{ 17 } { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }
شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح ، بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح ، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد ، بما في المطر من النفع العام الضروري ، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول ، فواد كبير يسع ماء كثيرا ، كقلب كبير يسع علما كثيرا ، وواد صغير يأخذ ماء قليلا ، كقلب صغير ، يسع علما قليلا ، وهكذا .
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها ، بالزبد الذي يعلو الماء ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة .
كذلك الشبهات والشهوات لا يزال القلب يكرهها ، ويجاهدها بالبراهين الصادقة ، والإرادات الجازمة ، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره ، والرغبة فيه ، فالباطل يذهب ويمحقه الحق { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } وقال هنا : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال .
ثم ضرب - سبحانه - مثلين للحق هما الماء الصافى والجوهر النقى للذين ينتفع بهما ، ومثلين للباطل هما زبد الماء وزبد الجوهر اللذان لا نفع فيهما فقال - تعالى - { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } .
والأودية : جمع واد وهو الموضع المتسع الممتد من الأرض الذي يسيل فيه الماء بكثرة ، .
والسيل : الماء الجارى في تلك الأودية .
والزبد : هو الغثاء الذي يعلو على وجه الماء عند اشتداد حركته واضطرابه أو ما يعلو القدر عند الغليان ويسمى بالرغوة والوضر والخبث لعدم فائدته ، ورابيا : من الربو بمعنى العلو والارتفاع .
والمعنى : أنزل الله - تعالى - من السماء ماء كثيرا . ومطرا مدارا ، فسالت أودية بقدرها ، أى : فسالت المياه في الأدوية بسبب هذا الإِنزال ، بمقدارها الذي حدده الله - تعالى - واقتضته حكمته في نفع الناس .
أو بمقدارها قلة وكثرة ، بحسب صغر الأودية وكبرها ، واتساعها وضيقها { فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } أى فحمل الماء السائل في الأدوية بكثرة وقوة ، غثاء عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا عليه ، لا نفع فيه ولا فائدة منه .
وإلى هنا يكون قد انتهى المثل الأول ، حيث شبه - سبحانه - الحق وأهله في الثبات والنفع بالماء الصافى الذي ينزل من السماء فتمتلئ به الأودية ويبقى محل انتفاع الناس به إلى الوقت المحدد في علم الله - تعالى - .
وشبه الباطل وشيعته في الاضمحلال وعدم النفع ، بزبد السيل المنتفخ المرتفع فوق سطح الماء ، فإنه مهما علا وارتفع فإنه سرعان ما يضمحل ويفنى وينسلخ عن المنفعة والفائدة .
ثم ابتدأ - سبحانه - في ضرب المثل الثانى فقال : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ } .
و { من } في قوله { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } لا بتداء الغاية ، وما موصولة ، ويوقدون من الإيقاد وهو جعل الحطب وما يشبهه في النار ليزيد اشتعالها .
والجملة في محل رفع خبر مقدم ، وقوله " زبد " مبتدأ مؤخر .
والحلية : ما يتحلى به الإِنسان من الذهب والفضة وغيرهما .
والمتاع : ما يتمتع به في حياته من الأوانى والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وأشباههما .
والضمير في قوله { مثله } يعود إلى الزبد في قوله - تعالى - { زَبَداً رَّابِياً } .
وقد قرأ حمزة والكسائى وحفص { يوقدون } وقرأ الباقون توقدون بالتاء .
والضمير للناس ، واضمر مع عدم سبق ذكره لظهوره .
والمعنى : وشبيه بالمثل السابق في خروج الزبد والخبث وطرحه بعيدا عن الأشياء النافعة ، ما توقدون عليه النار من والمعادن والجواهر ، لكى تستخرجوا منها ما ينفعكم من الحلى والأمتعة المتنوعة ، فإنكم في مثل هذه الحالة ، تبقون على النقى النافع منها ، وتطرحون الزبد والخبث الذي يلفظه الكير ، والذى هو مثل زبد السيل في عدم النفع .
فقد شبه - سبحانه - في هذا المثل الثانى الحق وأهله في البقاء والنفع بالمعادن النافعة الباقية ، وشبه الباطل وحزبه في الفناء وعدم النفع بخبث الحديد الذي يطرحه كير الحداد ، ويهمله الناس .
ثم بين - سبحانه - المقصود من ضرب هذه الأمثال فقال : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } .
أى : مثل ذلك البيان البديع ، يضرب الله الأمثلة للحق وللباطل إذا اجتمعنا بأن يبين بأنه لاثبات للباطل - مهما علا وانتفخ - مع وجود الحق ، كما انه لاثبات للزبد مع الماء الصافى ، ولا مع المعادن النقية .
والكلام على حذف مضاف والتقدير : يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل .
وسر الحذف : الإِنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به ، حتى لكأن المثل المضروب هو عين وعين الباطل .
ثم شرع - سبحانه - في تقسيم المثل فقال : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض }
أى : فأما الزبد الذي لفظه السيل والحديد فيذهب { جفاء } مرميا به ، مطروحا بعيدا ، لأنه لا نفع فيه .
يقال : جفأ الماء بالزبد ، إذا قذفه ورمى به ، وجفأت الريح الغيم ، إذا مزقته وفرقته ، والجفاء بمعنى الغثاء .
وأما ما ينفع الناس من الماء الصافى ، والمعدن النقى الخالى من الخبث { فَيَمْكُثُ فِي الأرض } أى فيبقى فيها لينتفع الناس به .
وبدأ - سبحانه - بالزبد في البيان فقال { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ } مع أنه متأخر في الكلام السابق لأن الزبد هو الظاهر المنظور أولا لأعين الناس ، أما الجوهر فهو مستتر خلفه لأنه هو الباقى النافع .
أو لأنه جرت العادة في التقسيم أن يبدأ بالمتأخر كما في قوله - تعالى - { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } وقوله { كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } تفخيم لشأن هذا التمثيل الذي اشتملت عليه الآية الكريمة .
أى : مثل ذلك البيان البديع الذي اشتملت عليه الآية الكريمة يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ، فيحملهم هذا التفكير على الإِيمان الحق ، وحسن التمييز بين الخير والشر ، والمعروف والمنكر ، والحق والباطل .
قال الإِمام الشوكانى : " هذان مثلان ضربهما الله - تعالى - في هذه الآية للحق وللباطل يقول : إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله - تعالى - سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله .
كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ، وكخبث هذه الأجسام ، فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل .
وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعى فيمكث في الأرض ، وكذلك الصافى من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه ، وهو مثل الحق .
وقال الزجاج : فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإِيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شئ ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا لها .
ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينفع به "
ثم نمضي مع السياق . يضرب مثلا للحق والباطل . للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح . للخير الهاديء والشر المتنفج . والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار . ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء . وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق .
( أنزل من السماء ماء ، فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل السيل زبدا رابيا : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله . كذلك يضرب ا لله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال ) . .
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ؛ ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام ، الذي تجري في وجوه قضايا السورة وموضوعاتها . وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار . . وأن تسيل هذه الأودية بقدرها ، كل بحسبه ، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء . . وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة . . وليس هذا أو ذاك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه .
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية ، وهو يلم في طريقه غثاء ، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . . ولكنه بعد غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هاديء . . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . . كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة ، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص ، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث ، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه . والحق يظل هادئا ساكنا . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ، ينفع الناس . ( كذلك يضرب الله الأمثال ) وكذلك يقرر مصائر الدعوات ، ومصائر الاعتقادات . ومصائر الأعمال والأقوال . وهو الله الواحد القهار ، المدبر للكون والحياة ، العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل .
{ أنزل من السماء ماء } من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها . { فسالت أودية } أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه ، واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع . { بقدرها } بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر والكبر . { فاحتمل السيل زبداً } رفعه والزبد وضر الغليان . { رابيا } عاليا . { ومما يوقدون عليه في النار } يعم الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهارا لكبريائه . { ابتغاء حليةٍ } أي طلب حلى . { أو متاعٍ } كالأواني وآلات الحرب والحرث ، والمقصود من ذلك بيان منافعها . { زبدٌ مثله } أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه ، و{ من } للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعمل به . { كذلك يضرب الله الحق والباطل } مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار ، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلى واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة ، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين ذلك بقوله : { فأما الزّبد فيذهب جُفاءً } يجفأ به أي يرمي به السيل والفلز المذاب وانتصابه على الحال وقرئ جفالا والمعنى واحد . { وأما ما ينفع الناس } كالماء وخلاصة الفلز . { فيمكث في الأرض } ينتفع به أهلها . { كذلك يضرب الله الأمثال } لإيضاح المشتبهات .
صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به .
