تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (18)

{ 18-21 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه ، سرا وعلانية ، في جميع الأحوال ، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وشرائعه وحدوده ، وينظروا ما لهم وما عليهم ، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة ، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم ، واهتموا بالمقام بها ، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها ، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم ، وإذا علموا أيضا ، أن الله خبير بما يعملون ، لا تخفى عليه أعمالهم ، ولا تضيع لديه ولا يهملها ، أوجب لهم الجد والاجتهاد .

وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه ، وأنه ينبغي له أن يتفقدها ، فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه ، والتوبة النصوح ، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه ، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله ، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه ، وإتقانه ، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره ، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (18)

ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بتقواه وبتقديم العمل الصالح الذى ينفعهم يوم يلقونه ، ونهاهم عن التشبه بالقوم الفاسقين . . . فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .

والمراد بالغد فى قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ . . } يوم القيامة . .

أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان { اتقوا الله } أى صونوا أنفسكم عن كل ما يغضب الله - تعالى - ، وراقبوه فى السر والعلن . وقفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها .

{ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أى : ولتنظر كل نفس ، ولتتأمل فى الأعمال التى عملتها فى الدنيا . والتى ستحاسب عليها فى يوم القيامة ، فإن كانت خيرا ازدادت منها ، وإن كانت غير ذلك أقلعت عنها .

وعبر - سبحانه - عن يوم القيامة بالغد ، للإشعار بقربه ، وأنه آت لا ريب فيه ، كما يأتى اليوم الذى يلى يومك . والعرب تخبر عن المستقبل القريب الغد كما فى قول الشاعر :

فإن يك صدر هذا اليوم ولى . . . فإن غدا لناظره قريب

وقال - سبحانه - : { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ } لإفادة العموم ، أى : كل نفس عليها أن تنظر نظرة محاسبة ومراجعة فى أعمالها بحيث لا تقدم إلا على ما كان صالحا منها .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى تنكير النفس والغد ؟ قلت : أما تنكير النفس فاستقلالا للأنفس النواظر فيما قدمت للآخرة ، كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة فى ذلك ، وأما تنكير الغد ، فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه .

وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، وربحنا ما قدمنا ، وخسرنا ما خلفنا . .

وكرر - سبحانه - الأمر بالتقوى فقال : { واتقوا الله } للتأكيد . أى : اتقوا الله بأن تؤدوا ما كلفكم به من واجبات ، وبأن تجتنبوا ما نهاكم عنه من سيئات .

وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } تعليل للحض على التقوى أى : اتقوه فى كل ما تأتون وما تذرون ، لأنه - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، بل هو - سبحانه - محيط بها إحاطة تامة ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون يوم القيامة .

وقد جاء الأمر بتقوى الله - تعالى - فى عشرات الآيات من القرآن الكريم ، لأن تقوى الله - تعالى - هى جماع كل خير ، وملاك كل بر ، ومن الأدلة على ذلك . أننا نرى القرآن يبين لنا أن تقوى الله قد أمر بها كل نبى قومه ، قال - تعالى - : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } وتارة نجد القرآن الكريم يبين لنا الآثار الطيبة التى تترتب على تقوى الله فى الدنيا والآخرة ، فيقول : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض . . } ويقول : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .

ويقول - سبحانه - : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } ويقول - عز وجل - : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (18)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم حذر المؤمنين ولاية اليهود، فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس} يعني ولتعلم نفس، {ما قدمت لغد} يعني ما عملت لغد، يعني ليوم القيامة.

{واتقوا الله} يحذرهم ولاية اليهود.

{إن الله خبير بما تعملون}: من الخير والشر، ومن معاونة اليهود...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ}: يا أيها الذين صدّقوا الله ووحدوه، اتقوا الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.

{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ لِغَدٍ}: ولينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات التي تنجيه، أم من السيئات التي توبقه؟

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

اتقوا حق الله تعالى: أن تضيعوه، أو: اتقوا حده أن تعدوه وتبطلوه، أو: اتقوا سخطه، أو اتقوا الأسباب التي تستوجبون بها مقت الله تعالى. ويحتمل أن يراد من التقوى في هذه الآية أوامره ونواهيه على ما وصفنا أن التقوى إذا أطلق جاز أن يراد به الأوامر والنواهي، وإذا ذكر مقابلة أمر، كان المعنى منه أوامره ونواهيه، والله أعلم.

