تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ْ } أي : يصطفيك ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة ، . { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ْ } أي : من تعبير الرؤيا ، وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة ، كالكتب السماوية ونحوها ، { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ْ } في الدنيا والآخرة ، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، { كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ْ } حيث أنعم الله عليهما ، بنعم عظيمة واسعة ، دينية ، ودنيوية .

{ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ } أي : علمه محيط بالأشياء ، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره ، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده ، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

ثم حكى - سبحانه - ما توقعه يعقوب لابنه يوسف من خير وبركة فقال :

{ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

والكاف في قوله { وكذلك } حرف تشبيه بمعنى مثل ، وهى داخله على كلام محذوف .

وقوله { يَجْتَبِيكَ } من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار ، مأخوذ من جبيت الشئ إذا اخترته لما فيه من النفع والخير .

و { تَأْوِيلِ الأحاديث } معناه تفسيرها صحيحا ، إذا التأويل مأخوذ من الأَوْل بمعنى الرجوع ، وهو رد الشئ إلى الغاية المرادة منه .

والأحاديث جمع تكسير مفرده حديث ، وسميت الرؤى أحاديث باعتبار حكايتها والتحدث بها .

والمعنى : وكما اجتباك ربك واختارك لهذه الرؤيا الحسنة ، فإنه - سبحانه - يجتبيك ويختارك لأمور عظام في مستقبل الأيام ، حيث يهبك من صدق الحسَّ ، ونفاذ البصيرة ، ما يجعلك تدرك الأحاديث إدراكا سليما ، وتعبر الرؤى تعبيرا صحيحا صادقاً .

" ويتم نعمته عليك " بالنبوة والرسالة والملك والرياسة " وعلى آل يعقوب " وهم إخوته وذريتهم ، بأن يسبغ عليهم الكثير من نعمه .

{ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ } أى : من قبل هذه الرؤيا أو من قبل هذا الوقت .

وقوله " إبراهيم وإسحاق " بيان لأبويه .

أى : يتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل ، وهما إبراهيم وإسحاق بأن وهبهما - سبحانه - النبوة والرسالة .

وعبر عنهما بأنهما أبوان ليوسف ، مع أن إبراهيم جد أبيه ، وإسحاق جده ، للإِشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام - وللمبالغة في إدخال السرور على قلبه ، ولأن هذا الاستعمال مألوف في لغة العرب ، فقد كان أهل مكة يقولون للنبى - صلى الله عليه وسلم - يا ابن عبد المطلب ، وأثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا النبى لا كذب - أنا ابن عبد المطلب " وجملة { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } مستأنفة لتأكيد ما سبقها من كلام .

أى : إن ربك عليم بمن يصطفيه لحمل رسالته ، وبمن هو أهل لنعمه وكرامته ، حكيم في صنعه وتصرفاته .

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد نوهت بشأن القرآن الكريم ، وساقت بأسلوب حكيم ما قاله يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بعد أن قص ما رآه في المنام .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقد أحس من رؤيا ابنه يوسف أن سيكون له شأن ، يتجه خاطره إلى أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة ؛ بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه ، وما يعلمه من أن جده إبراهيم مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون . فتوقع أن يكون يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة المباركة في بيت إبراهيم . فقال له :

( وكذلك يجتبيك ربك ، ويعلمك من تأويل الأحاديث ، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق ، إن ربك عليم حكيم ) .

واتجاه فكر يعقوب إلى أن رؤيا يوسف تشير إلى اختيار الله له ، وإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق [ والجد يقال له أب ] . . هذا طبيعي . ولكن الذي يستوقف النظر قوله :

( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) . .

والتأويل هو معرفة المآل . فما الأحاديث ؟ . أقصد يعقوب أن الله سيختار يوسف ويعلمه ويهبه من صدق الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به من الأحاديث مآلها الذي تنتهي إليه ، منذ أوائلها . وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة ، وجاء التعقيب :

( إن ربك عليم حكيم ) . .

مناسبا لهذا في جو الحكمة والتعليم ؟ أم قصد بالأحاديث الرؤى والأحلام كما وقع بالفعل في حياة يوسف فيما بعد ؟

كلاهما جائز ، وكلاهما يتمشى مع الجو المحيط بيوسف ويعقوب .

وبهذه المناسبة نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة .

إننا ملزمون بالأعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد . ملزمون بهذا أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحبيه في السجن ، ورؤيا الملك في مصر . وثانيا من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده . . لأنه موجود بالفعل ! . .

والسبب الأول يكفي . . ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت . . فما هي طبيعة الرؤيا ؟

تقول مدرسة التحليل النفسي : إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي .

وهذا يمثل جانبا من الأحلام . ولكنه لا يمثلها كلها . [ وفرويد ] ذاته - على كل تحكمه غير العلمي وتمحله في نظريته - يقرر أن هناك أحلاما تنبؤية .

