( 164 ) معظمهم اعتدوا وتجرؤوا ، وأعلنوا بذلك .
وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم .
وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم ، ونهيهم لهم ، وقالوا لهم : لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا كأنهم يقولون : لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم اللّه ، ولم يصغ للنصيح ، بل استمر على اعتدائه وطغيانه ، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه ، إما بهلاك أو عذاب شديد .
فقال الواعظون : نعظهم وننهاهم مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي : لنعذر فيهم .
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي : يتركون ما هم فيه من المعصية ، فلا نيأس من هدايتهم ، فربما نجع فيهم الوعظ ، وأثر فيهم اللوم .
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة ، وإقامة حجة على المأمور المنهي ، ولعل اللّه أن يهديه ، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر ، والنهي .
ثم بين - سبحانه - طوائف هذه القرية وحال كل طائفة فقال تعالى { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
والذى يفهم من هذه الآية الكريمة ، - وعليه جمهور المفسرين - أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق :
1- فرقة المعتدين في السبت ، المتجاوزين حدود الله عن تعمد وإصرار .
2 - فرقة الناصحين لهم بالانتهاء عن تعديهم وفسوقهم .
3 - فرقة اللائمين للناصحين ليأسهم من صلاح العادين في السبت .
وهذه الفرقة الثالثة هى التي عبر القرآن الكريم عنها بقوله : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أى : قالت فرقة من أهل القرية ، لإخوانهم الذين لم يألوا جهدا في نصيحة العادين في السبت ، لم تعظون قوما لا فائدة من وعظهم ولا جدوى من تحذيرهم ، لأن الله تعالى قد قضى باستئصالهم وتطهير الأرض منهم ، أو بتعذيبهم عذاباً شديداً ، جزاء تماديهم في الشر ، وصممهم عن سماع الموعظة فكان رد الناصحين عليهم { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
فهم قد عللوا نصيحتهم للعادين بعلتين :
الأولى : الاعتذار إلى الله - تعالى - من مغبة التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
والثانية : الأمل في صلاحهم وانتفاعهم بالموعظة حتى ينجو من العقوبة ، ويسيروا في طريق المهتدين .
وقيل : إن أهل القرية كانوا فرقتين ، فرقة أقدمت على الذنب فاعتدت في السبت ، وفرقة أحجمت عن الاقدام ، ونصحت المعتدين بعدم التجاوز لحدود الله - تعالى - فلما داومت الفرقة الواعظة على نصيحتها للفرقة العادية ، قالت لها الفرقة العادية على سبيل التهكم والاستهزاء : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديدا في زعمكم ؟ فأجابتهم الناصحة بقولها .
والذى نرجحه أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق كما قال جمهور المفسرين - لأن هذا هو الظاهر من الضمائر في الآية الكريمة ، إذ لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية ( ولعلكم تتقون ) بكاف الخطاب ، بدل قولهم ( ولعلهم يتقون ) الذي يدل على أن المحاورة قد دارت بين الفرقة اللائمة ، والفرقة الناصحة .
قال الإمام القرطبى عند تفسيره الاية الكريمة : إن بنى إسرائيل افترقت ثلاث فرق " فرقة عصت وصدت ، وكانوا ، نحوا من سبعين ألفاً ، فرقة نهت واعتزلت ، وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفاً ، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وأن هذه الطائفة هى التي قالت للناهية ، لم تعظون قوما - عصاة - الله مهلكهم ، أو معذبهم على غلبة الظن . وما عهد حينئذ من فعل الله تعالى بالأمم العاصية ؟ ) .
وقوله { مَعْذِرَةً } بالنصب على أنها مفعول لأجله أى : وعظناهم لأجل المعذرة ، أو منصوبة على أنها مصدر لفعل مقدر من لفظها أى : نعتذر معذرة وقرئت " معذرة " بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى : موعظتنا معذرة وقد اختار سيبويه هذا الوجه وقال في تعليله : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل لهم لم تعظون ؟ فقالوا موعظتنا معذرة .
