هذا ما وعد اللّه به المؤمنين ، من نصر دينه وإعلاء كلمته ، وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة ، من بيت اللّه الحرام ، وأجلوهم ، مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز .
نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة ، وأذل المشركين ، وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار .
فأمر النبي{[361]} مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر ، وهو يوم النحر ، وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم ، من جميع جزيرة العرب ، أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين ، فليس لهم عنده عهد وميثاق ، فأينما وجدوا قتلوا ، وقيل لهم : لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا ، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة .
وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ، وأذن ببراءة -يوم النحر- ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه .
ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة ، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال : { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ْ }
أي : فائتيه ، بل أنتم في قبضته ، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين . { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ } أي : مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر ، والجلاء ، وفي الآخرة ، بالنار ، وبئس القرار
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة من المشركين حتى لا يكون لهم عذر بعد هذا الإِعلان فقال - تعالى - :
{ وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ . . . } .
الأذان : الإِعلام تقول : آذنته بالشئ إذا أعلمته به . ومنه الأذان للصلاة أى الإِعلام بحلول وقتها . وهو بمعنى الإِيذان كما أن العطاء بمعنى الإِعطاء .
قال الجمل : وهو مرفوع بالابتداء . و { مِّنَ الله } إما صفته أو متعلق به { إِلَى الناس } الخبر ، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف . أى : وهذه ، أى : الآيات الآتى ذكرها إعلام من الله ورسوله . .
والمعنى : وهذه الآيات إيذان وإعلان من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين ، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم ، بسبب إصرارهم على شركهم ونقضهم لمواثيقهم .
وأسند - سبحانه - الأذان إلى الله ورسوله ، كما أسنتدت البراءة إليهما ، إعلاء لشأنه وتأكيدا لأمره :
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية ؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإِعلام بما ثبت .
فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس ؟ قلت : لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس " من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث " .
واختير يوم الحج الأكبر لهذا الإِعلام ، لأنه اليوم الذي يضم أكبر عدد من الناس يمكن أن يذاع الخبر عن طريقهم في جميع أنحاء البلاد .
وأصح ما قيل في يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر . وقيل : هو يوم عرفة ، وقيل : هو جميع أيام الحج .
وقد رجح ابن جرير - بعد أن بسط الأقوال في ذلك - أن المراد بيوم الحج الأكبر : يوم النحر فقال . وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا : قول من قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر ، لتظاهر الأخبار عن جماعة من الصحابة أن علياً بما أرسله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين يوم النحر ، هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم النحر : " أتدرون أى يوم هذا ؟ هذا يوم الحج الأكبر " .
وقال بعض العلماء : قال ابن القيم : والصواب أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر ، لأنه ثبت في الحصيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة . وفى سنن أبى داود بأصح إسناد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يوم الحج الأكبر يوم النحر " ، وكذا قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة .
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوافدة والزيارة . . ويكون فيه ذبح القرابين ، وحلق الرءوس ، ورمى الجمار ، ومعظم أفعال الحج .
وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التي ما اكن ينادى به على بن أبى طالب والناس يوم الحج الأكبر ومن ذلك ما أخرجه الإِمام أحمد عن محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال : كنت مع على بن أبى طالب حين بعثه النبى - صلى الله عليه وسلم - ينادى ، فكان إذا صحل ناديت - أى كان إذا بح صوته وتعب من كثرة النداء ناديت - قلت : بأى شئ كنتم تنادون ؟ قال : بأربع : لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، ومن كانله عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعهده إلى مدته .
وسمى يوم النحر بالحج الأكبر ، لأن العمرة كانت تمسى بالحج الأصغر ولأن ما يفعل فيه معظم الحج - كما قال ابن القيم .
هذا ، وللعلماء أقوال في إعراب لفظ { وَرَسُولِهِ } من قوله - تعالى - { أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } . وقد لخص الشيخ الجمل هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال : قوله { وَرَسُولُهُ } بالرفع باتفاق السبعة وقرئ شاذا بالجر على المجاورة . أو على أن الواو للقسم وقرئ شاذا أيضاً بالنصب على أنه مفعول معه ، أو معطوف على لفظ الجلالة ، وفى الرفع ثلاثة وجوه : أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أى : ورسوله برئ منهم ، وإنما حذف للدلالة عليه . والثانى أنه معطوف على الضمير المستتر في الخبر . . والثالث : أنه معطوف على محل اسم أن . .
ثم أردف - سبحانه - هذا الإعلام بالبراءة من عهود المشركين بترغيبهم في الإِيمان وتحذيرهم من الكفر والعصيان فقال : { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
أى : فإن تبتم أيها المشركون من كفركم ، ورجعتم إلى الإِيمان بالله وحده واتبعتم ما جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو أى المتاب والرجوع إلى الحق { خَيْرٌ لَّكُمْ } من التمادى في الكفر والضلال : { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } وأعرضتم عن الإِيمان ، وأبيتم إلا الإِقامة على باطلكم { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } أى : فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله ، ولا إفلات لكم من أخذه وبطشه ، لأنكم أينا كنتم فأنتم في قبضته وتحت قدرته .
