{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ } من المخلوقين { أَبْغِي رَبًّا } أي : يحسن ذلك ويليق بي ، أن أتخذ غيره ، مربيا ومدبرا والله رب كل شيء ، فالخلق كلهم داخلون تحت ربوبيته ، منقادون لأمره ؟ " .
فتعين علي وعلى غيري ، أن يتخذ الله ربا ، ويرضى به ، وألا يتعلق بأحد من المربوبين الفقراء العاجزين .
ثم رغب ورهب بذكر{[307]} الجزاء فقال : { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } من خير وشر { إِلَّا عَلَيْهَا } كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } بل كل عليه وزر نفسه ، وإن كان أحد قد تسبب في ضلال غيره ووزره ، فإن عليه وزر التسبب من غير أن ينقص من وزر المباشر شيء .
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من خير وشر ، ويجازيكم على ذلك ، أوفى الجزاء .
ثم قال لهم للمرة الثالثة على سبيل التعجب من حالهم ، والاستنكار لواقعهم : { قل أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً } أى : أغير الله - تعالى - تريدوننى أن أطلب رباً فأشركه فى عبادته ، والحال والشأن أنه - سبحانه - هو رب كل شىء ومليكه ، وهو الخالق لكل شىء .
فجملة { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } حال فى موضع العلة لإنكار ما هم عليه من ضلال .
ثم بين - سبحانه - أن كل إنسان مجازى بعمله فقال : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أى : لا تجترح نفس إثما إلا عليها من حيث عقابه . فلا يؤاخذ سواها به ، وكل مرتكب لإثم فهو وحده المعاقب به .
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أى : ولا تحمل نفس مذنبة ولا غير مذنبة ذنب نفس أخرى ، وإنما تتحمل الآثمة وحدها عقوبة إثمها الذى ارتكبته بالمباشرة أو بالتسبب .
قال القرطبى : واصل الوزر الثقل ، ومنه قوله تعالى ( وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ) وهو هنا الذنب كما فى قوله تعالى
{ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } ثم بين - سبحانه - نهايتهم فقال : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } أى : رجوعكم بعد الموت يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } بتمييز الحق من الباطل ، ومجازاة كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر على حسب علمه .
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } أي : أطلب ربا سواه ، وهو رب كل شيء ، يَرُبّنِي ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري ، أي : لا أتوكل إلا عليه ، ولا أنيب إلا إليه ؛ لأنه رب كل شيء ومليكه ، وله الخلق والأمر .
هذه{[11524]} الآية فيها الأمر بإخلاص التوكل ، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له{[11525]} لا شريك له . وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرًا [ في القرآن ]{[11526]} كما قال{[11527]} تعالى مرشدًا لعباده أن يقولوا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] ، وقوله { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9 ] ، وأشباه ذلك من الآيات .
وقوله : { وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله ، أن النفوس إنما تجازى بأعمالها{[11528]} إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد . وهذا من عدله تعالى ، كما قال : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [ فاطر : 18 ] ، وقوله { فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } [ طه : 112 ] ، قال علماء التفسير{[11529]} : فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ، ولا يهضم بأن ينقص من حسناته . وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [ المدثر : 38 ، 39 ] ، معناه : كل نفس مرتهنة بعملها السيئ إلا أصحاب اليمين ، فإنه قد تعود{[11530]} بركات أعمالهم الصالحة على ذراريهم ، كما قال في سورة الطور : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الآية : 21 ] ، أي : ألحقنا بهم ذرياتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة ، وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال ، بل في أصل الإيمان ، { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ } أي : أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة ، بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم ، بفضله ومنته{[11531]} ثم قال : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] ، أي : من شر .
وقوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه ، فستعرضون ونعرض عليه ، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم ، وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا ، كما قال تعالى : { قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ . قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 25 ، 26 ] .
