{ 7 - 8 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا }
يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عمومًا ، ومن أولي العزم -وهم ، هؤلاء الخمسة المذكورون- خصوصًا ، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد ، على القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله ، وأن هذا سبيل ، قد مشى الأنبياء المتقدمون ، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم ، محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأمر الناس بالاقتداء بهم .
ثم ذكر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بالعهد الذى أخذه عليه وعلى الأنبياء من قبله ، فقال - تعالى - : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين . . . عَذَاباً أَلِيماً } .
والميثاق : العهد الموثق المؤكد ، مأخوذ من لفظ وثق ، المتضمن معنى الشد والربط على الشئ بقوة وإحكام .
أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن أخذنا من جميع النبيين العهد الوثيق ، على أن يبلغوا ما أوحيناه إليهم من هداياتا للناس ، وعلى أن يأمروهم بإخلاص العبادة لنا ، وعلى أن يصدق بعضهم بعضا فى أصول الشرائع ومكارم الأخلاق . . كما أخذنا هذا العهد الوثيق منك ، ومن أنبيائنا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم .
وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر ، للتنويه بفضلهم ، فهم وألو العزم من الرسل ، وهم الذين تحلموا فى سبيل إعلاء كلمة الله - تعالى - أكثر ما تحمل غيرهم .
وقدم صلى الله عليه وسلم فى قوله { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } لمزيد فضله صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء .
قال الآلوسى : ولا يضر تقديم نوح - عليه السلام - فى سورة الشورى ، أعنى قوله - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } إذ للك مقام مقال . والمقام فى سورة الشورى وصف دين الإِسلام بالأصالة . والمناسب فيه تقديم نوح ، فكأنه قيل : شرع لكم الدين الأصيل الذى بعث عليه نوح فى العهد القديم ، وبعث عليه محمد صلى الله عليه وسلم فى العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء .
وقوله - سبحانه - : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } معطوف على ما قبله وهو { أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ } ، لإِفادة تفخيم شأن هذا الميثاق المأخوذ على الأنبياء ، وبيان أنه عهد فى أقصى درجات الأهمية والشدة .
أى : وأخذنا من هؤلاء الأنبياء عهدا عظيم الشأن ، بالغ الخطورة ، رفيع المقدار .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فماذا أراد بالميثاق الغليظ ؟
قلت : أراد به ذلك الميثاق بعينه . إذ المعنى : وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا .
والغلظ استعارة فى وصف الأجرام . : والمراد : عظم الميثاق وجلالة شأنه فى بابه .
وقيل : المراد بالميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء بما حملوا .
وبمناسبة ما سطر في كتاب الله ، وما سبقت به مشيئته ، ليكون هو الناموس الباقي ، والمنهج المطرد ، يشير إلى ميثاق الله مع النبيين عامة ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأولي العزم من الرسل خاصة ، في حمل أمانة هذا المنهج ، والاستقامة عليه ، وتبليغه للناس ، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها ؛ وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم ، بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه :
( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ؛ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا . ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما ) . .
إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح - عليه السلام - إلى خاتم النبيين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ميثاق واحد ، ومنهج واحد ، وأمانة واحدة يتسلمها كل منهم حتى يسلمها .
وقد عمم النص أولا : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) . . ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين : ( ومنك ) . . ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل ، وهم أصحاب أكبر الرسالات -
وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه : ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) . . ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق - وهو الحبل المفتول - الذي استعير للعهد والرابطة . وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر . . وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده ، ليتلقوا وحيه ، ويبلغوا عنه ، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة .
{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } مقدر باذكر وميثاقهم عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم . { ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيما له وتكريما لشأنه . { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } عظيم الشأن أو مؤكدا باليمين ، والتكرير لبيان هذا الوصف تعظيما له .
عطف على قوله { يا أيها النبي اتق الله ولا تُطِع الكافرين والمنافقين } إلى قوله : { وكفى بالله وكيلاً } [ الأحزاب : 1 3 ] فلذلك تضمن الأمر بإقامة الدين على ما أراده الله تعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى نبذ سنن الكافرين الصرحاء والمنافقين من أحكام الهوى والأوهام .