فما طبيعة هذه الأحلام التنبؤية ؟

وقبل كل شيء نقرر أن معرفة طبيعتها أو عدم معرفته لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها . إنما نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب ، وبعض سنن الله في هذا الوجود .

ونحن نتصور طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو . . إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل ، أو الحاضر المحجوب . وأن ما نسميه ماضيا أو مستقبلا إنما يحجبه عنا عامل الزمان ، كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان . وأن حاسة ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان ، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صورة مبهمة ، ليست علما ولكنها استشفاف ، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس ، وفي الرؤى لبعضهم ، فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان ، أو هما معا في بعض الأحيان . وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئا عن حقيقة الزمان . كما أن حقيقة المكان ذاتها - وهي ما يسمى بالمادة - ليست معلومة لنا على وجه التحقيق : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) !

على أية حال لقد رأى يوسف رؤياه هذه ، وسنرى فيما بعد ما يكون تأويل الرؤيا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

وقوله : { وكذلك يجتبيك } الآية ، ف { يجتبيك } معناه : يختارك ويصطفيك ، ومنه : جبيت الماء في الحوض ، ومنه : جباية المال ، وقوله : { ويعلمك من تأويل الأحاديث }{[6563]} قال مجاهد والسدي : هي عبارة الرؤيا . وقال الحسن : هي عواقب الأمور . وقيل : هي عامة لذلك وغيره من المغيبات . وقوله : { ويتم نعمته } يريد النبوءة وما انضاف إليها من سائر النعم . وقوله : { آل يعقوب } يريد في هذا الموضع الأولاد والقرابة التي هي من نسله ، أي يجعل فيهم النبوءة ، ويروى أن ذلك إنما علمه يعقوب من دعوة إسحاق له حين تشبه له بعيصو - والقصة كاملة في كتاب النقاش لكني اختصرتها لأنه لم ينبل ألفاظها{[6564]} وما أظنه انتزعها إلا من كتب بني إسرائيل ، فإنها قصة مشهورة عندهم ، وباقي هذه الآية بيّن . و «النعمة » على يوسف كانت تخليصه من السجن وعصمته والملك الذي نال ؛ وعلى { إبراهيم } هي اتخاذه خليلاً ؛ وعلى { إسحاق } فديته بالذبح العظيم{[6565]} ، مضافاً ذلك كله إلى النبوءة . و { عليم حكيم } مناسبتان لهذا الوعد .


[6563]:يرى الزمخشري أن الأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة، وعارضه أبو حيان فقال: وليس باسم جمع كما ذكر، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس، كما قالوا: أباطل وأباطيل، ولم يـأت اسم جمع على هذا الوزن، وإذا كانوا يقولون في (عباديد) و (يناذير) إنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد فكيف لا يكون (أحاديث) و (أباطيل) جمعي تكسير؟. (البحر المحيط 5-281).
[6564]:لم يحسن اختيار الألفاظ ولم يحكمها، يقال: هو ينبل هذا الأمر بمعنى: يحكم معرفته، وهو ينبل الرسم أو التمثيل بمعنى يحسنه ويجيد القيام به، وأتاه أمر لم ينبل نبله بمعنى: لم يتخذ له عدته. (المعجم الوسيط).
[6565]:الثابت أن الذبيح هو إسماعيل، ونسبة الذبح وقصته إلى إسحق فرية يروج لها اليهود.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (6)

عطف هذا الكلام على تحذيره من قصّ الرؤيا على إخوته إعلاماً له بعلوّ قدره ومستقبل كماله ، كي يزيد تملياً من سموّ الأخلاق فيتسع صدره لاحتمال أذى إخوته ، وصفحاً عن غيرتهم منه وحسدهم إيّاه ليتمحّض تحذيره للصلاح ، وتنتفي عنه مفسدة إثارة البغضاء ونحوها ، حكمة نبويّة عظيمة وطبّاً روحانيّاً ناجعاً .

والإشارة في قوله : { وكذلك } إلى ما دلّت عليه الرؤيا من العِناية الربّانيّة به ، أي ومثل ذلك الاجتباء يجتبيك ربّك في المستقبل ، والتّشبيه هنا تشبيه تعليل لأنّه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتّحاد العلّة . وموقع الجار والمجرور موقع المفعول المطلق ل { يجتبيك } المبيّن لنوع الاجتباء ووجهه .