وقوله : { أنزل من السماء ماء } يريد به المطر ، و «الأودية » ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق ، وقوله : { بقدرها } يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء ، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحتمله على قدر صغرها وكبرها .
وقرأ جمهور الناس : «بقدَرها » بفتح الدال ، وقرأ الأشهب العقيلي : «بقدْرها » بسكون الدال .
و «الزبد » ما يحمله السيل من غثاء ونحوه وما يرمي به ضفتيه من الجباب الملتبك{[6951]} به ، ومنه قول حسان بن ثابت :
ما البحر حينَ تهبُّ الريحُ شاميةً . . . فيغطئلُّ ويرمي العبر بالزبد{[6952]}
و «الرابي » : المنتفخ الذي قد ربا ، ومنه الربوة .
وقوله : { ومما } خبر ابتداء ، والابتداء قوله : { زبد } ، و { مثله } نعت ل { زبد } .
والمعنى : ومن الأشياء التي { توقدون } عليها ابتغاء الحلي وهي الذهب والفضة ، ابتغاء الاستمتاع بما في المرافق ، وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي { توقدون } عليها ، فأخبر تعالى أن من هذه إذا أحمي عليها يكون { زبد } مماثل للزبد الذي حمله السيل ، ثم ضرب تعالى ذلك مثالاً ل { الحق والباطل } أي أن الماء الذي تشربه الأرض من السيل فيقع النفع به هو «كالحق » - و { الزبد } الذي يجمد وينفش{[6953]} ويذهب هو كالباطل ، وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوها هو كالحق ، وما يذهب في الدخان هو كالباطل .
وقوله : { في النار } متعلق بمحذوف تقديره : كائناً أو ثابتاً - كذا قال مكي وغيره - ومنعوا أن يتعلق بقوله : { توقدون } لأنهم زعموا : ليس يوقد على شيء إلا وهو { في النار } وتعليق حرف الجر ب { توقدون } يتضمن تخصيص حال من حال أخرى{[6954]} . وذهب أبو علي الفارسي إلى تعلقها ب { توقدون } وقال : قد يوقد على شيء وليس في النار كقوله تعالى : { فأوقد لي يا هامان على الطين }{[6955]} [ القصص : 38 ] فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه وليس في النار لكن يصيبه لهبها .
وقوله : { جفاء } مصدر من قولهم : أجفأت القدر إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب .
وقرأ رؤبة : «جفالاً » من قولهم : جفلت الريح السحاب ، إذا حملته وفرقته . قال أبو حاتم : لا تعتبر قراءة الأعراب{[6956]} في القرآن .
وقوله : { ما ينفع الناس } يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم - في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحسن : «توقدون » بالتاء ، أي أنتم أيها الموقدون ، وهي صفة لجميع أنواع الناس ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن محيصن ومجاهد وطلحة ويحيى وأهل الكوفة : «يوقدون » بالياء ، على الإشارة إلى الناس ، و { جفاء } مصدر في موضع الحال .
قال القاضي أبو محمد : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء } يريد به الشرع والدين . وقوله : { فسالت أودية } : يريد به القلوب ، أي أخذ النبيل بحظه . والبليد بحظه{[6957]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يصح - والله أعلم - عن ابن عباس ، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق ، ولا وجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب لغير علة تدعو إلى ذلك ، والله الموفق للصواب برحمته ، وإن صح هذا القول عن ابن عباس فإنما قصد أن قوله تعالى : { كذلك يضرب الله الحق والباطل } معناه : { الحق } الذي يتقرر في القلوب المهدية ، { والباطل } : الذي يعتريها{[6958]} أيضاً من وساوس وشبه حين تنظر في كتاب الله عز وجل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب الله تعالى مثل الكفر والإيمان، ومثل الحق والباطل، فقال: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها}، وهذا مثل القرآن الذي علمه المؤمنون، وتركه الكفار، فسال الوادي الكبير على قدر كبره، منهم من حمل منهم كبيرا، والوادي الصغير على قدره، {فاحتمل السيل} يعني سيل الماء، {زبدا رابيا}، يعني عاليا، {ومما يوقدون عليه في النار} أيضا، {ابتغاء حلية}، يعني الذهب والفضة. ثم قال: {أو متاع}، يعني المشبه، والصفر، والحديد، والرصاص، له أيضا {زبد مثله}، فالسيل له زبد لا ينتفع به، والحلي والمتاع له أيضا زبد، إذا أدخل النار أخرج خبثه، ولا ينتفع به، والذهب والفضة والمتاع ينتفع به، ومثل الماء مثل القرآن، وهو الحق، ومثل الأودية مثل القلوب، ومثل السيل مثل الأهواء، فمثل الماء والحلى والمتاع الذي ينتفع به مثل الحق الذي في القرآن، ومثل زبد الماء، وخبث المتاع الذي لا ينتفع به مثل الباطل، فكما ينتفع بالماء، وما خلص من الحلى والمتاع الذي ينتفع به أهله في الدنيا، فكذلك الحق ينتفع به أهله في الآخرة، وكما لا ينتفع بالزبد وخبث الحلى والمتاع أهله في الدنيا، فكذلك الباطل لا ينتفع أهله في الآخرة. {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء}، يعني يابسا لا ينتفع به الناس كما ينتفع بالسيل، {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}، فيستقون ويزرعون عليه وينتفعون به.