فلما ذكر ذلك وعقب بمثل ثلاثة من أحكام جاهليتهم الضالة بما طال من الكلام إلى هنا ثُني عنان الكلام إلى الإعلام بأن الذي أمره الله به هو من عهود أخذها الله على النبيئين والمرسلين من أول عهود الشرائع . وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله : { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } [ الأحزاب : 6 ] . وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يُحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيئين ، فعُلم أن المعنى : وإذا أخذنا من النبيئين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به . وقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } [ الأحزاب : 1 ] { ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً } فلما أمر النبي بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين ، أُعلم بأن ذلك شأن النبيئين من قبله ، ولذلك عطف قوله { ومنك } عقب ذكر النبيئين تنبيهاً على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة ، فهذه الآية لها معنى التذييل لآية { يأيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة .
وقوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } الآيتين لهما موقع المقدمة لقصة الأحزاب لأن مما أخذ الله عليه ميثاق النبيئين أن ينصروا الدين الذي يرسله الله به ، وأن ينصروا دين الإسلام ، قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لَمَا ءاتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لَتُؤْمِنُنَّ به ولتنصرُنّه } [ آل عمران : 81 ] فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالنصرة لدينه بمن معه من المسلمين لقوله في هذه الآية : { ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً } وقال في الآية الآتية في الثناء على المؤمنين الذين صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه { ليجزي الله الصادقين بِصدْقِهم ويعذِّب المنافقين } الآية [ الأحزاب : 24 ] .
وقد جاء قوله : { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم } جارياً على أسلوب ابتداء كثير من قصص القرآن في افتتاحها ب { إذْ } على إضمار ( اذكر ) . و { إذْ } اسم للزمان مجرد عن معنى الظرفية . فالتقدير : واذكر وقتاً ، وبإضافة { إذ } إلى الجملة بعده يكون المعنى : اذكر وقتَ أخذِنا ميثاقاً على النبيئين . وهذا الميثاق مجمل هنا بينته آيات كثيرة . وجُماعها أن يقولوا الحق ويبلِّغوا ما أمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين ، ولا خشية منهم ، ولا مجاراة للأهواء ، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم .
وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر . ولما احتوت عليه هذه السورة من الأغراض مزيد التأثر بهذا الميثاق بالنسبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وشديد المشابهة بما أخذ من المواثيق على الرسل من قبله . ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى هنا : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] وقوله في ميثاق أهل الكتاب { ألَمْ يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } في سورة الأعراف ( 169 ) .
وفي تعقيب أمر الرسول بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين والتثبيت على اتّباع ما يوحى إليه ، وأمره بالتوكل على الله ، وجعلها قبل قوله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } [ الأحزاب : 9 ] الخ . . إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إذ ردّ عنهم أحزاب الكفار والمنافقين بغيظهم لم ينالوا خيراً ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الذي أخذه الله على رسوله حين بعثه .
والميثاق : اسم العهد وتحقيق الوعد ، وهو مشتق من وثق ، إذا أيقن وتحقق ، فهو منقول من اسم آلة مجازاً غلب على المصدر ، وتقدم في قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } في سورة البقرة ( 27 ) . وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيئين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما أُلزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به . ويضاف أيضاً إلى ضمير الجلالة في قوله { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به } [ المائدة : 7 ] .
وقوله { ومنك ومن نوح } الخ هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل ، وقد ذُكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم ، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود . ولهذه النكتة خص ضمير النبي بإدخال حرف ( من ) عليه بخصوصه ، ثم أدخل حرف ( مِن ) على مجموع الباقين فكان قد خصّ باهتمامين : اهتمام التقديم ، واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم عليهم السلام .
وسيجيء أن ما في سورة الشورى من تقديم { ما وصَّى به نوحاً على والذي أوحينا إليك } [ الشورى : 13 ] طريق آخر هو آثر بالغرض الذي في تلك السورة من قوله تعالى : { شَرَع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم } الآية [ الشورى : 13 ] .