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق : فرقة{[12281]} ارتكبت المحذور ، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت ، كما تقدم بيانه في سورة البقرة . وفرقة نهت عن ذلك ، [ وأنكرت ]{[12282]} واعتزلتهم . وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ، ولكنها قالت للمنكرة : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } ؟ أي : لم تنهون هؤلاء ، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله ؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم . قالت لهم المنكرة : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } قرأ بعضهم بالرفع ، كأنه على تقديره : هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب ، أي : نفعل ذلك { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي : فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يقولون : ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ، ويرجعون إلى الله تائبين ، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قَالَتْ أُمّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىَ رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر أيضا يا محمد ، إذ قالت أمة منهم ، جماعة منهم لجماعة كانت تعظ المعتدين في السبت وتنهاهم عن معصية الله فيه : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكهُمْ في الدنيا بمعصيتهم إياه ، وخلافهم أمره ، واستحلالهم ما حرّم عليهم . أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا في الاَخرة ، قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن قولهم : عظتنا إياهم مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ نؤدّي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وَلَعَلّهُمْ يَتّقونَ يقول : ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه ، فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إياه وتعدّيه على ما حرّم عليهم من اعتدائهم في السبت . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ لسخطنا أعمالهم . وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ : أي ينزعون عما هم عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَعلّهُمْ يَتّقُونَ قال : يتركون هذا العمل الذي هم عليه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : قالُوا مَعْذِرَةً فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والكوفة والبصرة : «مَعْذِرَةٌ » بالرفع على ما وصفت من معناها . وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة : مَعْذِرَةً نصبا ، بمعنى : إعذارا وعظناهم وفعلنا ذلك .
واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ هل كانت من الناجية ، أم من الهالكة ؟ فقال بعضهم : كانت من الناجية ، لأنها كانت من الناهية الفرقةَ الهالكة عن الاعتداء في السبت . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا هي قرية على شاطىء البحر بين مكة والمدينة يقال لها أيلة ، فحرّم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرّعا في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها ، فمكثوا بذلك ما شاء الله . ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم ، فنهتهم طائفة وقالوا : تأخذونها وقد حرّمها الله عليكم يوم سبتكم فلم يزدادوا إلاّ غيّا وعتوّا ، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم . فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة : تعلمون أن هؤلاء قوم قد حقّ عليهم العذاب لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكهُمْ ؟ وكانوا أشدّ غضبا لله من الطائفة الأخرى ، فقالوا : معذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعلّهُمْ يَتّقُونَ وكلّ قد كانوا ينهون . فلما وقع عليهم غضب الله ، نجت الطائفتان اللتان قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ ، والذين قالوا : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ ، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان ، فجعلهم قردة وخنازير .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . إلى قوله : وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأتِيهِم وذلك أن أهل قرية كانت حاضرة البحر كانت تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم ، يقول : إذا كانوا يوم يسبتون تأتيهم شرّعا ، يعني من كلّ مكان ، ويَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأتِيهِمْ . وأنهم قالوا : لو أنا أخذنا من هذه الحيتان يوم تجيء ما يكفينا فيما سوى ذلك من الأيام . فوعظهم قوم مؤمنون ونهوهم . وقالت طائفة من المؤمنين : إن هؤلاء قوم قد هموا بأمر ليسوا بمنتهين دونه ، والله مخزيهم ومعذّبهم عذابا شديدا . قال المؤمنون بعضهم لبعض : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ إن كان هلاك فلعلنا ننجو وإما أن ينتهوا فيكون لنا أجرا . وقد كان الله جعل على بني إسرائيل يوما يعبدونه ويتفرّغون له فيه ، وهو يوم الاثنين ، فتعدّى الخبثاء من الاثنين إلى السبت ، وقالوا : هو يوم السبت . فنهاهم موسى ، فاختلفوا فيه ، فجعل عليهم السبت ، ونهاهم أن يعملوا فيه وأن يعتدوا فيه . وإن رجلاً منهم ذهب ليحتطب ، فأخذه موسى عليه السلام ، فسأله : هل أمرك بهذا أحد ؟ فلم يجد أحدا أمره ، فرجمه أصحابه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال بعض الذين نهوهم لبعض : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا ؟ يقول : لم تعظونهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال بعضهم : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هانىء ، قال : حدثنا حماد ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قال : ما أدري أنجا الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أم لا ؟ قال : فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا ، فكساني حُلّة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حماد ، عن داود ، عن عكرمة ، قال : قرأ ابن عباس هذه الاَية ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فما زلت أبصّره حتى عرف أنهم قد نجوا .
حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا يحيى بن سليم الطائفي ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك جعلني الله فداءك ؟ قال : فقرأ : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . إلى قوله : بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال ابن عباس : لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت نخاف أن نكون مثلهم . فقلت : أما تسمع الله يقول : فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهوا عَنْه ؟ فسرّي عنه وكساني حُلّة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : ثني رجل ، عن عكرمة ، قال : جئت ابن عباس يوما وهو يبكي ، وإذا المصحف في حجره ، فأعظمت أن أدنو ، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست ، فقلت : ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك ؟ فقال : هؤلاء الورقات . قال : وإذا هو في سورة الأعراف . قال : تعرف أيلة ؟ قلت : نعم . قال : فإنه كان حيّ من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كدّ ومؤنة شديدة ، كانت تأتيهم يوم السبت شرّعا بيضا سمانا كأنها الماخض ، تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم . فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم إن الشيطان أوحى إليهم ، فقال : إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت ، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام فقالت ذلك طائفة منهم ، وقالت طائفة منهم : بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت . وكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة ، فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها ، واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت ، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت ، وقال الأيمنون : الله ينهاكم عن أن تعترضوا لعقوبة الله ، وقال الأيسرون : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا ؟ قال الأيمنون : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أي ينتهون ، فهو أحبّ إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا ، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم . فمضوا على الخطيئة ، فقال الأيمنون : قد فعلتم يا أعداء الله ، والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم ، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده بالعذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا ، فلم يجابوا ، فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلاً ، فالتفت إليهم فقال : أي عباد الله قردة والله تعاوى لها أذناب قال : ففتحوا فدخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة ، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس ، فتشمّ ثيابه وتبكي ، فتقول لهم : ألم ننهكم عن كذا ؟ فتقول برأسها نعم . ثم قرأ ابن عباس : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال : فأرى اليهود الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الاَخرين ذكروا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، فلا نقول فيها ، قال : قلت : أي جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ ؟ قال : فأمر بي فكسيت بردين غليظين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحرِ ذكر لنا أنه إذا كان يوم السبت أقبلت الحيتان حتى تنتطح على سواحلهم وأفنيتهم لما بلغها من أمر الله في الماء ، فإذا كان في غير يوم السبت بعُدت في الماء حتى يطلبها طالبهم ، فأتاهم الشيطان ، فقال : إنما حرم عليكم أكلها يوم السبت ، فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما بعد . . . قوله : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فصار القوم ثلاثة أصناف : أما صنف ، فأمسكوا عن حرمة الله ونهوا عن معصية الله . وأما صنف فأمسك عن حرمة الله هيبة لله . وأما صنف فانتهك الحرمة ووقع في الخطيئة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : حاضِرَةَ البَحْرِ قال : حرمت عليهم الحيتان يوم السبت ، وكانت تأتيهم يوم السبت شرّعا ، بلاء ابتلوا به ، ولا تأتيهم في غيره إلا أن يطلبوها ، بلاء أيضا بما كانوا يفسقون . فأخذوها يوم السبت استحلالاً ومعصية ، فقال الله لهم : كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ إلا طائفة منهم لم يعتدوا ونهوهم ، فقال بعضهم لبعض : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ . . . حتى بلغ : وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ لعلهم يتركون ما هم عليه . قال : كانوا قد بلوا بكفّ الحيتان عنهم ، وكانوا يسبتون في يوم السبت ، ولا يعملون فيه شيئا ، فإذا كان يوم السبت أتتهم الحيتان شرّعا ، وإذا كان غير يوم السبت لم يأت حوت واحد . قال : وكانوا قوما قد قرنوا بحبّ الحيتان ، ولقوا منه بلاء ، فأخذ رجل منهم حوتا ، فربط في ذنبه خيطا ، ثم ربطه إلى خَشَفَة ، ثم تركه في الماء ، حتى إذا غربت الشمس من يوم الأحد اجترّه بالخيط ، ثم شواه . فوجد جار له ريح حوت ، فقال : يا فلان إني أجد في بيتك ريح نون فقال : لا . قال : فتطلع في تنوره فإذا هو فيه فأخبره حينئذ الخبر ، فقال : إني أرى الله سيعذّبك . قال : فلما لم يره عجل عذابا ، فلما أتى السبت الاَخر أخذ اثنين فربطهما ، ثم اطلع جار له عليه . فلما رآه لم يعجل عذابا جعلوا يصيدونه ، فاطلع أهل القرية عليهم ، فنهاهم الذين ينهون عن المنكر ، فكانوا فرقتين : فرقة تنهاهم وتكفّ ، وفرقة تنهاهم ولا تكفّ ، فقال الذين نهوا وكفوا للذين ينهون ولا يكفون : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا فقال الاَخرون : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فقال الله : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ . . . إلى قوله : بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال الله : فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وقال لهم أهل تلك القرية : عملتم بعمل سوّء ، من كان يريد يعتزل ويتطهر فليعتزل هؤلاء قال : فاعتزل هؤلاء وهؤلاء في مدينتهم ، وضربوا بينهم سورا ، فجعلوا في ذلك السور أبوابا يخرج بعضهم إلى بعض . قال : فلما كان الليل طرقهم الله بعذابه ، فأصبح أولئك المؤمنون لا يرون منهم أحدا ، فدخلوا عليهم ، فإذا هم قردة ، الرجل وأزواجه وأولاده . فجعلوا يدخلون على الرجل يعرفونه ، فيقولون : يا فلان ألم نحذّرك سطوات الله ؟ ألم نحذرك نقِمات الله ؟ ونحذّرك ونحذرك ؟ قال : فليس إلا بكاء . قال : وأنما عذّب الله الذين ظلموا الذين أقاموا على ذلك . قال : وأما الذين نهوا فكلهم قد نَهَى ، ولكن بعضهم أفضل من بعض فقرأ : أنْجَيْنا الّذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِين ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن داود ، عن عكرمة ، قال : قرأ ابن عباس هذه الاَية : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قال : لا أدري أنجا القوم أو هلكوا ؟ فما زلت أبصّره حتى عرف أنهم نجوا ، وكساني حُلّة .
حدثني يونس ، قال : أخبرني أشهب بن عبد العزيز ، عن مالك ، قال : زعم ابن رومان أن قوله : تَأتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ قال : كانت تأتيهم يوم السبت ، فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى السبت ، فاتخذ لذلك رجل منهم خيطا ووتدا ، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت ، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجد الناس ريحه ، فأتوه فسألوه عن ذلك ، فجحدهم ، فلم يزالوا به حتى قال لهم : فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان السبت الاَخر فعل مثل ذلك ، ولا أدري لعله قال : ربط حوتين ، فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجدوا ريحه ، فجاءوا فسألوه ، فقال لهم : لو شئتم صنعتم كما أصنع ، فقالوا له : وما صنعت ؟ فأخبرهم ، ففعلوا مثل ما فعل ، حتى كثر ذلك . وكانت لهم مدينة لها ربَض ، فغلّقوها عليهم ، فأصابهم من المسخ ما أصابهم ، فغدا إليهم جيرانهم ممن كان يكون حولهم ، يطلبون منهم ما يطلب الناس ، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم ، فنادوا فلم يجيبوهم ، فتسوّروا عليهم ، فإذا هم قردة ، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به .
وقال آخرون : بل الفرقة التي قالت : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ كانت من الفرقة الهالكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . إلى قوله : شُرّعا قال : قال ابن عباس : ابتدعوا السبت ، فابتلوا فيه ، فحرّمت عليهم فيه الحيتان ، فكانوا إذا كان يوم السبت شرَعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر ، فإذا انقضى السبت ذهبت ، فلم تر حتى السبت المقبل ، فإذا جاء السبت جاءت شرّعا . فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتا فخزم أنفه ، ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه وتركه في الماء ، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله . ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ، ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه ، حتى ظهر ذلك في الأسواق وفعل علانية ، قال : فقالت طائفة للذين ينهون : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قالُوا مَعْذرَةً إلى رَبّكُمْ في سخطنا أعمالهم وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ . . . إلى قوله : قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ . قال ابن عباس : كانوا أثلاثا : ثلث نهوا ، وثلث قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ ، وثلث أصحاب الخطيئة . فلما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم ، فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم ، فغلقوا عليهم دورهم ، فجعلوا يقولون : إن للناس لشأنا ، فانظروا ما شأنهم فاطلعوا في دورهم ، فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قردة ، يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ، ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة ، قال الله : فجَعَلْناها نَكالاً لِمَا بينَ يَدَيْها وما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي بكر الهذليّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ . . . الاَية ، قال ابن عباس : نجا الناهون ، وهلك الفاعلون ، ولا أدري ما صنع بالساكتين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال : هم ثلاث فرق : الفرقة التي وعظت ، والموعوظة التي وُعِظت ، والله أعلم ما فعلت الفرقة الثالثة ، وهم الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ .
وقال الكلبي : هما فرقتان : الفرقة التي وعظت ، والفرقة التي قالت : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال : هي الموعوظة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لأن أكون علمتُ مَنْ هؤلاء الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا أحبّ إليّ مما عدل به .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، قال : قال ابن عباس : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال : أسمع الله يقول : أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ فليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ماهان الحنفيّ أبي صالح ، في قوله : تَأتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ قال : كانوا في المدينة التي على ساحل البحر ، وكانت الأيام ستة ، الأحد إلى الجمعة ، فوضعت اليهود يوم السبت ، وسَبَتوه على أنفسهم ، فسبته الله عليهم ، ولم يكن السبت قبل ذلك ، فوكّده الله عليهم ، وابتلاهم فيه بالحيتان ، فجعلت تشرع يوم السبت ، فيتقون أن يصيبوا منها ، حتى قال رجل منهم : والله ما السبت بيوم وكّده الله علينا ، ونحن وكدناه على أنفسنا ، فلو تناولت من هذا السمك فتناول حوتا من الحيتان ، فسمع بذلك جاره ، فخاف العقوبة فهرب من منزله . فلما مكث ما شاء الله ولم تصبه عقوبة تناول غيره أيضا في يوم السبت . فلما لم تصبهم العقوبة كثر من تناول في يوم السبت ، واتخذوا يوم السبت وليلة السبت عيدا يشربون فيه الخمور ويلعبون فيه بالمعازف ، فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم : ويحكم ، انتهوا عما تفعلون ، إن الله مهلككم أو معذّبكم عذابا شديدا أفلا تعقلون ؟ ولا تعدوا في السبت فأبوا ، فقال خيارهم : نضرب بيننا وبينهم حائطا ففعلوا . وكان إذا كان ليلة السبت تأذّوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف . حتى إذا كانت الليلة التي مسخوا فيها ، سكنت أصواتهم أوّل الليل ، فقال خيارهم : ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة ؟ فقال بعضهم : لعلّ الخمر غلبتهم فناموا . فلما أصبحوا لم يسمعوا لهم حسّا ، فقال بعضهم لبعض : ما لنا لا نسمع من قومكم حسّا ؟ فقالوا لرجل : اصعد الحائط وانظر ما شأنهم فصعد الحائط فرآهم يموج بعضهم في بعض ، قد مسخوا قردة ، فقال لقومه : تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لقوا فصعدوا ، فجعلوا ينظرون إلى الرجل ، فيتوسمون فيه ، فيقولون : أي فلان أنت فلان ؟ فيومىء بيده إلى صدره : أي نعم بما كسبت يداي .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال : تلا الحسن ذات يوم : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السّبْتِ إذْ تَأتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كذلكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ فقال : كان حوتا حرّمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك ، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرّمه الله عليهم كأنه المخاض لا يمتنع من أحد ، وقلّما رأيت أحدا يكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه . قال : فجعلوا يهمون ويمسكون حتى أخذوه ، فأكلوا أوخم أكلة أكلها قوم قطّ ، أثقله خزيا في الدنيا وأشدّه عقوبة في الاَخرة ، وايمُ الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مؤمن ، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت ، ولكن الله جعل موعد قوم الساعة والسّاعَةُ أدْهَى وأَمَرّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الحسن ، قال : جاءتهم الحيتان تشرع في حياضهم كأنها المخاض ، فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم قطّ ، أسوأه عقوبة في الدنيا وأشدّه عذابا في الاَخرة . وقال الحسن : وقتل المؤمن والله أعظم من أكل الحيتان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، قال : كنت جالسا في المسجد ، فإذا شيخ قد جاء وجلس الناس إليه ، فقالوا : هذا من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فقال : قال ابن مسعود : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . الاَية ، قال : لما حرّم عليهم السبت كانت الحيتان تأتي يوم السبت ، وتأمن وتجيء فلا يستطيعون أن يمسّوها ، وكان إذا ذهب السبت ذهبت ، فكانوا يتصيّدُونَ كما يتصيّد الناس . فلما أرادوا أن يعدوا في السبت ، اصطادوا ، فنهاهم قوم من صالحيهم ، فأبوا ، وكثّرهم الفجار ، فأراد الفجار قتالهم ، فكان فيهم من لا يشتهون قتاله ، أبو أحدهم وأخوه أو قريبه . فلما نهوهم وأبوا ، قال الصالحون : إنا نباينهم ، وإنا نجعل بيننا وبينهم حائطا ففعلوا ، فلما فقدوا أصواتهم ، قالوا : لو نظرتم إلى إخوانكم ما فعلوا فنظروا فإذا هم قد مسخوا قردة ، يعرفون الكبير بكبره والصغير بصغره ، فجعلوا يبكون إليهم . وكان هذا بعد موسى صلى الله عليه وسلم .