وقوله : { وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } تذييل قصد به تأكيد زجرهم عن التولى والإِعراض عن الحق .
أى : وبشر - يا محمد - هؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم بالعذاب الأليم في الآخرة بعد إنزال الخزى والمذلة بهم في الدنيا .
ولفظ البشارة ورد هنا على سبيل الاستهزاء بهم ، كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشتم .
يقول تعالى : وإعلام { مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وتَقَدُّم وإنذار إلى الناس ، { يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ } وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا{[13241]} { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أي : بريء منهم أيضا .
ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال : { فَإِنْ تُبْتُمْ } أي : مما أنتم فيه من الشرك والضلال { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أي : استمررتم على ما أنتم عليه { فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ } بل هو قادر ، وأنتم في قبضته ، وتحت قهره ومشيئته ، { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : في الدنيا بالخزي والنَّكال ، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال .
قال البخاري ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، حدثني عَقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر ، رضي الله عنه ، في تلك الحَجَّة في المُؤذِّنين ، بعثهم يوم{[13242]} النحر ، يُؤذِّنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف{[13243]} بالبيت عريان . قال حميد : ثم أردف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يُؤَذِّن ببراءة . قال أبو هريرة : فأذَّنَ معنا عليٌّ في أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان{[13244]}
ورواه البخاري أيضا : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شُعَيب ، عن الزهري ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يُؤذِّن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف{[13245]} بالبيت عُريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل : " الأكبر " ، من أجل قول الناس : " الحج الأصغر " ، فَنَبَذَ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك .
وهذا لفظ البخاري في كتاب " الجهاد " {[13246]}
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس } أي إعلام فعال بمعنى الإفعال كالأمان والعطاء ، ورفعه كرفع { براءة } على الوجهين . { يوم الحج الأكبر } يوم العيد لأن فيه تمام الحج معظم أفعاله ، ولأن الإعلام كان فيه ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال " هذا يوم الحج الأكبر " وقيل يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " . ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال ، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب ، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين .
{ أن الله } أي بأن الله . { بريء من المشركين } أي من عهودهم . { ورسوله } عطف على المستكن في { بريء } ، أو على محل { إن } واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول ، وقرئ بالنصب عطفا على اسم إن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه ، فإن قوله { براءة من الله } إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين . { فإن تبتم } من الكفر والغدر . { فهو } فالتوب { خير لكم وإن تولّيتم } عن التوبة أو تبتم على التولي عن الإسلام والوفاء . { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا في الدنيا . { وبشّر الذين كفروا بعذاب أليم } في الآخرة .
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله }
عطف على جملة { براءة من الله ورسوله } [ التوبة : 1 ] وموقع لفظ { أذان } كموقع لفظ { براءة } [ التوبة : 1 ] في التقدير ، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأنّ عهدهم انتقض .
والأذانُ اسم مصدر آذنه ، إذا أعلمه بإعلان ، مثل العطاء بمعنى الإعطاء ، والأمان بمعنى الإيمان ، فهو بمعنى الإيذان .
وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دُون المسلمين ، لأنّه تشريع وحكم في مصالح الأمّة ، فلا يكون إلاّ من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة ، لئلا يكونوا غادرين ، كما قال تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ] . والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يَهُمّ الناس كلّهم .
ويوم الحجّ الأكبر : قيل هو يوم عرفة ، لأنّه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد ، وهذا يروى عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وفي الحديث : « الحج عرفة »
وقيل : هو يوم النحر ، لأنّ الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذْ كانت الحُمْس يقفون بالمزدلفة ، ويقف بقية الناس بعرفة ، وكانوا جميعاً يحضرون منى يوم النحرِ ، فكان ذلك الاجتماع الأكبرَ ، ونسَب ابنُ عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد ، وهذا قول علي ، وابن عمر ، وابن مسعود ، والمغيرة بن شعبة ، وابن عباس أيضاً ، وابن أبي أوفى ، والزهري ، ورواه ابن وهب عن مالك ، قال مالك : لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنّه اليوم الذي تُرمى فيه الجمرة ، وينحر فيه الهدي ، وينقضي فيه الحج ، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرَك الحج .
وأقول : إن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة . فأما يوم منى فيوم عيدهم .
و { الأكبر } بالجرّ نعت للحجّ ، باعتبار تجزئته إلى أعمال ، فوُصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر ، ويظهر من اختلافهم في المراد من الحجّ الأكبر أنّ هذا اللفظ لم يكن معروفاً قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه .
وهذا الكلام إنشاءٌ لهذا الأذان ، موقّتاً بيوم الحجّ الأكبر ، فيؤوّل إلى معنى الأمر ، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحجّ الأكبر بأنّ الله ورسوله بريئان من المشركين .