{ولتنظر نفس ما قدمت لغد}: من عمل بما أمر في هذه الآية سلم من تبعات الآخرة، لأنه إذا شعر قلبه وقت فعله أن الذي يفعله تقدمة لغد، امتنع عن ارتكاب ما يجب أن يستحيي منه، أو يحزن عليه في ذلك الوقت، وأتى بما يسر عليه، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون معنى الآية على النظر لما قدمته نفسه للغد؛ وذلك أنه إذا تذكر، فنظر في ما قدمت نفسه للغد؛ وذلك أنه دعاه إلى أحد أمرين: إما إلى التوبة عن السيئة التي قدمها، وإما إلى الشكر على الحسنة التي يتعاطاها. وكل ذلك منه زيادة في الخير، فكان الواجب ألا يغفل المرء عن ذلك، والله أعلم.

{اتقوا الله}: ذكر قوله: {اتقوا الله} مرة أخرى، والآية واحدة، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد من الأول: أن اتقوا مخالفة الله في أوامره ونواهيه، ومن الثاني: أن اتقوا سخط الله وعقوبته.

والثاني: أنه خرج على التكرار على ما جرت العادة في الكلام في التكرير عند الوعيد على التأكيد، كقوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون} [المؤمنون: 36] وكقوله تعالى: {أولى لك فأولى} {ثم أولى لك فأولى} [القيامة: 34 و 35] والله أعلم.

{إن الله خبير بما تعملون} فيه تحريض على المراقبة والتيقظ وقت فعله، لأن من علم وقت فعله أن الله تعالى مطلع على ما يرتكبه من الذنوب، ويقربه من الشرور، امتنع عنها، وزجر نفسه.

وقالوا: في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} وعيد في أربعة أوجه:

أحدها: في قوله تعالى: {اتقوا الله}.

والثاني: في قوله تعالى: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد}.

والثالث: في قوله تعالى: {واتقوا الله}.

والرابع: في قوله تعالى: {إن الله خبير بما تعملون}.

ثم إن الله تعالى سمى الآخرة باسم الغد لسرعة مجيئه، وسمى الدنيا بالأمس لسرعة فنائها، وهو كقوله {فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24] فيذكرهم ويعظهم بهذه الآية ليتفكر كل أحد في نفسه ما له خلق: للعبث؟ أم خلق لأمر عظيم على ما ذكره الله تعالى.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله} روى معن أو عون عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال: اعهد لي، فقال: إذا سمعت الله يقول: {يأيها الذين ءامنوا} فارعها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

التقوى الأولى على ذكر العقوبات في الحال والفِكرِ في العملِ خَيْرِه وشَرِّه.

والتقوى الثانية تقوى المراقبة والمحاسبة، ومَنْ لا محاسبة له في أعماله ولا مراقبة له في أحواله.. فعَنْ قريب سيفتضح.

وعلامةُ مَنْ نَظَرَ لِغدِه أن يُحْسِنَ مراعاة يومِه؛ ولا يكون كذلك إلاَّ إذا فَكَّرَ فيما عَمِلَه في أمْسِه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

كرر الأمر بالتقوى تأكيداً: واتقوا الله في أداء الواجبات؛ لأنه قرن بما هو عمل، واتقوا الله في ترك المعاصي، لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد.

والغد: يوم القيامة، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له. وقيل: عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران: يوم وغد.

فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟

قلت: أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمْنَ للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك.

وأما تنكير الغد، فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه آية وعظ وتذكير وتقريب للآخرة، وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية.

ومعنى الآية: ما قدمت من الأعمال، فإذا نظرها الإنسان تزيد من الصالحات، وكف عن السيئات.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

ولما انقضى في هذه السورة، وصف المنافقين واليهود، وعظ المؤمنين، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أبلغ سبحانه في المواعظ في هذه السورة قولاً وفعلاً، وكانت الإيقاعات المذكورة فيها مسببة عن الخيانات ممن كان له عهد فنقضه، أو ممن كان أظهر الإيمان فأبان فعله كذبه، قال سبحانه وتعالى استنتاجاً عن ذلك وعظاً للمؤمنين، لأن الوعظ بعد المصائب أوقع في النفس، وأعظم في ترقيق القلب وتحذيره مما يوجب العقوبة: {يا أيها الذين آمنوا} منادياً لهم نداء البعد...