قال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، فرقة عصت وصادت ، وفرقة نهت وجاهرت وتكلمت واعتزلت ، وفرقة اعتزلت ولم تعص ولم تنه ، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية وطغيان العاصية وعتوها قالت للناهية { لم تعظون قوماً } يريدون العاصية { الله مهلكهم أو معذبهم } على غلبة الظن وما عهد من فعل الله حينئذ بالأمم العاصية ، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ، ثم اختلف بعد هذا فقالت فرقة إن الطائفة التي لم تعص ولم تنه هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي ، قاله ابن عباس ، وقال أيضاً : ما أدري ما فعل بهم ، وقالت فرقة بل نجت مع الناهية لأنها لم تعص ولا رضيت قاله عكرمة والحسن وغيرهما ، وقال ابن الكلبي فيما أسند عنه الطبري إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين ، فرقة عصت وجاهرت وفرقة نهت وغيرت واعتزلت ، وقالت للعاصية إن الله يهلكهم ويعذبهم ، فقالت أمة من العاصين للناهين على جهة الاستهزاء لم تعظون قوماً قد علمتم أن الله مهلكهم أو معذبهم .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أصوب ، وتؤيده الضمائر في قوله : { إلى ربكم ولعلهم } فهذه المخاطبة تقتضي مخاطِباً ومخاطباً ومكنياً عنه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «معذرةٌ » بالرفع ، أي موعظتنا ، معذرة أي إقامة عذر ، وقرأ عاصم في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف «معذرةً » بالنصب أي وعظنا معذرة ، قال أبو علي حجتها أن سيبويه قال : لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب .
قال القاضي أبو محمد : الرجل القائل في هذا المثال معتذر عن نفسه وليس كذلك الناهون من بني إسرائيل فتأمل ، ومعنى { مهلكهم } في الدنيا { أو معذبهم } في الآخرة ، وقوله : { لعلهم يتقون } يقتضي الترجي المحض ، لأنه من قول آدميين .
جملة : { وإذ قالت أمة منهم } عطف على قوله : { إذ يعدون } [ الأعراف : 163 ] والتقدير : واسألَ بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم ، فإذْ فيه اسم زمان للماضي وليست ظرفاً ، ولها حكم { إذْ } [ الأعراف : 163 ] أختها ، المعطوفة هي عليها ، فالتقدير : واسألهم عن وقت قالت أمة ، أي عن زمنَ قول أمة منهم ، والضمير المجرور بمن عائِد إلى ما عاد إليه ضمير { أسألهم } [ الأعراف : 163 ] وليس عائداً إلى القرية ، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم ، فإن كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكره المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية ، بل منظوراً إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم ، وأن ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم ، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل : { وإذْ قالت أمة } ولم يقل : وقالت أمة .
والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول ، قال المفسرون : إن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهى عن المنكر ، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من إتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب ، وأمة كانت سادرة في غلوائها ، لا ترعوي عن ضلالتها ، ولا ترقب الله في أعمالها .