والمراد ب { الناس } جميع الناس الذين ضمّهم الموسم ، ومن يبلغه ذلك منهم : مؤمنهم ومشركهم ، لأنّ هذا الأذان ممَّا يجب أن يعلمه المسلم والمشرك ، إذ كان حكمه يلزم الفريقين .
وقوله : { أن الله بريء من المشركين } يتعلّق ب { أذان } بحذف حرف الجرّ وهو باء التعدية أي إعلام بهذه البراءة المتقدّمة في قوله : { براءة من الله ورسوله } [ التوبة : 1 ] فإعادتها هنا لأنّ هذا الإعلام للمشركين المعاهَدين وغيرهم ، تقريراً لعدم غدر المسلمين ، والآية المتقدّمة إعلام للمسلمين .
وجاء التصريح بفعل البراءة مرّة ثانية دون إضمار ولا اختصار بأن يقال : وأذان إلى الناس بذلك ، أو بها ، أو بالبراءة ، لأنّ المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه ، ففيهم الذكّي والغبي ، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم .
وعُطف { ورسوله } بالرفع ، عند القرّاء كلّهم : لأنّه من عطف الجملة ، لأنّ السامع يعلم من الرفع أنّ تقديره : ورسولُه بريءٌ من المشركين ، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ ، وهذه نكتة قرآنيّة بليغة ، وقد اهتدى بها ضابىء بن الحارث في قوله :
ومن يكُ أمسَى بالمدينةِ رحله *** فإنّي وقيّارٌ بهــــا لغريب
برفع ( قيار ) لأنّه أراد أن يجعل غربة جمله المسمّى « قياراً » غربة أخرى غير تابعة لغربته .
وممّا يجب التنبيه له : ما في بعض التفاسير أنّه روى عن الحسن قراءة { ورسوله } بالجرّ ولم يصحّ نسبتها إلى الحسن ، وكيف يتصور جرّ { ورسوله } ولا عامل بمقتضي جرّه ، ولكنّها ذات قصة طريفة : أنّ أعرابياً سمع رجلاً قرأ { أن الله بريء من المشركين ورسوله } بجرّ ورسولِه فقال الأعرابي : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء . وإنّما أراد التورّكَ على القارىء ، فلبَّبَه الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءتَه فعندها أمر عمر بتعلّم العربية ، وروي أيضاً أنّ أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي . فكان ذلك سبب وضع النحو ، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو .
وهذا الأذان قد وقع في الحجّة التي حجّها أبو بكر بالناس ، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر ، موافياً الموسم ليؤذِّن ببراءة ، فأذن بها علي يوم النحر بمنى ، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية منها ، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض . ولعلّ قوله : « أو أربعين آية » شكّ من الراوي ، فما ورد في رواية النسائي ، أي عن جابر : أنّ علياً قرأ على الناس بَراءة حتّى ختمها ، فلعلّ معناه حتّى ختم ما نزل منها ممّا يتعلّق بالبراءة من المشركين ، لأنّ سورة براءة لم يتم نزولها يومئِذ ، فقد ثبت أنّ آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر آية من سورة براءة .
وإنّما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق ، لأنه قيل لرسول الله إنّ العرب لا يرون أن يَنقض أحد عهدَه مع مَن عاهده إلاّ بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذراً في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم .
وروي : أنّ علياً بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى ، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته . وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي « سترون بعد الأربعة الأشهر فإنّه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلاّ الطعن والضرب » .
{ فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب اليم }
التفريع على جملة : { أن الله بريء من المشركين } ، فيتفرّع على ذلك حالتان : حالة التوبة ، وحالة التولي .
والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة ، والمعنى : فإنْ آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه ، لأنّ الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة ، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير . والمراد بالتولي : الإعراض عن الإيمان . وأريد بفعل { تولّيتم } معنى الاستمرار ، أي : إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله ، أي اعلموا أنّكم قد وقعتم في مكنة الله ، وأوشكتم على العذاب .
وجملة : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } معطوفة على جملة : { وأذن من الله ورسوله } لما تتضمنّه تلك الجملة من معنى الأمر ، فكأنّه قيل : فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وبأنّ من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب ، ثم قال : وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم .
و ( البشارة ) أصلها الإخبار بما فيه مسرّة ، وقد استعيرت هنا للإنذار ، وهو الإخبار بما يسوء ، على طريقة التهكّم ، كما تقدّم في قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } في سورة آل عمران ( 21 ) .
والعذاب الأليم : هو عذاب القتل ، والأسر ، والسبي ، وفَيء الأموال ، كما قال تعالى : { وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين } [ التوبة : 26 ] فإنّ تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل ، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال ، أي : أنذر المشركين بأنّك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم ، كما يدلّ عليه قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] الآية .