{ 15 } { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }
أي : مثل الجنة التي أعدها الله لعباده ، الذين اتقوا سخطه ، واتبعوا رضوانه ، أي : نعتها وصفتها الجميلة .
{ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أي : غير متغير ، لا بوخم ولا بريح منتنة ، ولا بمرارة ، ولا بكدورة ، بل هو أعذب المياه وأصفاها ، وأطيبها ريحا ، وألذها شربا .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بحموضة ولا غيرها ، { وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي : يلتذ به شاربه لذة عظيمة ، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس ، ويغول العقل .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } من شمعه ، وسائر أوساخه .
{ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } من نخيل ، وعنب ، وتفاح ، ورمان ، وأترج ، وتين ، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا ، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم .
ثم قال : { وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } يزول بها عنهم المرهوب ، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها ، وتضاعف عذابها ، { وَسُقُوا } فيها { مَاءً حَمِيمًا } أي : حارا جدا ، { فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بأن بين مصير الفريقين فقال : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } .
والمراد بالمثل هنا : الصفة . وهو مبتدأ ، والكلام على تقدير الاستفهام الإِنكارى ، وتقدير مضاف محذوف ، والخبر قوله - تعالى - : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار } . أى : أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد فى النار : أو : أمثل الجنة جزاء من هو خالد فى النار ، وقدر الاستفهام فى المبتدأ لأنه مرتب على الإِنكار الساق فى قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } .
ورحم الله - تعالى - صاحب الكشاف ، فقد قال : فإن قلت ما معنى قوله - تعالى - : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ } كمن هو خالد فى النار ؟
قلت : هو كلام فى صورة الإِثبات ، ومعناه النفى والإِنكار ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحروف الإِنكار ، ودخوله فى حيزه ، وانخراطه فى سلكه ، وهو قوله - تعالى - : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ . . } ؟ فكأنه قيل : أمثل الجنة كمن هو خالد فى النار ، أى كمثل جزاء من هو خالد فى النار ؟
فإن قلت : فلم عرَّى فى حرف الإِنكار ؟ وما فائدة التعرية ؟
قلت : تعريته من حرف الإِنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التى تجرى فيها الأنهار ، وبين النار التى يسقى أهلها الجحيم . .
وقوله - سبحانه - : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } تفسير مسوق لشرح محاسن الجنة أى : صفة الجنة التى وعد الله - تعالى - بها عباده المتقين ، أنها فيها أنهار من ماء ليس متغيرا فى طعمه أو رائحته ، وإنما هو ماء طيب لذيذ تشتهيه النفوس .
والماء الآسن : هو الماء الذى تغير طعمه وريحه ، لطول مكثه فى مكان معين . يقال : أَسَنَ الماء يأسِن - كضرب - يضرب ، إذا تغير .
{ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أى : وفيها - أيضا - أنهار من لبن لم يتغير طعمه لا بالحموضة ولا بغيرها مما يجرى على الألبان التى تشرب فى الدنيا .
{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أى : وفيها كذلك أنهار من خمر فى غاية اللذة لمن يشربها ، إذ لا يعقبها ذهاب عقل ، ولا صداع .
وقال - سبحانه - { لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } للإِشعار بأنها لذيذة لجميع من يشربونها بخلاف خمر الدنيا فإن من الناس من ينفر منها ويعفها حتى ولو كان على غير دين الإِسلام .
{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أى : وفيها - أيضا - أنهار من عسل لا يخالطه ما يخالط عسل الدنيا من الشمع أو غيره .
{ وَلَهُمْ } أى : للمؤمنين { فِيهَا } أى : فى الجنة فضلا عن كل ذلك { مِن كُلِّ الثمرات } التى يشتهونها ، وأهم من كل ذلك أنهم لهم فيها : { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أى : لهم ثواب عظيم وفضل كبير من ربهم ، حيث ستر لهم ذنوبهم ، وأزالها عنهم ، وحولها إلى حسنات بكرمه وإحسانه .
وقوله - سبحانه - : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أى : أمثل جزاء المؤمنين الذى هو الجنة التى فيها ما فيها من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل . . كمثل عقاب الكافرين والمتمثل فى نارهم خالدين فيها أبدا ، وفى ماء فى أشد درجات الحرارة ، يشربونه فيقطع أمعاءهم ؟
لا شك أن كل عاقل يرى فرقا شاسعا ، بين حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة الكافرين .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد فرقت بين الأخيار والأشرار فى المنهج والسلوك ، وفى المصير الذى يصير إليه كل فريق .