وقد أجملت الآية ما كان من الأمة القائلة إيجازاً في الكلام ، اعتماداً على القرينة لأن قولهم : { الله مهلكهم } يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين ، وإنهم ما علموا أن الله مهلكهم إلاّ بعدَ أن مارسوا أمرهم ، وسبروا غورهم ، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات ، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التقدم لهم بالموعظة ، وبقرينة قوله بعد ذلك { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } إذ جعل الناس فريقين ، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي ، لأنهم ليسوا بظالمين ، وعلمنا أنهم ينهون عن السوء .
وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء ( 63 ) وعند قوله آنفاً { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في هذه السورة ( 145 ) .
واللام في { لمَ تعظون } للتعليم ، فالمستفهم عنه من نوع العلل ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظَ لتحصيلها ، وذلك يفضي إلى اليأس من حصول إتعاظهم ، والمخاطب ب { تعظون } أمة أخرى .
ووصف القوم بأن الله مهلكهم : مبني على أنهم تحققتْ فيهم الحال التي أخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققتْ فيه ، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم ، وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين .
واسما الفاعل في قوله : { مهلكهم أو معذبهم } مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام ، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب ، فإنها تؤذن بأن أحد الأمرين غير معين الحصول ، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما .
وفصلت جملة { قالوا } لوقوعها في سياق المحاورة ، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون بِ { لمَ تعظون قوماً } الخ .
والمعذرة بفتح الميم وكسر الذال مصدر ميمي لفعل ( اعتذر ) على غير قياس ، ومعنى اعتذر أظهر العذر بضم العين وسكون الذال والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير ، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخَذ بذنب ؛ ليظهر أنه بريء مما نسب إليه ، أو متأول فيه ، ويقال : عذَره إذا قبل عذره وتحقق براءته ، ويعدّى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ .
وارتفع { معذرة } على أنه خبر لمبتدإ محذوف دل عليه قول السائلين { لم تعظون } والتقديرُ موعظتنا معذرة منا إلى الله .
وبالرفع قرأه الجمهور ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة .
وقوله : { ولعلهم يتقون } علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها .
فالمعنى : أن صلحاء القوم كانوا فريقين . فريق منهم أيِس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم ، لتوغلهم في المعاصي ، وفريق لم ينقطع رجاؤُهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار ، فأنكر الفريقُ الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة . واعتذر الفريق الثاني بقولهم : { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن . والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعاً بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط ، ليكون لهم عذراً عند الله إن سألهم لماذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة ، فاستعمال حرف الرجاء في موقعه ، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قالت أمة منهم}، يعني عصابة منهم... للواعظة، {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا}، وذلك أن الواعظة نهوهم عن الحيتان، وخوفوهم فلم ينتبهوا، فردت عليهم الواعظة، {قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم}، يعني ولكي ينتهوا فيؤخروا أو يعذبوا فينجوا، {ولعلهم}، يعني ولكي {يتقون} المعاصي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضا يا محمد، "إذ قالت أمة منهم": جماعة منهم لجماعة كانت تعظ المعتدين في السبت وتنهاهم عن معصية الله فيه: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكهُمْ "في الدنيا بمعصيتهم إياه، وخلافهم أمره، واستحلالهم ما حرّم عليهم. "أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا" في الاَخرة، قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن قولهم: عظتنا إياهم "مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ" نؤدّي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "وَلَعَلّهُمْ يَتّقونَ" يقول: ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه، فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إياه وتعدّيه على ما حرّم عليهم من اعتدائهم في السبت.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "قالُوا مَعْذِرَةً" فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والكوفة والبصرة: «مَعْذِرَةٌ» بالرفع على ما وصفت من معناها. وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة: "مَعْذِرَةً" نصبا، بمعنى: إعذارا وعظناهم وفعلنا ذلك.
واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ" هل كانت من الناجية أم من الهالكة؟ فقال بعضهم: كانت من الناجية، لأنها كانت من الناهية الفرقةَ الهالكة عن الاعتداء في السبت... وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ" كانت من الفرقة الهالكة... قال ابن عباس: كانوا أثلاثا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ"، وثلث أصحاب الخطيئة. فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم...عن ابن عباس: "أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ..." قال ابن عباس: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وفي ذلك دليل على أنه يجب النهي عن القبيح وإن علم الناهي أن المنهي لا ينزجر ولا يقبل، وأن ذلك هو الحكمة والصواب الذي لا يجوز غيره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أُمَّةٌ مّنْهُمْ} جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، حتى أيسوا من قبولهم، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ} أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم {أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا} لتماديهم في الشرّ. وإنما قالوا ذلك، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم {قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ} أي: موعظتنا إبلاء عذر إلى الله، ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، فرقة عصت وصادت، وفرقة نهت وجاهرت وتكلمت واعتزلت، وفرقة اعتزلت ولم تعص ولم تنه، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية وطغيان العاصية وعتوها قالت للناهية {لم تعظون قوماً} يريدون العاصية {الله مهلكهم أو معذبهم} على غلبة الظن وما عهد من فعل الله حينئذ بالأمم العاصية، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله، ثم اختلف بعد هذا فقالت فرقة إن الطائفة التي لم تعص ولم تنه هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي، قاله ابن عباس، وقال أيضاً: ما أدري ما فعل بهم، وقالت فرقة بل نجت مع الناهية لأنها لم تعص ولا رضيت قاله عكرمة والحسن وغيرهما...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي واسألهم عن حال أهل تلك القرية في الوقت الذي قالت أمة وجماعة منهم كيت وكيت. تدل هذه الآية على أن الذين كانوا يعدون في السبت بعض أهل القرية لا كلهم وأن أهلها كانوا ثلاث فرق: فرقة العادين التي أشير إليها في الآية الأولى، وفرقة الواعظين الذين نهوا العادين عن العدوان، ووعظوهم ليكفوا عنه وهي التي أشير إليها في هذه الآية. وفرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم: لم تعظون قوما قضى الله عليهم بالهلكة أو العذاب الشديد، فهو إما مهلكهم بالاستئصال، أو بعذاب شديد دون الاستئصال، أو المعنى مهلكهم في الدنيا ومعذبهم في الآخرة- وأيا ما كان المراد ف "أو "هنا هي المانعة للخلو من وقوع أحد الجزاءين، لا المانعة لجمعهما، فهي لا تنفي اجتماعهما. وفي الآية من الإيجاز البليغ ما لا يوجد نظيره في غير القرآن.
{قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} أي قال الواعظون للائمين: نعظهم وعظ عذر نعتذر به إلى ربكم عن السكوت على المنكر وقد أمرنا بالتناهي عنه، ورجاء في انتفاعهم بالموعظة، وحملها لهم على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه. أي فنحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق يأسكم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قالوا: معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون).. فهو واجب لله نؤديه: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، لنبلغ إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا. ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الوعظ: بيان الحق مقارنا بمغبة الباطل ذاكرا ما ترتب على الباطل من أذى لأهله وهلاك لمن استمسكوا بالباطل استمساكا وتركوا الحق وانحرفوا عنه، والعاقل من اتعظ والجاهل من [لا] يأبه ولا يتعظ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}، لنعذر إلى الله بأننا قد قمنا بواجبنا في تجربة الدعوة إليه، وفي الإعلان عن رفضنا لهذا الخط المنحرف بطريقة إيجابيّة في سبيل التغيير... وربما كان في كلمة «ربكم» بدلاً من كلمة «ربنا» بعض الإيحاء لهؤلاء المعترضين بأن المسألة ليست مسألتنا، فلا بد لكم أن تقدموا العذر إلى ربكم في الموقف، كما يجب أن نقدمه إليه في أسلوبنا العملي، لأنه ربنا وربكم...
[...] {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فإذا كان هناك احتمالٌ واحدٌ للوصول إلى نتيجةٍ إيجابيةٍ في خط التقوى لديهم، فيجب أن يُلاحَقَ في تجربةٍ عمليةٍ واعيةٍ، لأن من الممكن أن تنجح التجربة الأخيرة في ما لم تنجح فيه التجارب السابقة، مما لا يجعل مجالاً لليأس... ثم ما معنى أن يفكر الدعاة إلى الله في الانسحاب من الساحة أمام عوامل اليأس، في الوقت الذي تفرض عليهم فيه الدعوة محاربة كل هذه العوامل السلبيّة، ومواجهتها بصبرٍ وثبات، ليفتحوا في داخلها عناصر الأمل...