، حتى تأخذ سبيلها إلى النفوس الكريمة ، وتؤتى ثمارها الطيبة في القلوب السليمة .
وقوله : { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } أي : لو أن لنا عَوْدة{[3042]} إلى الدار الدنيا حتى نَتَبَرَّأ من هؤلاء ومن عبادتهم ، فلا نلتفت إليهم ، بل نوحد الله وحده بالعبادة . وهم كاذبون في هذا ، بل لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه . كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك ؛ ولهذا قال : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } أي : تذهب وتضمحل كما قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] .
وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } الآية [ إبراهيم : 18 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } الآية [ النور : 39 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } .
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( 167 )
وقوله تعالى : { وقال الذين اتبعوا } الآية ، المعنى وقال الأتباع الذين تبرىء منهم : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحاً ونتبرأ منهم ، والكرة : العودة إلى حال قد كانت ، ومنه قول جرير( {[1524]} ) : [ الكامل ]
ولقد عطفن على فزارة عطفة . . . كر المنيح وجلن ثم مجالا( {[1525]} )
والمنيح هنا : أحد الأغفال من سهام الميسر( {[1526]} ) ، وذلك أنه إذا خرج من الربابة( {[1527]} ) رد لفوره لأنه لا فرض فيه ولا حكم عنه ، والكاف من قوله { كما } في موضع نصب على النعت إما لمصدر أو لحال( {[1528]} ) تقديرها متبرئين كما ، والكاف من قوله { كذلك يريهم } قيل : هي في موضع رفع على خبر ابتداء تقديره الأمر كذلك ، وقيل : هي كاف تشبيه مجردة ، والإشارة بذلك إلى حالهم وقت تمنيهم الكرة .
والرؤية في الآية هي من رؤية البصر ، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب ، و { أعمالهم } قال الربيع وابن زيد المعنى : الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار ، وقال ابن مسعود والسدي المعنى : الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة ، ورويت في هذا القول أحاديث ، وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها ، وأما إضافة الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها ، و { حسرات } حال على أن تكون الرؤية بصرية ، ومفعول على أن تكون قلبية ، والحسرة أعلى درجات الندامة والهم بما فات ، وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته كالبعير والبصر ، وقيل هي من حسر إذا كشف( {[1529]} ) ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يحسر الفرات عن جبل من ذهب »( {[1530]} ) .