وجملة { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } أعادت مضمون جملة { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم } لزيادة تأكيدها ، وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ ، أي : عظيماً جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظَمٌ فلما وصف هذا ب { غليظاً } أفاد أن له عظماً خاصاً ، وليعلّق به لام التعليل من قوله { لِيَسْأل الصادقين } .
وحقيقة الغليظ : القويّ المتين الخلق ، قال تعالى : { فاستغلظ فاستوى على سوقه } [ الفتح : 29 ] . واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنُه في صفات جنسه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك} يا محمد {ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} فكان النبي صلى الله عليه وسلم أولهم في الميثاق وآخرهم في البعث، وذلك أن الله تبارك وتعالى خلق آدم، عليه السلام، وأخرج منه ذريته، فأخذ على ذريته من النبيين أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن يدعوا الناس إلى عبادة الله عز وجل، وأن يصدق بعضهم بعضا، وأن ينصحوا لقومهم، فذلك قوله عز وجل: {وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} الذي أخذ عليهم، فكل نبي بعثه الله عز وجل صدق من كان قبله، ومن كان بعده من الأنبياء، عليهم السلام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كان ذلك في الكتاب مسطورا، إذ كتبنا كلّ ما هو كائن في الكتاب، "وَإذْ أخَذْنا مِنَ النّبِيّينَ مِيثاقَهُمْ "كان ذلك أيضا في الكتاب مسطورا، ويعني بالميثاق: العهد...
"وَمِنْكَ يا محمد وَمِنْ نُوحِ وإبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ، وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِيظا" يقول: وأخذنا من جميعهم عهدا مؤكدا أن يصدّق بعضهم بعضا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: خص هؤلاء لأن أهل الشرع من الرسل، هم هؤلاء كقوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الآية: [الشورى: 13]. لكنه قد ذكر في آية أخرى ما يدل أن غير هؤلاء كان لهم أيضا شرع كقوله: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} الآية [النساء: 163].
وجائز أن يكون تخصيص هؤلاء بأخذ الميثاق لأنهم هم أولو العزم من الرسل حين قال: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] أو أن يكون لا على التخصيص لمن ذكر، ولكن على إرادة الكل.
ثم اختلف في أخذ الميثاق: قال بعضهم: أخذ ميثاقهم على أن يبشر بعضهم ببعض، يبشر نوح بإبراهيم، وإبراهيم بموسى، وموسى بعيسى، وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وجائز أن يكون ما ذكر من أخذ الميثاق منهم لما ذكر على إثره {ليسأل الصادقين عن صدقهم} أخذ منهم الميثاق في تبليغ الرسالة إلى قومهم ليسألهم عن صدقهم أنهم قد بلغوا.
{وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} لأن تبليغ الرسالة على الفراعنة منهم وأعداء الله صعب شديدة مخاطره فيه هلاك النفس وفوات الروح، وهو ما قال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الآية: [المائدة: 67].
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ} على الوفاء بما حُمّلوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقالت فرقة بل أشار إلى أخذ الميثاق على كل واحد منهم عند بعثه وإلى إلقاء الرسالة إليه وأوامرها ومعتقداتها،وكرر «أخذ الميثاق» لمكان الصفة التي وصف بها. قوله {غليظاً} إشعار بحرمة هذا الميثاق وقوتها.
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: {يا أيها النبي اتق الله} وأكده بالحكاية التي خشي فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحدا غيره وبين أنه لم يرتكب أمرا يوجب الخشية بقوله: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} أكده بوجه آخر وقال: {وإذ أخذنا من النبيين} كأنه قال اتق الله ولا تخف أحدا واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع. وفيه مسائل:
المسألة الثانية: خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة، فذكرهما احتجاجا على قومهما، وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها، ونوحا لأنه كان أصلا ثانيا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان، وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد، ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوح فكان مخلوقا للنبوة، وأرسل للإنذار، ولهذا أهلك قومه وأغرقوا.