ثم قال : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } قال عكرمة : { مَثَلُ الْجَنَّةِ } أي : نعتها {[26644]} : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : يعني غير متغير . وقال قتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني : غير منتن . والعرب تقول : أَسِن الماء ، إذا تَغَيَّر ريحه .
وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم : { غَيْرِ آسِنٍ } يعني : الصافي الذي لا كَدَر فيه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مُرَّة {[26645]} ، عن مسروق قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تُفَجَّر من جبل من مسك .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي : بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة . وفي حديث مرفوع : " لم يخرج من ضُرُوع الماشية " .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي : ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا ، بل [ هي ]{[26646]} حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل ، { لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } [ الصافات : 47 ] ، { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ } [ الواقعة : 19 ] ، { بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } [ الصافات : 46 ] ، وفي حديث مرفوع : " لم تعصرها الرجال بأقدامها " .
[ وقوله ] {[26647]} { وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } أي : وهو في غاية الصفاء ، وحسن اللون والطعم والريح ، وفي حديث مرفوع : " لم يخرج من بطون النحل " .
وقال{[26648]} الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الجُريري ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " في الجنة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار منها بعد " .
ورواه الترمذي في " صفة الجنة " ، عن محمد بن بَشار ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن إياس الجَريري ، به {[26649]} وقال : حسن صحيح .
وقال أبو بكر بن مردويه {[26650]} حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه الأنهار تَشخُبُ من جنة عدن في جَوْبَة ، ثم تصدع بعد أنهارا " {[26651]}
وفي الصحيح : " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن " {[26652]} .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري ، وعبد الله بن الصفر السكري قالا حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة ، حدثني عبد الرحمن بن عياش ، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي ، عن أبيه ، عن عمه لقيط بن عامر ، قال دلهم : وحدثنيه أيضا أبو الأسود ، عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، فعلام نطلع من الجنة ؟ قال : " على أنهار عسل مصفى ، وأنهار من خمر{[26653]} ما بها صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة ، لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله ، وأزواج مطهرة " قلت : يا رسول الله ، أو لنا فيها أزواج مصلحات ؟ قال : " الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم ، غير ألا توالد " {[26654]} .
وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا يعقوب بن عبيدة {[26655]} ، عن يزيد بن هارون ، أخبرني الجريري ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه{[26656]} ، عن أنس بن مالك قال : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض ، والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض ، حافاتها قباب اللؤلؤ ، وطينها المسك الأذْفَر{[26657]} .
وقد رواه أبو بكر ابن مَرْدُويه ، من حديث مهدي بن حكيم ، عن يزيد بن هارون ، به مرفوعا {[26658]} .
وقوله : { وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ، كقوله : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان : 55 ] . وقوله : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] .
وقوله : { وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : مع ذلك كله .
وقوله : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ } أي : أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار ؟ ليس هؤلاء كهؤلاء ، أي : ليس من هو في الدرجات كمن هو{[26659]} في الدركات ، { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا } أي : حارا{[26660]} شديد الحر ، لا يستطاع . { فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } أي : قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ، عياذا بالله من ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : صفة الجنة التي وعدها المتقون ، وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه فِيهَا أنهَارٌ مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي : ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح ، يقال منه : قد أَسِنَ ماء هذه البئر : إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت ، فهو يأْسَن أَسَنا ، وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة : قد أَسِن فهو يأْسَن . وأما إذا أَجَن الماء وتغير ، فإنه يقال له : أسِن فهو يأسَن ، ويأسِن أسونا ، وماء آسن . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : فِيها أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ يقول : غير متغير .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال : من ماء غير مُنْتن .
حدثني عيسى بن عمرو ، قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدثنا مصعب بن سلام ، عن سعد بن طريف ، قال : سألت أبا إسحاق عن ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال : سألت عنها الحارث ، فحدثني أن الماء الذي غير آسن تسنيم ، قال : بلغني أنه لا تمسه يد ، وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل في فيه .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ لَبنٍ لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ يقول تعالى ذكره : وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع ، ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار ، فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ للشّارِبِينَ يقول : وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها . كما :
حدثني عيسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدثنا مصعب ، عن سعد بن طريف ، قال : سألت عنها الحارث ، فقال : لم تدسه المجوس ، ولم ينفخ فيه الشيطان ، ولم تؤذها شمس ، ولكنها فَوْحاء ، قال : قلت لعكرِمة : ما الفوحاء : قال : الصفراء . وكما :
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، في قوله : مِنْ لَبن لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ قال : لم يحلب ، وخُفِضت اللذّة على النعت للخمر ، ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز ، أو نصبا على يتلذّذ بها لذّة ، كما يقال : هذا لك هبة . كان جائزا فأما القراءة فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء عليها .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى يقول : وفيها أنهار من عسل قد صُفّي من القَذى ، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية ، وإنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلاً جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها ، فهو من أجل ذلك مصّفى ، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية ، لأنه كان في شمع فصُفي منه .