{ قل أغير الله أبغي ربا } فأشركه في عبادتي وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم . { وهو رب كل شيء } حال في موضع العلة للإنكار والدليل له أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية . { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك . { ولا تز وازرة وزر أخرى } جواب عن قولهم : { اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } . { ثم إلى ربكم مرجعكم } يوم القيامة . { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } بتبيين الرشد من الغي وتمييز المحق من المبطل .
{ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى }
استئناف ثالث ، مفتتح بالأمر بالقول ، يتنزّل منزلة النّتيجة لما قبله ، لأنَّه لمَّا عُلم أنّ الله هداه إلى صراط مستقيم ، وأنقذه من الشّرك ، وأمره بأن يمحّض عبادته وطاعته لربّه تعالى ، شكراً على الهداية ، أتبع ذلك بأن يُنكر أنْ يَعْبُد غير الله تعالى لأنّ واهب النّعم هو مستحقّ الشّكر ، والعبادةُ جماع مراتب الشّكر ، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عَبدوا غيره وإعادة الأمر بالقول تقدّم بيان وجهه .
والاستفهام إنكار عليهم لأنَّهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم ، وقد حاولوا منه ذلك غير مرّة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه ، فهم دائمون على الرّغبة في موافقتهم على دينهم ، حكى ابن عطيّة عن النقّاش أنّ الكفّار قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلم « ارجِعْ إلى ديننا واعْبُدْ آلهتنا ونحن نتكفّل لك بكلّ تباعة تتوقَّعها في دنياك وآخرتك » وأنّ هذه الآية نزلت في ذلك .
وقدّم المفعول على فعله لأنَّه المقصود من الاستفهام الإنكاري ، لأنّ محلّ الإنكار هو أن يكون غير الله يُبتغى له ربّاً ، ولأنّ ذلك هو المقصود من الجواب إذا صحّ أنّ المشركين دعوا النّبي صلى الله عليه وسلم لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجِب أو لموجِبَيْن ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قل أغير الله أتخذ وليا } في هذه السّورة ( 14 ) .
وجملة : { وهو رب كل شيء } في موضع الحال ، وهو حال معلّل للإنكار ، أي أنّ الله خالق كلّ شيء وذلك باعترافهم ، لأنَّهم لا يدّعون أنّ الأصنام خالقة لشيء ، كما قال تعالى : { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [ الحج : 73 ] فلمّا كان الله خالق كلّ شيء وربَّه فلا حقّ لغيره في أن يعبده الخلائق ، وعبادة غيره ظلم عظيم ، وكفر بنعمة الربوبيّة ، وبقطع النَّظر عن كون الخلق نعمة ، لأنّ الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم ، فإنّ مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبوديّة .
وإنَّما قيل : { وهو رب كل شسء } ، ولم يقل : وهو ربّي ، لإثبات أنّه ربّه بطريق الاستدلال لكونه إثباتَ حكم عام يشمل المقصودَ الخاصّ ، ولإفادة أنّ أربابهم غير حقيقة بالربوبيّة لأنَّها مربوبة أيضاً لله تعالى .
وقوله : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } من القول بالمأمور به ، مفيد متاركةً للمشركين ومَقتاً لهم بأنّ عنادهم لا يَضرّه ، فإنّ ما اقترفوه من الشّرك لا يناله منه شيء فإنَّما كسب كلّ نفس عليها ، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم . فالتّعميم في الحكم الواقع في قوله : { كل شيء } فائدته مثل فائدة التّعميم الواقع في قوله : { وهو رب كل شيء } .
ودلّت كلمة ( على ) على أنّ مفعول الكسب المحذوف تقديره : شرّاً ، أو إثماً ، أو نحو ذلك ، لأنّ شأن المخاطبين هو اكتساب الشرّ والإثم كقوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } [ الأنعام : 52 ] ولك أن تجعل في الكلام احتباكاً تقديره : ولا تكسب كلّ نفس إلاّ لها ولا تكتسب إلا عليها فحذف من الأول لدلالة الثّاني وبالعكس إذا جربت على أن ( كسب ) يغلب في تحصيل الخير ، وأنّ ( اكتسب ) يغلب في تحصيل الشرّ ، سواء اجتمع الفعلان أم لم يجتمعا . ولا أحسب بين الفعلين فرقا ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] . والمعنى : أنّ ما يكتسبه المرء أو يكسبه لا يتعدى منه شيء إلى غيره .
وقوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } تكملة لمعنى قوله : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } فكما أنّ ما تكسبه نفس لا يتعدّى منه شيء إلى غيرها ، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئاً ، والمعنى : ولا أحمل أوزاركم .
فقوله : { وازرة } صفة لموصوف محذوف تقديره : نفس ، دلّ عليه قوله : { ولا تكسب كل مفس إلا عليها } ، أي لا تحمل نفس حاملة حِمْل أخرى .
والوزر : الحِمل ، وهو ما يحمله المرء على ظهره ، قال تعالى : { ولكنّا حُمّلنا أوزاراً من زينة القوم } [ طه : 87 ] ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون } [ الأنعام : 31 ] . وأمَّا تسمية الإثم وزراً فلأنَّه يتخيّل ثقيلاً على نفس المؤمن . فمعنى { لا تزر وازرة } لا تحمل حاملة ، أي لا تحمل نفس حين تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها ، فالمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئاً تحمله عنها ، أي كلّ نفس تزر وزر نفسها ، فيفيد أنّ وزر كلّ أحد عليه وأنَّه لا يحمل غيرُه عنه شيئاً من وزره الذي وزَره وأنَّه لا تَبعة على أحد من وزر غيره من قريب أو صديق ، فلا تغني نفس عن نفس شيئاً ، ولا تُتَّبع نفس بإثم غيرها ، فهي إن حَمَلت لا تحمل حِمل غيرها . وهذا إتمام لمعنى المتاركة .
{ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون }
{ ثمّ } للتّرتيب الرّتبي . وهذا الكلام يحتمل أن يكون من جملة القول المأمور به فيكون تعقيباً للمتاركة بما فيه تهديدهم ووعيدهم ، فكان موقع { ثمّ } لأنّ هذا الخبر أهمّ . فالخطاب في قوله : { إلى ربكم مرجعكم } خطاب للمشركين وكذلك الضّميران في قوله : { بما كنتم فيه تختلفون } والمعنى : بما كنتم فيه تختلفون مع المسلمين ، لأنّ الاختلاف واقع بينهم وبين المسلمين ، وليس بين المشركين في أنفسهم اختلاف . فأدمج الوعيد بالوعيد . وقد جعلوا هذه الجملة مع التي قبلها آية واحدة في المصاحف .
ويحتمل أن يكون المقول قد انتهى عند قوله : { وزر أخرى } فيكون قوله : { ثم إلى ربكم مرجعكم } استئناف كلام من الله تعالى خطاباً للنّبيء صلى الله عليه وسلم وللمعاندين له . و ( ثُمّ ) صالحة للاستئناف لأنّ الإستئناف ملائم للتّرتيب الرّتبي ، والكلام وعيد ووعد أيضاً . ولا ينافي ذلك أن تكون مع التي قبلها آية واحدة .
والتّنبئة : الإخبار ، والمراد بها إظهار آثار الإيمان والكفر واضحة يوم الحساب ، فيعلموا أنَّهم كانوا ضالّين ، فشبّه ذلك العلم بأنّ الله أخبرهم بذلك يومئذ وإلاّ فإنّ الله نبأهم بما اختلفوا فيه من زمَن الحياة الدّنيا ، أو المراد ينبّئكم مباشرة بدون واسطة الرّسل إنباء لا يستطيع الكافر أن يقول : هذا كذب على الله ، كما ورد في حديث الحَشر : « فيُسمعهم الدّاعي ليس بينهم وبين الله حِجاب » .