تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

ثم مدح من غض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى ، أي : ابتلاها واختبرها ، فظهرت نتيجة ذلك ، بأن صلحت قلوبهم للتقوى ، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم ، المتضمنة لزوال الشر والمكروه ، والأجر العظيم ، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى ، وفي الأجر العظيم وجود المحبوب{[795]}  وفي هذا ، دليل على أن الله يمتحن القلوب ، بالأمر والنهي والمحن ، فمن لازم أمر الله ، واتبع رضاه ، وسارع إلى ذلك ، وقدمه على هواه ، تمحض وتمحص للتقوى ، وصار قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك ، علم أنه لا يصلح للتقوى .


[795]:- في ب: وفيه حصول كل محبوب.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

ثم مدح - سبحانه - الذين يغضون أصواتهم فى حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى . . . } .

وقوله : { يَغُضُّونَ } بمعنى يخفضون . يقال : غض فلان من صوته ومن طرفه إذا خفضه . وكل شئ كففته عن غيره فقد غضضته .

وقوله : { امتحن } أى : اختبر وأخلص ، وأصله من امتحان الذهب وإذابته ليخلص جيده من خبيثه ، والمراد به هنا : إخلاص القلوب لمراقبة الله وتقواه .

أى : إن الذين يخفضون أصواتهم فى حضرة رسول الله - صلى الله علهي وسلم - وعند مخاطبتهم له . أولئك الذين يفعلون ذلك ، هم الذين أخلص الله - تعالى - قلوبهم لتقواه وطاعته ، وجعلها خالصة من أى شئ سوى هذه الخشية والطاعة .

قال صاحب الكشاف : { امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } من قولك : امتحن فلان لأمر كذا وجرب له ، ودرب للنهوض به ، فهو مضطلع به غير وان عنه ، والمعنى : أنهم صبروا على التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقها . أو وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأن تحقق الشئ باختباره ، كما يوضع الخبر موضعها ، فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم للتقوى .

وقوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } بشارة عظيمة من الله - تعالى - لهم . أى : لهؤلاء الغاضين أصواتهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغفرة لذنوبهم ، وأجر كبير لا يعرف مقداره أحد سوى الله - تعالى - .

ولقد التزم المسلمون بهذا الأدب فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - بوعد مماته ، فقد سمع عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - رجلا يرفع صوته فى المسجد النبوى : فقال له : من أين أنت - أيها الرجل - ؟ فقال : من الطائف ، فقال له : لو كنت من أهل المدينة لأوجعتك ضربا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

ثم ندب الله عز وجل{[27049]} ، إلى خفض الصوت عنده ، وحَثّ على ذلك ، وأرشد إليه ، ورغَّب فيه ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } أي : أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .

وقد قال{[27050]} الإمام أحمد في كتاب الزهد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كُتب إلى عمر{[27051]} يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها ، أفضل ، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها ؟ فكتب عمر ، رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها { أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } {[27052]} .


[27049]:- (6) في ت: "سبحانه وتعالى".
[27050]:- (7) في ت: "وقد روى".
[27051]:- (8) في ت: "عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
[27052]:- (9) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/552) وعزاه لأحمد في الزهد.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

{ إن الذين يغضون أصواتهم } يخفضونها . { عند رسول الله } مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي . قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما . { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } جربها للتقوى ومرنها عليها ، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها ، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى ، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها ، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه . { لهم مغفرة } لذنوبهم . { وأجر عظيم } لغضهم وسائر طاعاتهم ، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لأن أو استئناف لبيان ما هو جزاء الغاضبين إحمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين ، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم ، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له ، وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره ، وهم { الذين يغضون أصواتهم } عند النبي صلى الله عليه وسلم . وغض الصوت : خفضه وكسره ، وكذلك البصر ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]

فغض الطرف إنك من نمير . . . {[10448]}

وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار{[10449]} ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ ، لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه{[10450]} . و : { امتحن الله } معناه اختبر وظهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى . وقال عمر بن الخطاب : امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات .

قال القاضي أبو محمد : من غلب شهوته وغضبه ، فذلك الذي { امتحن الله } قلبه للتقوى ، وبذلك تكون الاستقامة .