وقوله : ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ يقول تعالى ذكره : ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ يقول : وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا ، ثم تابوا منها ، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها .
وقوله : كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ يقول تعالى ذكره : أمّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا ، كمن هو خالد في النار . وابُتدىء الكلام بصفة الجنة ، فقيل : مثل الجنة التي وُعد المتقون ، ولم يقل : أمّن هو في الجنة . ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ . وإنما قيل ذلك كذلك ، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام ، ولدلالة قوله : كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ على معنى قوله : مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ .
وقوله : وَسُقُوا ماءً حَمِيما يقول تعالى ذكره : وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم . كما :
حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ ، قال : حدثنا حَيْوة بن شُريح الحِمصِيّ ، قال : حدثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، قال : ثني عبيد الله بن بشر ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : وَيُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ قال : «يُقَرّبُ إلَيْهِ فَيَتَكَرّهُهُ ، فإذَا أُدْنَى مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ ، فإذا شَرِبَ قَطّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ » . قال : يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيما ، فَقَطّعَ أمْعاءَهُمْ يقول الله عزّ وجلّ يَشْوِي الوُجُوهَ ، بِئْسَ الشّرَابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقا .
واختلف الناس في قوله تعالى : { مثل الجنة } الآية ، فقال النضر بن شميل وغيره : { مثل } معناه صفة ، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا ، وقال سيبويه : المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة . ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله : فيها كذا وكذا .
قال القاضي أبو محمد : والذي ساق أن يجعل { مثل } بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية ، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعاً على هذه الصورة وذلك هي { مثل الجنة } ومثالها ، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه يقول : { مثل الجنة } ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف . وقرأ علي بن أبي طالب : «مثال الجنة » . وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً وابن عباس : «أمثال الجنة » . وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله : { كمن هو خالد } حذف تقديره : أساكن هذه ، أو تقديره : أهؤلاء إشارة إلى المتقين ، ويحتمل عندي أيضاً أن يكون الحذف في صدر الآية . كأنه قال : أمثل أهل الجنة { كمن هو خالد } ، ويكون قوله : { مثل } مستفهماً عنه بغير ألف الاستفهام ، فالمعنى : أمثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف { كمن هو خالد في النار } فتكون الكاف في قوله : { كمن } مؤكدة في التشبيه ، ويجيء قوله : { فيها أنهار } في موضع الحال على هذا التأويل . { وما غير آسن } معناه غير متغير ، قاله ابن عباس وقتادة ، وسواء أنتن أو لم ينتن ، يقال : أسَن الماء : بفتح السين ، وأسِن بكسرها .
وقرأ جمهور القراء : «آسِن » على وزن فاعل . وقرأ ابن كثير : «أسن » ، على وزن فعل ، وهي قراءة أهل مكة ، والأسن أيضاً هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء ، ومنه قول الشاعر :
التارك القرن مصراً أنامله . . . يميل في الرمح ميل المائح الأسن{[10362]}
وقال الأخفش : { آسن } لغة : والمعنى الإخبار به عن الحال ، ومن قال : «آسِن » على وزن فاعل ، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية .
وقرأت فرقة : «غير يسن » ، بالياء . قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمزة ، قال أبو حاتم عن عوف : كذلك كانت في المصحف : «يسن » ، فغيرها الحجاج .
وقوله : في اللبن { لم يتغير طعمه } نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله : { لذة للشاربين } جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره و { لذة } نعت على النسب ، أي ذات لذة . وتصفية العسل مذهبة لبوسته وضرره . وقوله : { من كل الثمرات } أي من هذه الأنواع ، لكنها بعيدة الشبه ، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه . وقوله : { ومغفرة من ربهم } معناه : وتنعيم أعطته المغفرة وسببته ، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة ، وقوله : { وسقوا } الضمير عائد على «مَنْ » لأن المراد به جمع .