يقول: {كذلك يضرب الله الأمثال}، يعني الأشباه، فهذه الثلاثة الأمثال ضربها الله في مثل واحد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا مثل ضربه الله للحقّ والباطل والإيمان به والكفر، يقول تعالى ذكره: مثل الحقّ في ثباته والباطل في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض "فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها "يقول: فاحتملته الأودية بملئها الكبير بكبره والصغير بصغره، "فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رَابيا" يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء زَبدا عاليا فوق السيل. فهذا أحد مَثَلي الحقّ والباطل، فالحقّ هو الماء الباقي الذي أنزله الله من السماء، والزّبَد الذي لا ينتفع به هو الباطل. والمثل الآخر: "وَمِمّا يُوقدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتغاءَ حلْيَةٍ" يقول جلّ ثناؤه: ومثل آخر للحقّ والباطل، مثل فضة أو ذهب يُوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع، وذلك من النحاس والرصاص والحديد، يوقَد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به "زَبَدٌ مِثْلُهُ" يقول تعالى ذكره: ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زَبَد مثله، بمعنى: مثل زَبَد السيل لا ينتفع به ويذهب باطلاً، كما لا ينتفع بزبد السيل ويذهب باطلاً. ورفع «الزبد» بقوله: "ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ" ومعنى الكلام: ومما يوقدون عليه في النار زبد مثل زبد السيل في بطول زبده، وبقاء خالص الذهب والفضة. يقول الله تعالى: "كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقّ والباطلَ" يقول: كما مثل الله الإيمان والكفر في بطول الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة، كذلك يمثل الله الحقّ والباطل.
"فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً" يقول: فأما الزبد الذي علا السيل، والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها، فيذهب بدفع الرياح وقدف الماء به وتعلقه بالأشجار وجوانب الوادي. "وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ" من الماء والذهب والفضة والرصاص والنحاس، فالماء يمكث في الأرض فتشربه، والذهب والفضة تمكث للناس. "كذلكَ يَضْرِبُ اللّهَ الأمْثالَ" يقول: كما مثل هذا المثل للإيمان والكفر، كذلك يمثل الأمثال...
عن ابن عباس، قوله: "أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها" فهذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشكّ فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: "فأمّا الزّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً" وهو الشكّ، "وأمّا ما ينفعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ" وهو اليقين، كما يجعل الحليّ في النار، فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشكّ... فجعل ذلك مثل العمل الصالح يبقى لأهله، والعمل السيئ يضمحلّ عن أهله، كما يذهب هذا الزبد، فكذلك الهدى والحقّ جاء من عند الله، فمن عمل بالحقّ كان له وبقي كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يجعل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتؤكل خبثه، فيخرج جيده فينتفع به، فكذلك يضمحلّ الباطل إذا كان يوم القيامة وأقيم الناس، وعرضت الأعمال، فيريغ الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحقّ بالحقّ...
قال ابن جريج: قوله: "فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً" قال: جُمودا في الأرض... عن مجاهد... في قوله: "فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها" قال: بملئها...
هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد، يقول: كما اضمحلّ هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته، كذلك يضمحلّ الباطل عن أهله كما اضمحلّ هذا الزبد، وكما مكث هذا الماء في الأرض، فأمرعت هذه الأرض، وأخرجت نباتها، كذلك يبقى الحقّ لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض، فأخرج الله به ما أخرج من النبات. قوله: "ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ..."، كما يبقى خالص الذهب والفضة، حين أدخل النار وذهب خَبَثه، كذلك يبقى الحقّ لأهله. قوله: أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول: هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به، فيه منافع: يقول: كما يبقى خالص هذا الحديد وهذا الصفر حين أدخل النار وذهب خبثه، كذلك يبقى الحقّ لأهله كما بقي خالصهما...
"فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رَابيا" يقول: عظيما، وحيث استقرّ الماء يذهب الزبد جُفاء فتطير به الريح، فلا يكون شيئا، ويبقى صريح الماء الذي ينفع الناس منه شرابهم ونباتهم ومنفعتهم...
قال ابن عباس: "أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها" قال: الصغير بصغره، والكبير بكبره...
وعنى بقوله "رَابِيا": عاليا منتفخا...
وأما الجُفاء فإني: حُدثت عن أبي عبيدة مَعْمَرِ بن المُثَنّى، قال: قال أبو عمرو بن العلاء، يقال: قد أجفأتِ القِدرُ، وذلك إذا غَلَتْ فانصبّ زَبَدُها، أو سكنت فلا يبقى منه شيء.
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: "فَيَذْهَبُ جُفاءً" تَنْشفُه الأرض، وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى في معنى نَشِف، وانجفى الوادي: إذا جاء بذلك الغثاء، وغثى الوادي فهو يَغْثَى غَثْيا وغَثَيانا. وذَكَر عن العرب أنها تقول: جَفَأْتُ القدَر أجْفَؤها: إذا أخرجت جُفاءَها، وهو الزّبَد الذي يعلوها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا مثل ضربه الله لليقين والشك، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع منه عمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله؛ وهو قوله: (فأما الزبد فيذهب جفاء) وهو الشك (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) وهو اليقين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذه الآية تشتمل على أمثالٍ ضربها اللَّهُ لتشبيه القرآنِ المُنَزَّلِ بالماءِ المُنَزَّلِ من السماء، وشبَّه القلوب بالأودية، وشبَّه وساوسَ الشيطان وهواجسَ النَّفْس بالزَّبِّدِ الذي يعلو الماء، وشبَّه الخُلُق بالجواهر الصافية من الخَبَثِ كالذهب والفضة والنحاس وغيرها. وشبَّه الباطلَ بِخَبَثِ هذه الجواهر. وكما أن الأودية مختلفة في صغرها وكبرها وأن بقدرها تحتمل الماء في القلة والكثرة -كذلك القلوبُ تختلف في الاحتمال على حسب الضعف والقوة. وكما أَن السيلَ إذا حَصَلَ في الوادي يُطَهِّرُ الوادي فكذلك القرآن إذا حصل حِفْظُه في القلوب نَفَى الوساوسَ والهوى في الوادي عنها، وكما أَنَّ الماءَ قد يصحبه ما يكدره، يخلص بعضه مما يشوبه- فكذلك الإيمان وفَهمْ القرآن في قلوب المؤمنين حين تخلص من نَزَعاتِ الشيطان ومن الخواطر الرَّدِيَّة، فالقلوب بين صافٍ وكَدِرٍ. وكما أنَّ الجواهَر التي تتخذ منها الأواني إذا أذيبت خَلَصتْ من الخَبَثِ كذلك الحق يتميز من الباطل، ويبقى الحقُّ ويضمحل الباطل. ويقال إن الأنوار إذا تلألأت في القلوب نَفَت آثار الكلفة، ونور اليقين ينفي ظلمة الشك، والعلم ينفي تهمة الجهل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفي به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب.
فإن قلت: لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض.
فإن قلت: فما معنى قوله: {بِقَدَرِهَا}؟ قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. ألا ترى إلى قوله: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} لأنه ضرب المطر مثلا للحق، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف.
فإن قلت: فما فائدة قوله: {ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع}؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله: {بِقَدَرِهَا} لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} لأنّ المعنى: وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب، وهو الحلية والمتاع. وقوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع} عبارة جامعة لأنواع الفلز، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر {أوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 38] و «من» لابتداء الغاية. أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل [{جُفَآءً} يجفؤه السيل:]، أي يرمي به.
