{ 27 - 29 } { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }
يقول تعالى -مخبرا عن حال المشركين يوم القيامة ، وإحضارهم النار : . { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ } ليوبخوا ويقرعوا ، لرأيت أمرا هائلا ، وحالا مفظعة . ولرأيتهم كيف أقروا على أنفسهم بالكفر والفسوق ، وتمنوا أن لو يردون إلى الدنيا .
ثم يصور - سبحانه - حالهم عند ما يعرضون على النار ، وعندما يقفون أمام ربهم ، وحكى ما يقولونه فى تلك المواقف الشديدة فقال تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ . . . . } .
{ لَوْ } شرطية ، حذف جوابها لتذهب النفس فى تصوره كل مذهب وذلك أبلغ من ذكره .
و { وُقِفُواْ } بالبناء للمفعول بمعنى : وقفهم غيرهم . يقال : وقف على الأطلال أى : عندها مشرفاً عليها ، ويقال وقف على الشىء عرفه وتبينه .
والمعنى : إنك أيها النبى الكريم - أو أيها الإنسان العاقل - لو اطلعت على هؤلاء المشركين عندما يقفون على النار ويشاهدون لهيبها وسعيرها . لرأيت شيئاً مروعاً مخيفاً يجعلهم يتحسرون على ما فرط منهم ، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليصدقوا بآيات الله التى طالما كذبوها . وليكونوا من المؤمنين .
وعبر - سبحانه - بإذ التى تدل على الماضي - مع أن الحديث عما سيحصل لهم فى الآخرة فكان يناسبه إذا - لإفادة تحقق الوقوع وتأكده ، وليتصور المستقبل على أنه موجود لا على أنه سيوجد ، وعطف بالفاء فى قوله { فَقَالُواْ } للدلالة على أن أول شىء يقع فى قلوبهم حينئذ إنما هو الندم على ما سلف منهم ، وتمنى الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا .
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار ، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك قالوا { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ، ليعملوا عملا صالحا ، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النّارِ فَقَالُواْ يَلَيْتَنَا نُرَدّ وَلاَ نُكَذّبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَلَوْ تَرَى يا محمد هؤلاء العادلين بربهم الأصنام والأوثان الجاحدين نبوّتك الذين وصفت لك صفتهم ، إذْ وُقِفُوا يقول : إذ حبسوا ، على النّارِ يعني في النار ، فوضعت «على » موضع «في » كما قال : وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سَلَيْمانَ بمعنى في ملك سليمان . وقيل : وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا ومعناه : إذا وقفوا لما وصفنا قبل فيما مضى أن العرب قد تضع «إذ » مكان «إذا » ، و«إذا » مكان «إذ » ، وإن كان حظّ «إذ » أن تصاحب من الأخبار ما قد وجد فقضى ، وحظّ «إذا » أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد ، ولكن ذلك كما قال الراجز وهو أبو النجم :
مدّ لنا في عُمْرِهِ ربّ طَهَا ***ثمّ جَزَاهُ اللّهُ عَنّا إذْ جَزَى
***جنّاتِ عَدْنٍ في العلاليّ العُلا ***
فقال : «ثم جزاه الله عنا إذ جزى » ، فوضع «إذ » مكان «إذا » . وقيل : «وُقِفوا » ولم يقل «أوقفوا » ، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب ، يقال : وقفت الدابة وغيرها بغير ألف إذا حبستها ، وكذلك وقفت الأرض إذا جعلتها صدقة حبيسا ، بغير ألف . وقد :
حدثني الحارث ، عن أبي عبيد ، قال : أخبرني اليزيديّ والأصمعيّ كلاهما ، عن أبي عمرو ، قال : ما سمعت أحدا من العرب يقول : «أوقفت الشيء » بالألف . قال : إلا أني لو رأيت رجلاً بمكان ، فقلت : ما أوقفك هاهنا ؟ بالألف لرأيته حسنا . فَقَالُوا يا لَيْتَنَا نُرَدّ يقول : فقال هؤلاء المشركون بربهم إذ حبسوا في النار : يا ليتنا نردّ إلى الدنيا حتى نتوب ونراجع طاعة الله ، وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا يقول : ولا نكذّب بحجج ربنا ولا نجحدها ، وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ يقول : ونكون من المصدّقين بالله وحججه ورسله ، متبعي أمره ونهيه .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراقيين : «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبُ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونُ مِنَ المُؤْمِنِينَ » بمعنى : يا ليتنا نردّ ، ولسنا نكذّب بآيات ربنا ولكن نكون من المؤمنين . وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة : يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بمعنى يا ليتنا نردّ ، وأن لا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين .
حدّثنيه أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : في حرف ابن مسعود : «يا لَيْتَنا نُرَدّ فَلا نُكَذّبَ » بالفاء .
وذكر عن بعض قرّاء أهل الشام أنه قرأ ذلك : «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبُ » بالرفع ونَكُونَ بالنصب . كأنه وجه تأويله إلى أنهم تمنوا الردّ وأن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا أنهم لا يكذّبون بآيات ربهم إن ردّوا إلى الدنيا .
واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبا ومرفوعا ، فقال بعض نحويي البصرة : وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ نصب لأنه جواب للتمني ، وما بعد الواو كما بعد الفاء . قال : وإن شئت رفعت وجعلته على غير التمني ، كأنهم قالوا : ولا نكذّب والله بآيات ربنا ، ونكون والله من المؤمنين هذا إذا كان على ذا الوجه كان منقطعا من الأوّل . قال : والرفع وجه الكلام ، لأنه إذا نصب جعلها واو عطف ، فإذا جعلها واو عطف ، فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين . قال : وهذا والله أعلم لا يكون ، لأنهم لم يتمنوا هذا ، إنما تمنوا الردّ ، وأخبروا أنهم لا يكذّبون ويكونون من المؤمنين . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : لو نصب «نكذّب » و «نكون » على الجواب بالواو لكان صوابا قال : والعرب تجيب بالواو و«ثم » ، كما تجيب بالفاء ، يقولون : ليت لي مالاً فأعطيك ، وليت لي مالاً وأعطيك وثم أعطيك . قال : وقد تكون نصبا على الصرف ، كقولك : لا يسعني شيء ويعجز عنك .
وقال آخر منهم : لا أحبّ النصب في هذا ، لأنه ليس بتمنّ منهم ، إنما هو خبر أخبروا به عن أنفسهم ألا ترى أن الله تعالى قد كذبهم فقال : وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمني . وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب بالواو ، وبحرف غير الفاء ، وكان يقول : إنما الواو موضع حال ، لا يسعني شيء ويضيق عنك : أي وهو يضيق عنك . قال : وكذلك الصرف في جميع العربية . قال : وأما الفاء فجواب جزاء ، ما قمت فآتيك : أي لو قمت لأتيناك . قال : فهذا حكم الصرف والفاء . قال : وأما قوله : وَلا نُكَذّبَ ونكُونَ فإنما جاز ، لأنهم قالوا : يا ليتنا نردّ في غير الحال التي وقُفِنْا فيها على النار ، فكان وقفهم في تلك ، فتمنوا أن لا يكونوا وقفوا في تلك الحالة . وكأن معنىّ صاحب هذه المقالة في قوله هذا : ولو ترى إذ وُقِفوا على النار ، فقالوا : قد وقفنا عليها مكذّبين بآيات ربنا كفارا ، فيا ليتنا نردّ إليها فنوقف عليها غير مكذّبين بآيات ربنا ولا كفارا . وهذا تأويل يدفعه ظاهر التنزيل ، وذلك قول الله تعالى : وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وإنّهُم لكاذِبُونَ فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة ، والتكذيب لا يقع في التمني ، ولكن صاحب هذه المقالة أظنّ به أنه لم يتدبر التأويل ولزم سنن العربية . والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك : «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ » بالرفع في كليهما ، بمعنى : يا ليتنا نردّ ، ولسنا نكذّب بآيات ربنا إن رددنا ، ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردّوا إلى الدنيا ، لا على التمني منهم أن لا يكذّبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وأنهم كذبة في قيلهم ذلك . ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني لاستحال تكذيبهم فيه ، لأن التمني لا يكذّب ، وإنما يكون التصديق والتكذيب في الأخبار . وأما النصب في ذلك ، فإني أظنّ بقارئه أنه برجاء تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه ، وذلك قراءته ذلك : «يا لَيْتَنا نُرَدّ فَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ » على وجه جواب التمني بالفاء . وهو إذا قرىء بالفاء كذلك لا شكّ في صحة إعرابه ، ومعناه في ذلك أن تأويله إذا قرىء كذلك : لو أنا رُددنا إلى الدنيا ما كذّبنا بآيات ربنا ، ولكنا من المؤمنين . فإن يكن الذي حَكَي عن العرب من السماء منهم الجواب بالواو و«ثم » كهئية الجواب بالفاء صحيحا ، فلا شكّ في صحة قراءة من قرأ ذلك : يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ نصبا على جواب التمني بالواو ، على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء ، وإلا فإن القراءة بذلك بعيدة المعنى من تأويل التنزيل . ولست أعلم سماع ذلك من العرب صحيحا ، بل المعروف من كلامها الجواب بالفاء والصرف بالواو .
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار } جوابه محذوف أي : لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها ، أو يطلعون عليها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمرا شنيعا . وقرئ { وقفوا } على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفا . { فقالوا يا ليتنا نرد } تمنيا للرجوع إلى الدنيا . { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } استئناف كلام منهم على وجه الإثبات كقولهم : دعني ولا أعود ، أي وأنا لا أعود تركتني ، أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني ، وقوله : { وإنهم لكاذبون } راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد ، ونصبهما حمزة ويعقوب وحفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء . وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب الثاني على الجواب .
وقوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } الآية المخاطبة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجواب { لو } محذوف ، تقديره في آخر هذه الآية لرأيت هولاً أو مشقات أو نحو هذا ، وحذف جوابها في مثل هذا أبلغ لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله{[4878]} ، ووقعت { إذ } في موضع إذا التي هي لما يستقبل وجاز ذلك لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه كما يعبر عن الماضي الوقوع . و { وقفوا } معناه : حبسوا ، ولفظ هذا الفعل متعدياً وغير متعد سواء ، تقول : وقفت أنا ووقفت غيري ، وقال الزهراوي : وقد فرق بينهما بالمصدر ففي المتعدي وقفته وقفاً وفي غير المتعدي وقفت وقوفاًَ ، قال أبو عمرو بن العلاء : لم أسمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاً واقفاً فقلت له ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً ، ويحتمل قوله : { وقفوا على النار } أن يكون دخلوها ، فكان وقوفهم عليها أي فيها ، قاله الطبري ، ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : «ولا نكذبُ » و «نكونُ » بالرفع في كلها ، وذلك على نية الاستئناف والقطع في قوله «ولا نكذب ونكون » أي يا ليتنا نرد ونحن على كل حال لا نكذب ونكون ، فأخبروا أنفسهم بهذا ولهذا الإخبار صح تكذيبهم بعد هذا ، ورجح هذا سيبويه ومثله بقولك دعنى ولا أعود أي وأنا لا أعود على كل حال ، ويخرج ذلك على قول آخر وهو أن يكون «ولا نكذب ونكون » داخلاً في التمني على حد ما دخلت في نرد ، كأنهم قالوا : يا ليتنا نرد وليتنا نكذب وليتنا نكون ، ويعترض هذا التأويل بأن من تمنى شيئاً يقال إنه كاذب وإنما يكذب من أخبر .
قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يكون قوله { وإنهم لكاذبون } [ الأنعام : 28 ] حكاية عن حالهم في الدنيا كلاماً مقطوعاً مما قبله وبوجه آخر وهو أن المتمني إذا كانت سجيته وطريقته مخالفة لما تمنى بعيدة منه يصح أن يقال له كذبت على تجوز ، وذلك أن من تمنى شيئاً فتمنيه يتضمن إخباراً أن تلك الأمنية تصلح له ويصلح لها فيقع التكذيب في ذلك الإخبار الذي يتضمنه التمني ، ومثال ذلك أن يقول رجل شرير ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل فجائز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لهذا ولا يصلح لك ، وروي عن أبي عمرو : أنه أدغم باء نكذب في الباء التي بعدها ، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص «ولا نكذبَ ونكونَ » بنصب الفعلين ، وذلك كما تنصب الفاء في جواب التمني ، فالواو في ذلك والفاء بمنزلة ، وهذا تقدير ذكر مصدر الفعل الأول كأنهم قالوا يا ليتنا كان لنا رد ، وعدم تكذيب وكون من المؤمنين . وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر «ولا نكذبُ » بالرفع «ونكونَ » بالنصب ، ويتوجه ذلك على ما تقدم{[4879]} في مصحف عبد الله بن مسعود «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون » بالفاء ، وفي قراءة أبي بن كعب «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآياتنا أبداً ونكون » ، وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي «بآيات ربنا ونحن نكون » ، وقوله { نرد } في هذه الأقوال كلها معناه : إلى الدنيا ، وحكى الطبري تأويلاً آخر وهو يا ليتنا نرد إلى الآخرة أي نبعث ونوقف على النار التي وقفنا عليها مكذبين ، ليت ذلك ونحن في حالة لا نكذب ونكون ، فالمعنى يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يضعف من غير وجه ويبطله قوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] ولا يصح أيضاً التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى . وإنما يصح التكديب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات .
الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام لأنّ في الخبر الواقع بعده تسلية له عمّا تضمّنه قوله : { وهم ينهون عنه وينأون عنه } [ الأنعام : 26 ] فإنّه ابتدأ فعقّبه بقوله : { وإن يهلكون إلاّ أنفسهم } [ الأنعام : 26 ] ثم أردفه بتمثيل حالهم يوم القيامة . ويشترك مع الرسول في هذا الخطاب كلّ من يسمع هذا الخبر .
و { لو } شرطية ، أي لو ترى الآن ، و { إذ } ظرفية ، ومفعول { ترى } محذوف دلّ عليه ضمير { وقفوا } ، أي لو تراهم ، و { وقفوا } ماض لفظاً والمعنيّ به الاستقبال ، أي إذ يوقفون . وجيء فيه بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره .
ومعنى : { وقفوا على النار } أبلغوا إليها بعد سير إليها ، وهو يتعدى ب { على } . والاستعلاء المستفاد ب { على } مجازي معناه قوّة الاتّصال بالمكان ، فلا تدلّ ( على ) على أنّ وقوفهم على النار كان من أعلى النار . وقد قال تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على ربّهم } [ الأنعام : 30 ] ، وأصله من قول العرب : وقفت راحلتي على زيد ، أي بلغت إليه فحبسْت ناقتي عن السير . قال ذو الرمّة :
وقفتُ على ربع لميّة ناقتي *** فما زلتُ أبكي عنده وأخاطبه
فحذفوا مفعول ( وقفت ) لكثرة الاستعمال . ويقال : وقفه فوقف ، ولا يقال : أوقفه بالهمزة .
وعطف عليه { فقالوا } بالفاء المفيدة للتعقيب ، لأنّ ما شاهدوه من الهول قد علموا أنّه جزاء تكذيبهم بإلهام أوقعه الله في قلوبهم أو بإخبار ملائكة العذاب ، فعجّلوا فتمنّوا أن يرجعوا .
وحرف النداء في قولهم : { يا ليتنا نردّ } مستعمل في التحسّر ، لأنّ النداء يقتضي بُعد المنادى ، فاستعمل في التحسّر لأنّ المتمنّى صار بعيداً عنهم ، أي غير مفيد لهم ، كقوله تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله } [ الزمر : 56 ] .
ومعنى { نردّ } نرجع إلى الدنيا ؛ وعطف عليه { ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين } برفع الفعلين بعد ( لا ) النافية في قراءة الجمهور عطفاً على { نُردّ } ، فيكون من جملة ما تمنّوه ، ولذلك لم ينصب في جواب التمنِّي إذ ليس المقصود الجزاء ، ولأنّ اعتبار الجزاء مع الواو غير مشهور ، بخلافه مع الفاء لأنّ الفاء متأصّلة في السببية . والردّ غير مقصود لذاته وإنّما تمنّوه لما يقع معه من الإيمان وترك التكذيب . وإنّما قدّم في الذكر ترك التكذيب على الإيمان لأنّه الأصل في تحصيل المتمنّى على اعتبار الواو للمعية واقعة موقع فاء السببية في جواب التمنّي .
وقرأه حمزة والكسائي { ولا نكذّب ونكونَ } بنصب الفعلين ، على أنّهما منصوبان في جواب التمنِّي . وقرأ ابن عامر { ولا نكذّب } بالرفع كالجمهور ، على معنى أنّ انتفاء التكذيب حاصل في حين كلامهم ، فليس بمستقبل حتى يكون بتقدير ( أن ) المفيدة للاستقبال . وقرأ { ونكون } بالنصب على جواب التمنِّي ، أي نكون من القوم الذين يعرفون بالمؤمنين .