{اتقوا الله} أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ولا بد أن يستعرض عبيده، فاحذروا عقوبته بسب التقصير فيما حده لكم من أمر أو نهي.

{ولتنظر نفس} أي كل نفس تنظر إلى نفاستها وتريد العلو على أقرانها، ولعله وحدها للإشارة مع إفادة التعميم إلى قلة الممتثل لهذا الأمر جداً.

{ما قدمت} أي من الزاد الذي يكون به صلاح المنزل الذي من لم يسع في إصلاحه لم يكن له راحة، هل يرضي الملك ما قدمته فينجيها أو يغضبه فيرديها.

ولما كان الأجل مبهم الوقت، فكان لقاء الله في كل يوم بل كل لحظة للعاقل مترقباً لكونه ممكناً مع كونه على الإطلاق محققاً لا يجهله أحد، قال مشيراً بتنكيره وإبهامه إلى تهويله وإعظامه: {لغد} أي لأجل العرض بعد الموت أو في يوم القيامة الذي هو في غاية القرب لأن هذه الدنيا كلها يوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت أو الآخرة غده، لا بد من كل منهما، وكل ما لا بد منه فهو في غاية القرب لا سيما إن كان باقياً غير منقض، وكل من نظر لغده أحسن مراعاة يومه، وتنوينه للتعظيم من جهات لا تحصى.

ولما أمر بتقواه سبحانه خوفاً من سطواته، أمر بتقواه لأجل مراقبته حياء من جلالته وهيبته تأكيداً للأمر، لأن مدار النجاة على التقوى، لأن مكايد الشيطان دقيقة، فمن لم يبالغ في محاسبة نفسه وتفقد ما يمكن أن يكون من الخلل في أعماله، أوشك أن يحبط الشيطان أعماله، فقال تعالى: {واتقوا الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال أي اتقوه حياء منه، فالتقوى الأولى لإيجاد صور الأعمال، وهذه لتصفيتها وتزكية أرواحها، ولذلك علل بقوله مرغباً مرهباً:

{إن الله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى {خبير} أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة {بما تعملون} فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى منه ومسمع فاستحيوا منه، وكرر الاسم الأعظم كراهية أن يظن تقييد التقوى بحيثية من الحيثيات تعظيماً لهذا المقام إعلاماً بأن شؤونه لا تنحصر، وأن إحاطته لا تخص مقاماً دون مقام ولا شأناً سوى شأن.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

قال المهايمي: يعني أن مقتضى إيمانكم أن لا تأمنوا مكر الله فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر ثم يتبرأ منكم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أيضا، أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد.

وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يتجه الخطاب إلى المؤمنين، يهتف بهم باسم الإيمان، ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب، وتيسر عليهم الاستجابة لتوجيهه وتكليفه. يتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى. والنظر فيما أعدوه للآخرة، واليقظة الدائمة، والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل، ممن رأوا مصير فريق منهم، وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار. والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها، حالة تجعل القلب يقظا حساسا شاعرا بالله في كل حالة، خائفا متحرجا مستحييا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها، وعين الله على كل قلب في كل لحظة، فمتى يأمن أن لا يراه؟ وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه.. ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته، لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة.. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف، ومواضع نقص ومواضع تقصير، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد. فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلا، ونصيبه من البر ضئيلا. إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدا، ولا يكف عن النظر والتقليب.

ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر، حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع: (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).. فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء.. والله خبير بما يعملون..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسرّ الله من فتح قرية بني النضير بدون قتال، وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين، ومن الإِيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم، وكذلك موقف أنصارهم معهم، إلى الأمر بتقوى الله شكراً له على ما منح وما وعد من صادق الوعد، فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه، إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك، فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله.

ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفَيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا، أعقبه بتذكيرهم بالإِعداد للآخرة بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة. وجملة {إن الله خبير بما تعملون} وذِكر {نفس} إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر: وانظروا ما قدمتم، فعُدل عن الإِظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس. وتنكير {نفس} يفيد العموم في سياق الأمر، أي لتنظر كل نفس.

وإعادة {واتقوا الله} ليبنَى عليه {إن الله خبير بما تعملون} فيحصل الربط بين التعليل والمعلل، إذ وقع بينهما فصل {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ}.