المسألة الثالثة: في كثير من المواضع يقول الله: {عيسى ابن مريم} {والمسيح ابن مريم} إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به.
{وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى: {ولنسألن المرسلين} وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولا وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق، فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظا للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ويحتمل أن يكون هذا تعظيما في قطع الولاية بين المسلمين والكافرين، أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع، أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أي كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة، والهجرة سبب متأكد في الديانة، ثم توارثوا بالقرابة مع الإيمان وهو سبب وكيد، فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم المواثيق، فلا تداهنوا في الدين، ونظيره:"شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا" إلى قوله "ولا تتفرقوا فيه "[الشورى: 13]. ومن ترك التفرق في الدين ترك موالاة الكفار.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وقدم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيما له وتكريما لشأنه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة ما سطر في كتاب الله، وما سبقت به مشيئته، ليكون هو الناموس الباقي، والمنهج المطرد، يشير إلى ميثاق الله مع النبيين عامة، والنبي [صلى الله عليه وسلم] وأولي العزم من الرسل خاصة، في حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه، وتبليغه للناس، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها؛ وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم، بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه:
(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم؛ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا. ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعد للكافرين عذابا أليما)..
إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح -عليه السلام- إلى خاتم النبيين محمد [صلى الله عليه وسلم] ميثاق واحد، ومنهج واحد، وأمانة واحدة يتسلمها كل منهم حتى يسلمها.
وقد عمم النص أولا: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم).. ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين: (ومنك).. ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل، وهم أصحاب أكبر الرسالات -
وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه: (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا).. ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق -وهو الحبل المفتول- الذي استعير للعهد والرابطة. وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر.. وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده، ليتلقوا وحيه، ويبلغوا عنه، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} أعادت مضمون جملة {وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم} لزيادة تأكيدها، وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ، أي: عظيماً جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظَمٌ فلما وصف هذا ب {غليظاً} أفاد أن له عظماً خاصاً، وليعلّق به لام التعليل من قوله {لِيَسْأل الصادقين}. وحقيقة الغليظ: القويّ المتين الخلق، قال تعالى: {فاستغلظ فاستوى على سوقه} [الفتح: 29] واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنُه في صفات جنسه.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وليثبت الحق سبحانه وتعالى فؤاد خاتم أنبيائه ورسله على الحق المبين، حتى يقف في وجه الكافرين والمنافقين، ويتحمل كل عناء في سبيل تربية أصحابه المؤمنين، وتبليغ رسالته إلى العالمين، ذكره كتاب الله بالميثاق الذي أخذه عليه وعلى كافة الأنبياء في هذا الصدد، مؤكدا أن ذلك الميثاق (ميثاق غليظ)، لجسامة أمره، وجلالة شأنه.
يلاحظ في هذه الآية البدء بذكر خاتم الأنبياء قبل نوح: {ومنك ومن نوح}، ثم ذكر بقية أولي العزم من مشاهير الرسل -حسب تسلسلهم التاريخي قبل الرسالة المحمدية -لأنه هو وارثهم وممثلهم، وخاتمهم الذي أرسله الله إلى الناس جميعا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الميثاق المذكور كان ميثاقاً عامّاً أُخذ من جميع الأنبياء، وإن كان اُولو العزم متعهّدين بذلك الميثاق، ومسؤولين عنه بصورة أشدّ. ذلك الميثاق الذي بُيّن بتأكيد شديد جدّاً بجملة: (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) المهمّ أن نعلم أيّ ميثاق هذا الذي أخذ من كلّ الأنبياء؟! للمفسّرين هنا أقوال مختلفة يمكن القول أنّها جميعاً فروع مختلفة لأصل واحد، وهو تأدية مسؤولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كلّ الأبعاد والمجالات.
والخلاصة: أن تكون الدعوة إلى جهة واحدة، وأن يبلغ الجميع حقيقة واحدة، ويوحّدوا الأمم تحت راية واحدة.