اعلم أنه تعالى لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمى والبصير والظلمات والنور، ضرب للإيمان والكفر مثلا آخر فقال: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} ومن حق الماء أن يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها، من حق الماء إذا زاد على قدر الأودية أن ينبسط على الأرض، ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل، سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة، ولما ذكر تعالى هذا الزبد الذي لا يظهر إلا عند اشتداد جري الماء ذكر الزبد الذي لا يظهر إلا بالنار، وذلك لأن كل واحد من الأجساد السبعة إذا أذيب بالنار لابتغاء حلية أو متاع آخر من الأمتعة التي يحتاج إليها في مصالح البيت، فإنه ينفصل عنها نوع من الزبد والخبث، ولا ينتفع به بل يضيع ويبطل ويبقى الخالص. فالحاصل: أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد، وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء. والأجساد السبعة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به، فكذا ههنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن، والأودية قلوب العباد وشبه القلوب بالأودية، لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن، كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء، وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه، فكذا ههنا كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه، وكما أن الماء يعلوه زبد الأجساد السبعة المذابة يخالطها خبث، ثم إن ذلك الزبد والخبث يذهب ويضيع ويبقى جوهر الماء وجوهر الأجساد السبعة، كذا ههنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات، ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علما عظيما. كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه، كواد صغير، فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها، وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا. فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات، ليقلعها ويذهبها، كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه، فيتكدر بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهب بها؛ فإنه لا يجامعها ولا يشاركها، وهكذا يضرب الله الحق والباطل. ثم ذكر المثل الناري فقال: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله} وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد، فتخرجه النار وتميزه، وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به، فيرمى ويطرح ويذهب جفاء، وكذلك الشهوات والشبهات يرميها العلم والهدى من قلب المؤمن ويطرحها، ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستسقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم. كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره. ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما. والله الموفق. هذا هو المثل المائي، شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء، وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا، وقلب صغير كواد صغير يسع علما قليلا، فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها. ولما كانت الأودية مجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل، فيحتمله السيل، فيطفو على وجه الماء زبدا عاليا يمر عليه متراكما، ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض، فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى ذلك منه شيء، ويبقى الماء الذي تحت الغثاء، يسقي الله تعالى به الأرض فيحيي به البلاد والعباد والضجر والدواب، والغثاء يذهب جفاء يجفى ويطرح على شفير الوادي، فكذلك العلم والإيمان، الذي أنزله في القلوب، فاحتمله، فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة. فيطفو في أعلاها، واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلوب. فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء ويزول شيئا فشيئا حتى يزول كله ويبقى العلم النافع، والإيمان الخالص في هذا القلب، يرده الناس فيشربون ويسقون ويمرعون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان حمل الماء في العلو لا يمكن إلا عن قهر، وإنزاله في وقت دون غيره كذلك، أتبع هذا الختم قوله دليلاً مشاهداً عليه: {أنزل} ولما كان الإنزال قد يتجوز به عن إيجاد ما يعظم إيجاده، حقق أمره بقوله: {من السماء} ولما كان المنزل منها أنواعاً شتى قال: {ماء فسالت} أي فتسبب عن إنزاله لكثرته أن سالت {أودية} أي مياهها منها الكبير والصغير؛ والوادي: سفح الجبل العظيم الذي يقابله جبل أو تل فيجتمع فيه المطر، فيجري في فضائه، ومنه أخذت الدية -لجمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل {بقدرها} والقدر: اتزان الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان، فالمعنى أن المياه ملأت الأودية مع ما [في] ذلك من الدلالة على التفرد بالربوبية مما هو مثال للحق والباطل، وهو قوله: {فاحتمل} والاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له {السيل} وهو ماء المطر الجاري من الوادي {زبداً رابياً} أي عالياً بانتفاخه: والزبد: الرغوة التي تعلو الماء، ومدار المادة على الخفة، ويلزمها العلو، ومنه زبد البحر والبعير- للرغوة الخارجة من شدقه، والغضبان...
ولما كان الزبد أحسن مثل لمعبوداتهم، وكان لا يختص بالماء الذي هو مائع بطبعه بجمع الأوضار والأقذار بجريه، ذكر معه ما يشبهه في النفع من الجوامد الصلبة التي تزبد عند الإذابة مع كونها في حال الجمود في غاية الصفاء والخلوص عن الشوائب على ما يظهر، فقال: {ومما توقدون} أي إيقاداً مستعلياً {عليه} أي للإذابة {في النار} من المعادن {ابتغاء حلية} تتحلون بها من الأساور والحلق ونحوها {أو} ابتغاء {متاع} تتمتعون به من الدراهم والدنانير والسيوف والأواني ونحوها، وأصل المتاع: التمتع الحاضر، فهذا تقسيم حاصر لأنواع الفلز المنوه إليها مع إظهار التهاون به وإن تنافس الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه {زبد مثله} أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه.
ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق على المقصود، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول: هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى، فيا له من مثل! فأجيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الضرب العلي الرتب، الغريب العجب، المتين السبب {يضرب الله} أي الذي له الأمر كله {الحق والباطل} أي مثلهما؛ وضرب المثل: تسييره في البلاد يتمثل به الناس.
ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل، شرع في شرحه، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام، وهو إبطال الباطل الذي أضلهم، وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش، فقال: {فأما الزبد} أي الذي هو مثل للباطل المطلق {فيذهب} متعلقاً بالأشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته {جفاء} قال أبو حيان: أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له؛ وقال ابن الأنباري: متفرقاً، من جفأت الريح الغيم -إذا قطعته، وجفأت الرجل: صرعته- انتهى. فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما أثاره أهل العناد، لا بقاء له وإن جال جولة -يمتحن الله بها عباده ليظهر الثابت من المزلزل- ثم ينمحق سريعاً؛ وقال الرماني: والجفاء: نبوّ مكان الشيء به حتى يهلك. {وأما ما ينفع الناس} من الماء والفلز الذي هو مثل الحق {فيمكث في الأرض} ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء، والفلز الذي به التمام. فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحيي الأراضي الميتة، والمعادن تحيي موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة، والأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة.
ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان، لأنه أحسن شيء معنى بأوجز عبارة وأوضح دلالة، كان كأنه قيل: هل يبين كل شيء هذا البيان؟ فقيل: نعم، {كذلك} أي مثل ذلك الضرب {يضرب الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {الأمثال} فيجعلها في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم نمضي مع السياق. يضرب مثلا للحق والباطل. للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح. للخير الهادئ والشر المتنفج. والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار. ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء. وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق. (أنزل من السماء ماء، فسالت أودية بقدرها...).. وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق؛ ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام، الذي تجري في وجوه قضايا السورة وموضوعاتها. وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار.. وأن تسيل هذه الأودية بقدرها، كل بحسبه، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء.. وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة.. وليس هذا أو ذاك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه. إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان. هذا الزبد نافش راب منتفخ.. ولكنه بعد غثاء. والماء من تحته سارب ساكن هادئ.. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة.. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل. ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء.. ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه. والحق يظل هادئا ساكنا. وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح، ينفع الناس. (كذلك يضرب الله الأمثال) وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات. ومصائر الأعمال والأقوال وهو الله الواحد القهار، المدبر للكون والحياة، العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {أنزل من السماء ماء} استئناف ابتدائي أفاد تسجيل حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء التي من شأنها أن تهدي من لم يطبع الله على قلبه فاهتدى بها المؤمنون. وجيء في هذا التسجيل بطريقة ضرب المثل بحالي فريقين في تلقي شيء واحد انتفع فريق بما فيه من منافع وتعلق فريق بما فيه من مضار. وجيء في ذلك التمثيل بحالة فيها دلالة على بديع تصرف الله تعالى ليحصل التخلص من ذكر دلائل القدرة إلى ذكر عبَر الموعظة، فالمركب مستعمل في التشبيه التمثيلي بقرينة قوله: {كذلك يضرب الله الحق} الخ. شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء. وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يَمرّ على التّلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كُلّ بقدر سعته. وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زَبَداً، وهو رغوة الماء التي تربو وتطفو على سطح الماء، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي. ثم شُبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون، ويخالط قلوبَ قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحاداً. كقولهم: {هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كلّ ممزّق إنكم لفي خلق جديد}. ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [سورة آل عمران: 7]. شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحدَارِه على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها، ثم ما يدفع من نفسه زبداً لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
للمثل في القرآن قيمة كبرى في تجسيد المفاهيم العامة السلبية منها والإيجابية، لأنه يعطي المفهوم صورته الواقعية في حركة الحياة، حيث يمكن للإنسان أن يعيش معناه في الواقع، بدلاً من أن يعيشه في الخيال المجرّد. وقد صوّر الله الكافر أعمى، والمؤمن بصيراً، ليتجسّد للإنسان إشراق الفكر في إشراقة البصر، كما تتجسّد ظلمة الكفر في ظلمة البصر، ولكي تمتد الصورة في المقارنة بين الكفر والإيمان، تماماً كما هي المقارنة بين الظلمة والنور. أما هذه الآية، فإنها تقارن بين الحق والباطل في صورةٍ أخرى.