فجملة {إن الله خبير بما تعملون} تعليل للحث على تقوى الله، وموقع {إنَّ} فيها موقع التعليل. ويجوز أن يكون {اتقوا الله} المذكور أولاً مراداً به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل، ولذلك أردف بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ}. ويكون {اتقوا الله} المذكور ثانياً مراداً به الدوام على التقوى الأولى، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136] ولذلك أردف بقوله: {إن الله خبير بما تعملون} أي بمقدار اجتهادكم في التقوى.

وأردف بقوله: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر: 19] أي أهملوا التقوى بعد أن تقلّدوها كما سيأتي أنهم المنافقون، فإنهم تقلّدوا الإِسلام وأضاعوه، قال تعالى: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} [التوبة: 67].

وفي قوله: {إن الله خبير بما تعملون} إظهار اسم الجلالة في مقام الإِضمار، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتمّ استقلال فتجري مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ}: إن التقوى تبدأ لدى الإنسان كحالةٍ في الضمير الذي يطلّ على المسؤولية من خلال المعرفة بالله والإيمان به والتعظيم لمقامه، ثم تتحول إلى حالة في العمل، لينضبط في موارده ومصادره، في رقابةٍ دائمةٍ تحيط بالواقع كله. وإذا عاش الإنسان حس التقوى في حركة المسؤولية أمام الله، فإنه يبقى متطلعاً إلى حجم النتائج العملية في حساب المستقبل الذي يقف فيه الإنسان بين يدي الله، فهو في قلقٍ دائمٍ من حيث طبيعة أعماله التي تقربه إلى الله، لأن المسألة لديه أن الحياة فرصةٌ للعمل، وساحةٌ للوصول إلى الله والقرب إليه، ما يجعل للساعات معنى في ما تحتويه من الخيرات، لتكون الحياة دائماً حساباً يستزيد الأرقام في رصيد العمل الصالح، مما يجعل الإنسان ينتظر التقدم المتنامي على طريق ما يطمح إليه من غايات.. وهذا ما أرادت الآية أن تؤكده في الفقرة التالية، كحركةٍ داخليةٍ فكريةٍ في آفاق التقوى. وجوب محاسبة الإنسان لنفسه يومياً: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي الآخرة التي ينتظرها، وهي تحتاج إلى الزاد وهو التقوى، الذي تختلف النتائج فيه تبعاً لاختلاف حجم مراتبه. وهذا ما يفرض على الإنسان الدخول في عملية حسابٍ يوميّ للحسنات والسيئات، انطلاقاً من الخوف من الله والرغبة في الحصول على ثوابه والتخلص من عقابه. وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نفهم هذه الدعوة إلى التحديق بما قدمه الإنسان لغده، كجزءٍ من حركة التقوى الروحية التي يدفعها شعورها بالمسؤولية أمام الله إلى رصد كل حسابات المستقبل الأخروي عنده، من خلال دراسة الماضي والحاضر في ساحة العمل، ليتخفف الإنسان من سيئاته إذا رأى حجمها كبيراً، بالتوبة، وليستزيد من حسناته إذا رأى عددها قليلاً.

{وَاتَّقُواْ اللَّه} بعد تصفية الحساب، سواء كان إيجابياً في نتائجه أو سلبياً، لتنفتحوا على الأعمال المنفتحة على الحق، والمتحركة في مواقع الخير، والسائرة على خط الاستقامة والعدل، ما يفرض على الإنسان أن يؤكد معنى التقوى في أعماله المستقبلية، فلا يقع في الأخطاء التي وقع فيها سابقاً، ولا يضيّع الفرص التي ضيّعها مما كان يستطيع معها أن يحصل على خير الدنيا والآخرة من أقرب طريق، {إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بما تَعْمَلُونَ} وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تلتقون بها في آفاق الحقيقة الإلهية في إحاطة الله المطلقة بالكون كله، وبالإنسان كله في سره وعلانيته، وهي التي تعمق معنى التقوى في عقولكم وقلوبكم ومشاعركم وأعمالكم. وعلى ضوء ما ذكرناه، يتبين أن المراد من التقوى في الفقرة الأولى، التقوى في مسؤولية الاستعداد لغد الآخرة من خلال وعي المرحلة التي وصل إليها الإنسان في رحلته إلى الله، حتى تكون استثارة التقوى في الوعي مقدمةً للاستقامة على الخط، في ما قطعه الإنسان من مراحل، ليستقبل المراحل الأخرى بروحٍ جديدةٍ، أما التقوى في الفقرة الثانية، فالمراد بها التقوى في العمل في خط الامتداد المستقبلي.