[10448]:هذا صدر بيت قاله جرير يهجو الراعي النُّميري، والبيت بتمامه: فغُض الطرف إنك من نُمير فلا كعبا ولا كِلابا وهو من قصيدته البائية التي بدأها بقوله: أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا والبيت في الديوان، والكتاب لسيبويه، والعيني، وابن يعيش، والهمع، والأشموني، وشرح واهد الشافية،والتصريح، وفي الكامل للمبرد:(فغض) بكسر الضاد، وفي الخزانة: فغُض بالفتح والكسر والضم، والنحويون يستشهدون به على جواز الفتح في (غض) المضعف لالتقاء الساكنين، وقد قيل: هو أهجى بيت قالته العرب:
[10449]:ذكره الواحدي في (أسباب النزول)، وأخرجه البزار، وابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبي بكر رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم، والبيهقي في (المدخل) من حديث أبي هريرة وقال: صحيح على شرط مسلم.
[10450]:جاء في ذلك في حديث ابن أبي مليكة الذي رواه البخاري وذكرناه قبل ذلك، وفيه أن ابن الزبير رضي الله عنهما قال:"فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه"، وفي الخبر أنه لم يذكر ذلك عن جده أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، راجع صفحة(483) من هذا الجزء.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } [ الحجرات : 2 ] كان أبو بكر لا يكلم رسولَ الله إلا كأخي السِّرار ، أي مصاحب السرِّ من الكلام ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللَّه } الآية . فهذه الجملة استئناف بياني لأن التحذير الذي في قوله : { أن تحبط أعمالكم } [ الحجرات : 2 ] الخ يثير في النفس أن يسأل سائل عن ضد حال الذي يرفع صوته .

وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم ، وتفيد الجملة تعليلَ النهيين بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهُما وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } مع ما في اسم الإشارة من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخبر المذكور بعده لأجللِ ما ذكر من الوصف قبل اسم الإشارة .

وإذ قد علمت آنفاً أن محصل معنى قوله : { لا ترفعوا أصواتكم } وقوله : { ولا تجهروا } [ الحجرات : 2 ] الأمر بخفض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم يتضح لك وجهُ العدول عن نوط الثناء هنا بعدم رفع الصوت وعدم الجهر عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نوطه بغض الصوت عنده .

والغض حقيقته : خفض العين ، أي أن لا يُحدق بها إلى الشخص وهو هنا مستعار لِخفض الصوت والميلِ به إلى الإسرار .

والامتحان : الاختبار والتجربة ، وهو افتعال من مَحَنه ، إذا اختبره ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة كقولهم : اضطره إلى كذا .

واللام في قوله : للتقوى لام العلة ، والتقدير : امتحن قلوبهم لأجل التقوى ، أي لتكون فيها التقوى ، أي ليكونوا أتقياء ، يقال : امتحَن فلان للشيء الفلاني كما يقال : جرب للشيء ودُرب للنهوض بالأمر ، أي فهو مضطلع به ليس بِواننٍ عنه فيجوز أن يجعل الامتحان كناية على تمكّن التقوى من قلوبهم وثباتهم عليها بحيث لا يوجدون في حال مَّا غيرَ متقين وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم ، ويجوز أن يجعل فعل { امتحن } مجازاً مرسلاً عن العلم ، أي علم الله أنهم متقون ، وعليه فتكون اللام من قوله : { للتقوى } متعلّقة بمحذوف هو حال من قلوب ، أي كائنة للتقوى ، فاللام للاختصاص .

وجملة { لهم مغفرة } خبر { إنّ } وهو المقصود من هذه من الجملة المستأنفة وما بينهما اعتراض للتنويه بشأنه . وجعل في « الكشاف » خبر { إنَّ } هو اسم الإشارة مع خبره وجعل جملة { لهم } مستأنفة ولكل وجه فانظره .

وقال : « وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل { إنّ } المؤكّدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً . والمبتدأ اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودَعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعَل الذين وقَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله وقدر شرف منزلته » اه . وهذا الوعد والثناء يشملان ابتداءً أبا بكر وعمر إذ كان كلاهما يكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأخي السِّرار .