9 - 14 إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ .
أي : اذكروا نعمة اللّه عليكم ، لما قارب التقاؤكم بعدوكم ، استغثتم بربكم ، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم فَاسْتَجَابَ لَكُمْ وأغاثكم بعدة أمور : .
منها : أن اللّه أمدكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي : يردف بعضهم بعضا .
ثم ساق - سبحانه - بعض مظاهر تدبيره المحكم في هذه الغزوة ، وبعض النعم التي أنعم بها على المؤمنين ، وبعض البشارات التي تقدمت تلك الغزوة أو صاحبتها ، والتى كانت تدل دلالة واضحة على أن النصر سيكون للمسلمين فقال - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ . . عَذَابَ النار } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } الاستغاثة : طلب الغوث والنصر ، يقال : غّوث الرجل ، أى : قال واغوثاه ، والاسم الغوث والغواث ، واستغاثنى فلان فأغثته ، والاسم الغياث .
وقوله { مُمِدُّكُمْ } من الإِمداد بمعنى الزيادة والإِغاثة ، وقد جرت عادة القرآن أن يستعمل الإِمداد في الخير ، وأن يستعمل المد في الشر والذم .
قال - تعالى - : { واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } وقال - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } قال - تعالى - : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } وقال - تعالى - : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقوله : { مُرْدِفِينَ } من الإِرداف بمعنى التتابع .
قال الفخر الرازى : قرأ نافع وأبو بكر عن عصام { مُرْدِفِينَ } - بفتح الدال - وقرأ الباقون بكسرها ، والمعنى على الكسر ، أى : ممتابعين يأتى بعضهم في إثر البعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب .
والمعنى على قراءة الفتح ، أى : فعل بهم ذلك ، ومعناه أن الله - تعالى - أردف المسلمين وأمدهم بهم أي جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم .
والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم - وأنتم على أبواب بدر - { تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أى : تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم { فاستجاب لَكُمْ } دعاءكم ، وكان من مظاهر ذلك أن أخبركم على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - بأنى { مُمِدُّكُمْ } أى : معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين ، أى : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أو أن الله - تعالى - جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم .
ويروى الإِمام مسلم عن ابن عباس قال : " حدثنى عمر بن الخطاب قال : كان يوم بدر ، فاستقبل نبى الله - القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه منكبيه .
فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من وراءه ، وقال : يا نبى الله ! ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله - عز وجل - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ } " الآية فأمده الله بالملائكة .
وروى البخارى عن ابن عباس قال : قال النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، " اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال حسبك ، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " " .
وروى سعيد بن منصور عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وتكاثرهم ، وإلى الله فاستقلهم ، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاته : " اللهم لا تودع منى اللهم لا تخذلنى ، اللهم لا تترنى - أي لا تقطعنى عن أهلى وأنصارى - أولا تنقضى شيئاً من عطائك - اللهم أنشدك ما وعدتنى - أى : أستنجزك وعدك " " .
وروى ابن إسحاق في سيرته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتنى .
فإن قيل : إن هذه النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم فلماذا أسندها القرآن إلى المؤمنين ؟
فالجواب : أن المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه - صلى الله عليه وسلم - ويتأسون به في الدعاء ، إلا ان الروايات ذكرت دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو قائد المؤمنين ، وهو الذي يحرص الرواة على نقل دعائه ، أكثر من حرصهم على نقل دعاء غيره من أصحابه .
وقيل : إن الضمير في قوله { تَسْتَغِيثُونَ } للرسول - صلى الله عليه وسلم - وجئ به مجموعا على سبيل التعظيم ، ويعكر على هذا القبل أن السياق بعد ذلك لا يلتئم معه ، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التي أنعم بها - سبحانه - عليهم .
وعبر - سبحانه - بالمضارع { تَسْتَغِيثُونَ } مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية - استحضارا للحال الماضية ، حتى يستمروا على شكرهم لله ، ولذلك عطف عليه . فاستجاب لكم ، بصيغة الماضى مسايرة للواقع .
وكان العطف بالفاء للإِشعار بأن إجابة دعائهم كانت في أعقاب تضرعهم واستغنائهم وهذا من فضل الله عليهم ، ورحمته بهم ، حيث أجارهم من عدوهم ، ونصرهم عليه - مع قلتهم عنه - نصرا مؤزرا .
والسين والتاء في قوله : { تَسْتَغِيثُونَ } للطلب ، أى : تطلبون منه الغوث بالنصر .
فإن قيل : إن الله - تعالى - ذكر هنا انه أمدهم بألف من الملائكة ، وذكر في سورة آل عمران أنه امدهم بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما ؟
فالجواب أن الله - تعالى - أمد المؤمنين بألف من الملائكة في يوم بدر ، كما بين هنا في سورة الأنفال ، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف كما قال - تعالى - في سورة آل عمران : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ . . . }
ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف ، قال - تعالى - { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } وقد صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فورا حين استنفرهم أبو سفيان لإِنقاذ العير . . فكان المدد خمسة آلاف .
