ثم قال : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن والسنة ، قال تعالى : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه ، فيؤمنون ببعضه ، ولا يؤمنون ببعضه ، إما بجحده ، أو تأويله على غير مراد الله ورسوله ، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة ، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم ، بما حاصله عدم التصديق بمعناها ، وإن صدقوا بلفظها ، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا .
وقوله : { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يشمل الإيمان بالكتب{[34]} السابقة ، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه ، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور ، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية{[35]} وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم .
ثم قال : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت ، وخصه [ بالذكر ] بعد العموم ، لأن الإيمان باليوم الآخر ، أحد أركان الإيمان ، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل ، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، الموجب للعمل .
ثم أضاف القرآن إلى صفات المتقين وصفاً رابعاً فقال : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } والمراد بقوله - تعالى - { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } القرآن الكريم ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضى - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد . والمراد - بقوله - تعالى - { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } الكتب الإلهية السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه كموسى وعيسى وداود . وهذا كقوله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } والإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان برسالته ، ويستوجب العمل بما تضمنته شريعته . وإيجاب العمل بما تضمنه القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم باق على إطلاقه . أما الكتب السماوية السابقة فيكفى الإيمان بأنها كانت وحياً وهداية ، وقد تضمن القرآن الكريم ما اشتملت عليه هذه الكتب من هدايات وأصبح بنزوله مهيمناً عليها ، قال - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } وصار من المحتم على كل عاقل أن يعمل بما جاء به القرآن من توجيهات .
وقدم الإيمان بما أنزل عليه على الإيمان الذين من قبله - مع أن الترتيب يقتضى العكس - لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ولم يقل : ويؤمنون بما أنزل من قبلك بتكرير يؤمنون ، للإشعار بأن الإيمان به وبهم واحد ، لا تغاير فيه وإن تعدد متعلقه . ويرى بعض العلماء أن المراد من الآية الكريمة ، أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن ، نم لما نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه الحق - آمنوا به أيضاً - ، فصار لهم أجران ، كما جاء في الحديث الشريف ، الذي ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين يوم القيامة : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها " .
ثم وصف الله المتقين بوصف خامس فقال : { وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } الآخرة تأنيث الآخر .
وهذا اللفظ تارة يجيء وصفاً ليوم القيامة مع ذكر الموصوف ، كما في قوله - تعالى - { وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وتارة بهذا المعنى ولكن بدون ذكر الموصوف ، كما في الآية التي معنا ، وكما في قوله - تعالى - { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } وسميت آخرة لأنها تأتي بعد الدنيا التي هي الدار الأولى . و { يُوقِنُونَ } من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بحيث لا يطرأ عليه شك ، ولا تحوم حوله شبهة . يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته ، ويقال : يقنت - بالكسر - يقناً ، وأيقنت ، وتيقنت ، واستيقنت بمعنى واحد . والمعنى : وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم يوقنون إيقاناً قطعياً ، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة ، والأوهام الباطلة .
وفي إيراد " هم " قبل قوله " يوقنون " تعريض ، بغيرهم ، ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة أو غير بالغ مرتبة اليقين .
ولا شك أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، له أثر عظيم في فعل الخيرات ، واجتناب المنكرات ، لأن من أدرك أن هناك يوماً سيحاسب فيه على عمله ، فإنه من شأنه أن يسلك الطريق القويم الذي يكسبه رضي الله يوم يلقاه .
قال أبو حيان : وذكر لفظة { هُمْ } في قوله : { وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } ولم يذكرها في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ولأنه لو ذكر { هُمْ } هناك لكان فيه قلق لفظى ، إذ يكون التركيب " ومما رزقناهم هم ينفقون " .
قال ابن عباس : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } أي : يصدقون بما جئت به من الله ، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي : بالبعث والقيامة ، والجنة ، والنار ، والحساب ، والميزان .
وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا : هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] ومن هم ؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير :
أحدهما{[1213]} : أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا ، وهم كل مؤمن ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم ، قاله مجاهد ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة .
والثاني : هما واحد ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات ، كما قال تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } [ الأعلى : 1 - 5 ] وكما قال الشاعر :
إلى الملك القَرْم وابن الهُمام *** وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَم
فعطف الصفات بعضها على بعض ، والموصوف واحد .
والثالث : أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب ، والموصوفون ثانيا بقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } الآية مؤمنو{[1214]} أهل الكتاب ، نقله السدي في تفسيره ، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ، واختاره ابن جرير ، ويستشهد لما قال بقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية [ آل عمران : 199 ] ، وبقوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ القصص : 52 - 54 ] . وثبت في الصحيحين ، من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها »{[1215]} .
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة ، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين ، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين : منافق وكافر ، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي .
قلت : والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد . ورواه غير واحد ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه قال : أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين ، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي ، وكتابي من إنسي وجني ، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى ، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها ، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل والإيقان بالآخرة ، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك ، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك ، كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } الآية [ النساء : 136 ] . وقال : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } الآية [ العنكبوت : 46 ] . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } [ النساء : 47 ] وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } [ المائدة : 68 ] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك ، فقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } الآية [ البقرة : 285 ] وقال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [ النساء : 152 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه . لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية ، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم{[1216]} مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين ، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان ، بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح : «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا : آمنا بالذي{[1217]} أنزل إلينا وأنزل إليكم »{[1218]} ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام ، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية ، فغيرهم [ قد ]{[1219]} يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم ، والله أعلم .
{ والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت ، وأيّ أجناس الناس هم . غير أنا نذكر ما روي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قوله :
فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أي يصدقونك بما جئت به من الله جل وعز ، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من عند ربهم .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب . القول في تأويل قوله تعالى :
وبالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ .
قال أبو جعفر : أما الاَخرة ، فإنها صفة للدار ، كما قال جل ثناؤه : ( وَإِنّ الدّارَ الاَخِرَةِ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخرة لأولى كانت قبلها كما تقول للرجل : أنعمت عليك مرة بعد أخرى فلم تشكر لي الأولى ولا الاَخرة . وإنما صارت الاَخرة آخرة للأولى ، لتقدم الأولى أمامها ، فكذلك الدار الاَخرة سميت آخرة لتقدم الدار الأولى أمامها ، فصارت التالية لها آخرة . وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الخلق ، كما سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الخلق . وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله من المرسلين من إيقانهم به من أمر الاَخرة ، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين ، من البعث والنشر والثواب والعقاب والحساب والميزان ، وغير ذلك مما أعدّ الله لخلقه يوم القيامة . كما :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وبالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ، ويكفرون بما جاءك من ربك .
وهذا التأويل من ابن عباس قد صرّح عن أن السورة من أولها ، وإن كانت الاَيات التي في أولها من نعت المؤمنين ، تعريض من الله عز وجل بذم الكفار أهل الكتاب ، الذين زعموا أنهم بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه مصدقون وهم بمحمد عليه الصلاة والسلام مكذبون ، ولما جاء به من التنزيل جاحدون ، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله : { الم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتّقِينَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصّلاةَ وممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } . وأخبر جل ثناؤه عباده أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى خاصة ، دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب . ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما أُنزل إليه وإلى من قبله من الرسل بقوله : { أُولئِكَ على هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم ، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار .
قوله : { بما أنزل إليك } يعني القرآن { وما أنزل من قبلك } يعني الكتب السالفة . وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب . «بما أنزل . . . وما أنزل » بفتح الهمزة فيهما خاصة . والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى ، ويحتمل إلى جبريل ، والأول أظهر وألزم .
{ وبالآخرة }( {[173]} ) قيل معناه بالدار الآخرة ، وقيل بالنشأة الآخرة .
و { يوقنون } معناه يعلمون علماً متمكناً في نفوسهم . واليقين أعلى درجات العلم ، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه .
وقول مالك رحمه الله : «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك » تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب ، ولم يقصد( {[174]} ) تحرير الكلام في اليقين .