{ 12 - 15 ْ } { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ }
يقول تعالى بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ْ } أي : نقضوها وحلوها ، فقاتلوكم أو أعانوا على قتالكم ، أو نقصوكم ، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ْ } أي : عابوه ، وسخروا منه .
ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين ، أو إلى القرآن ، { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ْ } أي : القادة فيه ، الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن ، الناصرين لدين الشيطان ، وخصهم بالذكر لعظم جنايتهم ، ولأن غيرهم تبع لهم ، وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه ، فإنه من أئمة الكفر .
{ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ْ } أي : لا عهود ولا مواثيق يلازمون على الوفاء بها ، بل لا يزالون خائنين ، ناكثين للعهد ، لا يوثق منهم .
{ لَعَلَّهُمْ ْ } في قتالكم إياهم { يَنْتَهُونَ ْ } عن الطعن في دينكم ، وربما دخلوا فيه ، ثم حث على قتالهم ، وهيج المؤمنين بذكر الأوصاف ، التي صدرت من هؤلاء الأعداء ، والتي هم موصوفون بها ، المقتضية لقتالهم فقال :
أما إن كانت الآخرى ، أى إذا لم يتوبوا وصاروا على عداوتهم ، فقد بين سبحانه . ما يجب على المؤمنين نحوهم في هذه الحالة فقال : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } .
أى : وإن نقضوا عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها .
وقوله : { نكثوا } من النكث بمعنى النقض والحل . يقال نكث فلان الحبل إذا نقض فتله وحل خيوطه ومنه قوله - تعالى - : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } وقوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } معطوف على ما قبله . أى : وعابوه وانتقضوه .
وقوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أى : فقاتلوهم فهم أئمة الكفر ، وحملة لوائه . فوضع - سبحانه - الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم .
وقيل : المراد بأئمة الكفر رؤسائهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين ، ويقودونهم لقتال النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
وعطف . سبحانه - قوله { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة قتالهم ، لزيادة تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم .
وقوله : { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة صادقة ، وقلوب ثابتة ، لأنهم قوم لا أيمان عهود لهم الحقيقة ، لأنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان .
وقرأ ابن عامر { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } - بكسر الهمزة . على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان . أى أنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم . أو المراد الإِيمان الشرعى . أى إنهم لا تصديق ولا دين لهم ، ومن كان كذلك فلا وفاء له .
وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } .
أى : ليكن مقصدكم من مقاتلتهم - بعد أن وجد منهم ما وجد إيذائكم الرجاء في هدايتهم ، والانتهاء عن كفرهم وخيانتهم . . واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق - ما يأتى :
1- أن ما ذكرته الآيات من كون المشركين ، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، يقرر حقيقة واقعة ، ومن الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين - وخاصة مسلمى بغداد . سنة 656 . وما فعله الوثنيون الهنود مع مسلمى باكستان ، وما فعله الشيوعيون .
يقول تعالى : وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم ، أي : عهودهم ومواثيقهم ، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } أي : عابوه وانتقصوه . ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بتنقص ؛ ولهذا قال : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } أي : يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال .
وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ، وأمية بن خلف ، وعدد رجالا .
وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : مر سعد برجل من الخوارج ، فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر . فقال سعد : كذبت ، بل أنا قاتلت أئمة الكفر . رواه ابن مردويه .
وقال الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة أنه قال : ما قوتل أهل هذه الآية بعد .
وروى عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، مثله .
والصحيح أن الآية عامة ، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم ، والله أعلم .
وقال الوليد بن مسلم : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير : أنه كان في عهد أبي بكر ، رضي الله عنه ، إلى الناس حين وجههم إلى الشام ، قال : إنكم ستجدون قوما محوقة رءوسهم ، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف ، فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم ، وذلك بأن الله يقول : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } رواه ابن أبي حاتم .
{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان أو الوفاء بالعهود . { وطعنوا في دينكم } بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام . { فقاتلوا أئمة الكفر } أي فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل . وقبل المراد بالأئمة رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم . وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن . { إنهم لا أيمان لهم } أي لا أيمان لهم على الحقيقة وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا ، وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده ، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر ليست يمينا وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم } وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام ، وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون بمعنى لا يؤمنون على الإخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله . { لعلهم ينتهون } متعلق ب " قاتلوا " أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين .
وقوله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم } الآية ؛ النكث النقض وأصله في كل ما قبل ثم حل ، فهي في الأيمان والعهود مستعارة ، وقوله { وطعنوا في دينكم } أي بالإستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك ، وهذه استعارة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة : إن تطعنوا فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، الحديث{[5541]} .
قال القاضي أبو محمد : ويليق هنا ذكر شيء من طعن الذمي في الدين فالمشهور من مذهب مالك رحمه أنه : إذا فعل شيئاً من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل ، وقيل إذا كفر وأعلن بما هو معهود من معتقده وكفره أدِّب على الإعلان وترك ، وإذا كفر بما ليس من معهود كفره كالسب ونحوه قتل ، وقال أبو حنيفة في هذا : إنه يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم تقية القتل فالمشهور من المذهب أن يترك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «الإسلام يجب ما قبله »{[5542]} وفي العتبية أنه يقتل ولا يكون أحسن حالا من المسلم ، وقوله تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر } أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه ، وقال قتادة : المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير ، وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعد .
قال القاضي أبو محمد : يريد أن ينقرضوا فهم يحيون أبداً ويقتلون ، وأصوب ما في هذا أن يقال إنه لا يعنى بها معين ، وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين بالعهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال الكفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الإشارة إليهم أولاً بقوله { أئمة الكفر } وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة إذ الذي يتولى قتال النبي والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم تأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أيمة » بهمزة واحدة وبعدها ياء مكسورة ، وقد روي عن نافع مد الهمزة ، وروى عنه ابن أبي أويس «أأمة » بهمزتين وأصلها «أأمة » وزنها أفعلة جمع إمام كعماد وأعمدة ، نقلت حركة الميم إلى الهمزة التي هي فاء الفعل{[5543]} وأدغمت الميم الأخرى وقلبت الهمزة ياء لانكسارها ولاجتماع همزتين من كلمة واحدة ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «أأمة » والتعليل واحد ، إلا أنهم لم يقلبوا الهمزة ياء ، وقرأ المسيبي{[5544]} عن نافع «آيمة » بهمزة ممدودة ، وقرأ هشام عن أبي عامر بمدة بين الهمزتين{[5545]} ، وقرأ الناس الجم الغفير لا «أيمان لهم » على جمع يمين ، وليس المراد نفي الأيمان جملة ، وإنما المعنى لا أيمان لهم يوفى بها ويبر ، وهذا المعنى يشبه الآية ، وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر وحده من السبعة «لا إيمان لهم » ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق ، قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم «لا إيمان لهم » فالوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنه إيماناً ، ومنه قوله تعالى : { آمنهم من خوف }{[5546]} فالمعنى أنهم لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف ، قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم .
قال القاضي أبو محمد : والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم لا إسلام لهم .