{ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } فإنهم كانوا يخفون في أنفسهم ، أنهم كانوا كاذبين ، ويَبدو في قلوبهم في كثير من الأوقات . ولكن الأغراض الفاسدة ، صدتهم عن ذلك ، وصرفت قلوبهم عن الخير ، وهم كذبة في هذه الأمنية ، وإنما قصدهم ، أن يدفعوا بها عن أنفسهم العذاب .
{ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
ثم يعقب - سبحانه - على قولتهم هذه فيما لو أجيبوا إلى طلبهم على سبيل الفرض والتقدير فيقول : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
بل هنا للإضراب عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته ، ولحقيقة الإيمان وحسن عاقبته .
والمعنى : ليس الأمر كما يوهمه كلامهم فى التمنى من أنهم يريدون العودة للهداية ، بل الحق أنهم تمنوا العودة إلى الدنيا بعد أن استقبلتهم النار بلهبها ، وبعد أن ظهر لهم ما كانوا يخفونه فى الدنيا من أعمال قبيحة ، ومن أفعل سيئة ، وبعد أن بدا لهم ما كانوا يذكبون به ، وينكرون تحققه ، ولو أنهم ردوا إلى الدنيا بمتعها وشهواتها وأهوائها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب بالآيات ، والسخرية من المؤمنين ، وإنهم لكاذبون فى كل ما يدعون .
فالآية الكريمة تصور ما طبع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء ، لأنهم حتى لو أجيبوا إلى طلبهم - على سبيل الفرض والتقدير - لما تخلوا عن كفرهم ومحاربتهم للأنبياء وللمصلحين .
قال تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } أي : بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة ، وإن أنكروها ، في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال قبل هذا بيسير { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }
ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت{[10628]} به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كما قال تعالى مخبرًا عن موسى أنه قال لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ } الآية [ الإسراء : 102 ] . قال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14 ] .
ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون للناس الإيمان ويبطنون الكفر ، ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ، ولا ينافي هذا كون هذه [ السورة ]{[10629]} مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت ، فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] ؛ وعلى هذا فيكون إخبارًا عن حال المنافقين في الدار الآخرة ، حين يعاينون العذاب يظهر{[10630]} لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والشقاق والنفاق ، والله أعلم .
وأما معنى الإضراب في قوله : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } فَهُم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة{[10631]} في الإيمان ، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا{[10632]} من النار ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان .
ثم قال مخبرًا عنهم : إنهم لو ردّوا إلى الدار الدنيا ، لعادوا لما نهوا عنه [ من الكفر والمخالفة ]{[10633]} { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في قولهم : { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ما قصد هؤلاء العادلين بربهم الجاحدين نبوّتك يا محمد في قيلهم إذْ وقفوا على النار : يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، الأسي والندمَ على ترك الإيمان بالله والتصديق بك لكن بهم الإشفاق مما هو نازل بهم من عقاب الله وأليم عذابه على معاصيهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم ، فأبداها الله منهم يوم القيامة وأظهرها على رءوس الأشهاد ، ففضحهم بها ثم جازاهم بها جزاءهم . يقول : بَلْ بَدَا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونها ، مِنْ قَبْلُ ذلك في الدنيا ، فظهرت . وَلَوْ رُدّوا يقول : ولو ردّوا إلى الدنيا فأمهلوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ يقول : لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك من جحود آيات الله والكفر به والعمل بما يسخط عليهم ربهم . وإنّهُمْ لَكاذِبُونَ في قيلهم : لو رُددنا لم نكذّب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين ، لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب لا إيمانا بالله .
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بَلْ بَدَا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يقول : بدت لهم أعمالهم في الاَخرة التي أخفوها في الدنيا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : بَلْ بَدَا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ قال : من أعمالهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ يقول : ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم ، لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء .
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } الإضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمني ، والمعنى أنه كظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم ، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا . { ولو ردوا } أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور . { لعادوا لما نهوا عنه } من الكفر والمعاصي . { وإنهم لكاذبون } فيما وعدوا به من أنفسهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.