واختار ابن جرير أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة في الآيات على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا ، ولا يثبت شئ من ذلك إلا بنص .
وهذا بناء على أن المدد الذي وعد الله به المؤمنين في آيات سورة آل عمران كان خاصاً بغزوة بدر .
أما على الرأى القائل بأن هذا المدد الذي بتلك الآيات كان خاصا بغزوة أحد فلا يكون هناك إشكال بين ما جاء في السورتين .
وقد بسط القول في هذه المسألة الإِمام ابن كثير فقال ما ملخصه :
" اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين :
أحدهما : أن قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } متعلق بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } وهذا قول الحسن والشعبى والربيع بن أنس وغيرهم . . .
فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآيات - التي في سورة آل عمران وبين قوله في سورة الأنفال - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } .
فالجواب : أن التنصيص على الألف هنا ، لا ينافى الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله - تعالى - { مُرْدِفِينَ } بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف آخر مثلهم .
قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف .
والقول الثانى يرى أصحابه أن هذا الوعد - وهو قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } متعلق بقوله - قبل ذلك - { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وذلك يوم احد .
وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، والضحالك ، وغيرهم .
لكن قالوا : لم يحصل الإِمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين يومئذ فروا .
وزاد عكرمة : ولا بالثلاثة الآلاف لقوله - تعالى { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا ملك واحد .
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها ، حيث يتجلى كيف كانت حالهم ، وكيف دبر الله لهم ، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً . . . والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته ، ليعيشوه مرة أخرى ، ولكن في ضوء التوجيه القرآني ، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً ، والجزيرة العربية ، والأرض كلها ؛ وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى ؛ كما أنها تتجاوز يوم بدر ، وتاريخ الجزيرة العربية ، وتاريخ البشرية في الأرض ، وتمتد وراء الحياة الدنيا ، حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى ، وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله ، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى : ( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوافوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه ، وأن للكافرين عذاب النار ) . .
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته ، وتدبيره وقدره ؛ وتسير بجند الله وتوجيهه . . وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان ، كأنه يكون الآن !
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً " قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . .
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر : عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . . ونحن - على طريقتنا في الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . . فهذا عددهم . . ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) . . فهذا عملهم . . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . . وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .
قال البخاري : باب شهود الملائكة بدراً : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي [ ص ] فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ? قال : " من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال : " وكذلك من شهد بدراً من الملائكة " . . . [ انفرد بإخراجه البخاري ] . . .
( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) .
{ إذ تستغيثون ربكم } بدل من { إذ يعدكم } أو متعلق بقوله { ليحق } بقوله { ليحق الحق } ، أو على إضمار اذكر ، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله : كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . { فاستجاب لكم أني مُمدّكم } بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول . { بألف من الملائكة مردفين } متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت بعده ، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين ، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه . وقرأ نافع ويعقوب " مُرِدفين " بفتح الدال أي متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم . وقرئ { مُرِدفين } بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع . وقرئ " بآلاف " ليوافق ما في سورة " آل عمران " ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة ، أو وجوههم وأعيانهم ، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها .
وقوله : { إذ تستغيثون ربكم } الآية ، { إذ } متعلقة بفعل ، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال الآية : 7 ] وقال الطبري : هي متعلقة ب { يحق . . ويبطل } .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يعمل فيها { يعدكم } [ الأنفال : 7 ] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم ، و { تستغيثون } معناه تطلبون ، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم ، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى ، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال ، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك ، وقرأ جمهور الناس «أني » بفتح الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني » بكسر الألف أي قال إني ، و { ممدكم } أي مكثركم ومقويكم من أمددت . وقرأ جمهور الناس «بألف » وقرأ عاصم الجحدري «بآلف »{[5227]} على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف ، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران{[5228]} ، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً «بآلاف » و { مردفين } معناه متبعين ، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف { مردفين } على هذا حال من الضمير في قوله { ممدكم } ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع «مردِفين » بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً{[5229]} وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك ، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء ، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين .
ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً ، ومن قال «مردفين » بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية ، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مرَدِّفين » بفتح الراء وكسر الدال وشدها .
وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك ، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك ، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه ، وحكاه أبو حاتم قال : كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ، ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة ، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر [ خزيمة بن مالك ] : [ الوافر ]
إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثّريَا*** ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا{[5230]}
والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر ، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل : لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف ، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها ، وقال ابن عباس : كانا في خمسمائة خمسمائة ، وقال الزجّاج : قال بعضهم : إن الملائكة خمسة آلاف ، وقال بعضهم : تسعة آلاف ، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير .