وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد رعيته هذه القوة والقدرة وأبلغ من ذلك أن { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } . قال المفسرون : هو رجل عالم صالح عند سليمان يقال له : " آصف بن برخيا " كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعا الله به أجاب وإذا سأل به أعطى .
{ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } بأن يدعو الله بذلك الاسم فيحضر حالا وأنه دعا الله فحضر . فالله أعلم [ هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل الشديد ]{[595]} .
{ فَلَمَّا رَآهُ } سليمان { مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ } حمد الله تعالى على إقداره وملكه وتيسير الأمور له و { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } أي : ليختبرني بذلك . فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين ، بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة ، ثم بين أن هذا الشكر لا ينتفع الله به وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه فقال : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } غني عن أعماله كريم كثير الخير يعم به الشاكر والكافر ، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها وكفرها داع لزوالها .
وكأن سليمان قد استبطأ إحضاره عرش تلك المملكة فى هذه الفترة التى حددها ذلك العفريت القوة ، فنهض جندى آخر من جنوده ، ذكره القرآن بقوله : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } . قالوا : والمراد بهذا الذى عنده علم من الكتاب : آصف بن برخيا ، وهو رجل من صلحاء بنى إسرائيل ، آتاه الله - تعالى - من لدنه علما ، وكان وزيرا لسليمان .
قالوا : وكان يعلم اسم الله الأعظم ، الذى إذا دعى به - سبحانه - أجاب الداعى ، وإذا سئل به - تعالى - أجاب السائل .
قيل : المراد به سليمان نفسه ، ويكون الخطاب على هذا العفريت ، فكأنه استبطأ ما قاله العفريت فقال له : - على سبيل التحقير - أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك .
وقيل : المراد به جبريل ، والأول هو المشهور عند المفسرين .
أى : قال الرجل الذى عنده علم من كتاب الله - تعالى - يا سليمان أنا آتيك بعرش بلقيس ، قبل أن تغمض عينك وتفتحها ، وهو كناية عن السرعة الفائقة فى إحضاره .
وفى ذلك ما فيه من الدلالة على شرف العلم وفضله وشرف حاملية وفضلهم وأن هذه الكرامة التى وهبها الله - تعالى - لهذا الرجل ، كانت بسبب ما آتاه - سبحانه - من علم .
وجاء عرش الملكة لسليمان من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، بتلك السرعة الفائقة { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } أى : فلما رأى سليمان العرش المذكور حاضرا لديه ، وكائنا بين يديه . . . لم يغتر ولم يتكبر ، ولم يأخذه الزهو والعجب . بل قال - كما حكى القرآن عنه - : { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } .
أى : قال سليمان : هذا الذى أراهى من إحضار العرش بتلك السرعة من فضل ربى وعطائه ، لكى يمتحننى أأشكره على نعمه أم أجحد هذه النعم .
{ وَمَن شَكَرَ } الله - تعالى - على نعمه { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } حيث يزيده - سبحانه - منها .
{ وَمَن كَفَرَ } نعم الله - تعالى - وجحدها { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } عن خلقه { كَرِيمٌ } فى معاملته لهم ، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، بل يعفو ويصفح عن كثير من ذنوبهم
فإذا ( الذي عنده علم من الكتاب )يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه ، ولا يذكر اسمه ، ولا الكتاب الذي عنده علم منه . إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله ، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد . وهو أمر يشاهد أحيانا على أيدي بعض المتصلين ، ولم يكشف سره ولا تعليله ، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية . وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات !
ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله : ( عنده علم من الكتاب )فقال بعضهم : إنه التوراة . وقال بعضهم : إنه كان يعرف اسم الله الأعظم . وقال بعضهم غير هذا وذاك . وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن . والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع ، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها ، وكم فيه من قوى لا نستخدمها . وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها . فحيثما أراد الله هدى من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة ، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره ، حيث لا يملك من لم يرد الله أن يجريها على يديه أن يجريها .
وهذا الذي عنده علم من الكتاب ، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم ، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده ، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي ، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار .
وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه - عليه السلام - ونحن نرجح أنه غيره . فلو كان هو لأظهره السياق باسمه ولما أخفاه . والقصة عنه ، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر . وبعضهم قال : إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه .
( فلما رآه مستقرا عنده قال : هذا من فضل ربي ، ليبلوني أأشكر أم أكفر ? ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ) .
لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان - عليه السلام - وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز ؛ واستشعر أن النعمة - على هذا النحو - ابتلاء ضخم مخيف ؛ يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه ، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه ؛ ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم ، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه . والله غني عن شكر الشاكرين ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، فينال من الله زيادة النعمة ، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء . ومن كفر فإن الله( غني )عن الشكر( كريم )يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء .
{ قال الذي عنده علم من الكتاب } آصف بن برخيا وزيره ، أو الخضر أو جبريل عليهما السلام أو ملك أيده الله به ، أو سليمان عليه السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في : { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك ، أو أراد إظهار معجزة في نقله فتحداهم أولا ثم أراهم أنه يتأتى له ما لا يتأتى لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم ، والمراد ب { الكتاب } جنس الكتب المنزلة أو اللوح ، و{ آتيك } في الموضعين صالح للفعلية والاسمية ، " والطرف " تحريك الأجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله :
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا *** لقلبك يوما أتعبتك المناظر
وصف برد الطرف والطرف بالارتداد ، والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك ، وهذا غاية في الاسراع ومثل فيه . { فلما رآه } أي العرش { مستقرا عنده } حاصلا بين يديه . { قال } تلقيا للنعمة بالشكر يعلى شاكلة المخلصين من عباد الله تعالى { هذا من فضل ربي } تفضل به علي من غير استحقاق ، والإشارة إلى التمكن من إحضار العرش في مدة ارتداد الطرف من سيرة شهرين بنفسه أو غيره ، والكلام في إمكان مثله قد مر في آية " الإسراء " . { ليبلوني أأشكر } بأن أراه فضلا من الله تعالى بلا حول مني ولا قوة وأقوم بحقه . { أم أكفر } بأن أجد نفسي في البين ، أو اقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء . { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران . { ومن كفر فإن ربي غني } عن شكره . { كريم } بالإنعام عليه ثانيا .