والاجتباء : الاختيار والاصطفاء . وتقدّم في قوله تعالى : { واجتبيناهم } في سورة الأنعام ( 87 ) ، أي اختياره من بين إخوته ، أو من بين كثير من خلقه . وقد علم يعقوب عليه السّلام ذلك بتعبير الرؤيا ودلالتها على رفعة شأنه في المستقبل فتلك إذا ضُمّت إلى ما هو عليه من الفضائل آلت إلى اجتباء الله إياه ، وذلك يؤذن بنبوءته . وإنّما علم يعقوب عليه السّلام أنّ رفعة يوسف عليه السّلام في مستقبله رفعة إلهية لأنّه عَلِمَ أن نعم الله تعالى متناسبة فلمّا كان ما ابتدأه به من النعم اجتباءً وكمالاً نفسيّاً تعيّن أن يكون ما يلحق بها ، من نوعها .

ثم إنّ ذلك الارتقاء النفساني الذي هو من الواردات الإلهية غايته أن يبلغ بصاحبه إلى النبوءة أو الحكمة فلذلك علم يعقوب عليه السّلام أنّ الله سيعلّم يوسف عليه السّلام من تأويل الأحاديث ، لأنّ مسَبّبَ الشيء مسبّب عن سَبب ذلك الشيء ، فتعليم التّأويل ناشىء عن التشبيه الذي تضمنه قوله : { وكذلك } ، ولأنّ اهتمام يوسف عليه السّلام برؤياه وعرضها على أبيه دلّ أباه على أنّ الله أودع في نفس يوسف عليه السّلام الاعتناء بتأويل الرؤيا وتعبيرها . وهذه آية عبرة بحال يعقوب عليه السّلام مع ابنه إذ أشعره بما توسّمه من عناية الله به ليزداد إقبالاً على الكمال بقوله : { ويتمّ نعمته عليك } .

والتّأويل : إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله . وتقدّم عند قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلاّ الله } [ سورة آل عمران : 7 ] .

والأحاديث : يصحّ أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث ، فتأويل الأحاديث : إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام . وهو المعنى بالحكمة ، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته ، ويصحّ أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدّث به ، فالتأويل : تعبير الرؤيا . سمّيت أحاديث لأنّ المرائيَ يتحدثُ بها الراؤون وعلى هذا المعنى حملها بعضُ المفسرين . واستدلوا بقوله في آخر القصة { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } [ سورة يوسف : 100 ] . ولعلّ كِلاَ المعنيين مراد بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح ، أو يكون اختيار هذا اللفظ إيجازاً معجزاً ، إذ يكون قد حكِي به كلام طويل صَدر من يعقوب عليه السّلام بلغته يعبّر عن تأويل الأشياء بجميع تلك المعاني .

وإتمام النعمة عليه هو إعطاؤه أفضل النعم وهي نعمة النبوءة ، أو هو ضميمة الملك إلى النبوءة والرسالة ، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي .

وعلم يعقوب عليه السّلام ذلك من دلالة الرؤيا على سجود الكواكب والنيريْن له ، وقد علم يعقوب عليه السّلام تأويل تلك بإخوته وأبويه أو زوج أبيه وهي خالة يوسف عليه السّلام ، وعلم من تمثيلهم في الرؤيا أنّهم حين يسجدون له يَكون أخوته قد نالوا النبوءة ، وبذلك علم أيضاً أنّ الله يتمّ نعمته على إخوته وعلى زوج يعقوب عليه السّلام بالصديقية إذا كانت زوجة نبيء . فالمراد من آل يعقوب خاصتهم وهم أنباؤه وزوجه ، وإن كان المراد بإتمام النعمة ليوسف عليه السّلام إعطاءُ الملك فإتمامها على آل يعقوب هو أن زادهم على ما أعطاهم من الفضل نعمة قرابة المَلِك ، فيصح حينئذٍ أنْ يكون المراد من آله جميع قرابته .

والتّشبيه في قوله : كما أتمها على أبويك من قبل } تذكير له بنعم سابقة ، وليس ممّا دلت عليه الرؤيا . ثم إن كان المراد من إتمام النعمة النبوءة فالتّشبيه تام ، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فالتشبيه في إتمام النعمة على الإطلاق .

وجعل إبراهيم وإسحاق عليهما السّلام أبوين له لأنّ لهما ولادة عليه ، فهما أبواه الأعليان بقرينة المقام كقول النبي صلى الله عليه وسلم « أنا ابنُ عبد المطّلب » .

وجملة { إنّ ربّك عليم حكيم } تذييل بتمجيد هذه النعم ، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته ، فعلمه هو علمه بالنفوس الصالحة لهذه الفضائل ، لأنّه خلقها لقبول ذلك فعلمه بها سابق ، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة .

وتصدير الجملة ب { إنّ } للاهتمام لا للتّأكيد إذْ لاَ يشك يوسف عليه السّلام في علم الله وحكمته . والاهتمام ذريعة إلى إفادة التعليل . والتفريع في ذلك تعريض بالثناء على يوسف عليه السّلام وتأهّله لمثل تلك الفضائل .