{ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } أي : لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام ، الذين طهرهم الله تعالى من الآفات ، والذنوب والعيوب ، وإذا كان لا يمسه إلا المطهرون ، وأن أهل الخبث والشياطين ، لا استطاعة لهم ، ولا يدان إلى مسه ، دلت الآية بتنبيهها{[973]} على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر ، كما ورد بذلك الحديث ، ولهذا قيل أن الآية خبر بمعنى النهي أي : لا يمس القرآن إلا طاهر .
وقوله - سبحانه - : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } : صفة للكتاب الذى هو اللوح المحفوظ . أى : أن هذا القرآن قد اقتضت حكمتنا أن نجعله فى كتاب مصون بحيث لا يطلع عليه قبل نزوله . من اللوح المحفوظ ولا يمسه أحد ، إلا الملائكة المطهرون من كل ما يوجب الطهارة .
وعلى هذا التفسير يكون الغرض من الآيات الكريمة ، نفى ما زعمه المشركون من أن القرآن تنزلت به الشياطين ، وإثبات أن هذا القرآن مصون فى كتاب مستور عن الأعين ، هو اللوح المحفوظ . وأن الملائكة المطهرين وحدهم الذين يطلعون على هذا القرآن من اللوح المحفوظ ، وهم وحدهم الذين ينزلون به على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
كما قال - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } وكما قال - سبحانه - : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } ومنهم من يرى أن قوله - تعالى - : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } صفة أخرى للقرآن الكريم ، فيكون المعنى : إن هذا القرآن الكريم . لا يصح أن يمسه إلا المطهرون من الناس ، عن الحدث الأصغر ، والحدث الأكبر ، فيكون المراد بالطهارة : الطهارة الشرعية . .
وقد رجح العلماء الرأى الأول الذى يرى أصحابه أن قوله - تعالى - : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } صفة للوح المحفوظ المعبر عنه بأنه كتاب مكنون ، وأم المراد بالمطهرين : الملائكة المقربون . . .
وقالوا فى تأييد ما ذهبوا إليه : إن الآيات مسوقة لتنزيه القرآن عن أن تنزل به الشياطين ، وأنه فى مكان مأمون لا يصل إليه إلا الملائكة المقربون .
والآيات - أيضا - مكية ، والقرآن المكى أكثر اهتمامه كان موجها إلى إبطال شبهات المشركين ، وليس إلى الأحكام الفرعية ، التى تحدث عنها القرآن المدنى كثيرا .
كذلك قالوا : إن وصف الكتاب بأنه { مَّكْنُونٍ } يدل على شدة الصون والستر عن الأعين ، بحيث لا تناله أيدى البشر ، وهذا لا ينطبق إلا على اللوح المحفوظ ، أما القرآن فيمسه المؤمن وغير المؤمن .
قال الإمام القرطبى ما ملخصه قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } اختلف فى معنى { لاَّ يَمَسُّهُ } هل هو حقيقة فى المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلف فى { المطهرون } من هم ؟ .
فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة . .
وقيل المراد بالكتاب : المصحف الذى بأيدينا ، وهو الأظهر ، وقد روى مالك وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فى كتابه الذى كتبه إلى شرحبيل بن كلال . . . " ألا يمس القرآن إلا طاهر " .
وقال أخت عمر لعمر عن إسلامه : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } فقام واغتسل . ثم أخذ الصحيفة التى بيدها ، وفيها القرآن .
ثم قال : اختلف العلماء فى مس المصحف على غيره وضوء : فالجمهور على المنع .
وفى مس الصبيان إياه على وجهين : أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ والثانى الجواز ، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن . لأن تعلمه حال الصغر ، ولأن الصبى وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة ، لأن النية لا تصح منه ، فإذا جاز أن يحمله على طهارة ، جاز أن يحمله محدثا .
( لا يمسه إلا المطهرون ) . . فقد زعم المشركون أن الشياطين تنزلت به . فهذا نفي لهذا الزعم . فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه . إنما تنزل به الملائكة المطهرون . . وهذا الوجه هو أظهر الوجوه في معنى( لا يمسه إلا المطهرون ) . ف( لا )هنا نافية لوقوع الفعل . وليست ناهية . وفي الأرض يمس هذا القرآن الطاهر والنجس . والمؤمن والكافر ، فلا يتحقق النفي على هذا الوجه . إنما يتحقق بصرف المعنى إلى تلك الملابسة . ملابسة قولهم : تنزلت به الشياطين . ونفي هذا الزعم إذ لا يمسه في كتابه السماوي المكنون إلا المطهرون . .
قال ابن جرير : حدثني إسماعيل بن موسى{[28152]} ، أخبرنا شريك ، عن حكيم - هو ابن جبير - عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } قال : الكتاب الذي في السماء .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { [ لا يَمَسُّهُ ] إِلا الْمُطَهَّرُونَ } {[28153]} يعني : الملائكة . وكذا قال أنس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وأبو نَهِيك ، والسُّدِّيّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، حدثنا معمر ، عن قتادة : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس . وقال : وهي في قراءة ابن مسعود : { مَا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } .
وقال أبو العالية : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } ليس أنتم أصحاب الذنوب .
وقال ابن زيد : زَعَمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال : { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210 - 212 ] .
وهذا القول قول جيد ، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله .
وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به .
وقال آخرون : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } أي : من الجنابة والحدث . قالوا : ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن هاهنا المصحف ، كما روى مسلم ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، مخافة أن يناله العدو{[28154]} . واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزم : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : ألا يمس القرآن إلا طاهر{[28155]} . وروى أبو داود في المراسيل ، من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ولا يمس القرآن إلا طاهر " {[28156]} .
وهذه وِجَادةٌ جيدة . قد قرأها الزهري وغيره ، ومثل هذا ينبغي{[28157]} الأخذ به . وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم ، وعبد الله بن عمر ، وعثمان بن أبي العاص ، وفي إسناد كل منها نظر{[28158]} ، والله أعلم .
وجملة { لا يمسه إلا المطهرون } صفة ثانية ل { كتاب } .
و { المطهّرون } : الملائكة ، والمراد الطهارة النفسانية وهي الزكاء . وهذا قول جمهور المفسرين وفي « الموطأ » قال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية { لا يمسه إلا المطهرون } أنها بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى ( 11 16 ) قول الله تبارك وتعالى : { لكلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة اهـ . { يريد أن المطهرون } هم السفرة الكرام البررة وليسوا الناس الذين يتطهرون .
ومعنى المسّ : الأخذ وفي الحديث : « مَس من طيبة » ، أي أخذ . ويطلق المسّ على المخالطة والمطالعة قال يزيد بن الحكم الكلابي :
مسِسْنا من الآباء شيئاً فكلُّنا *** إلى حسَب في قومه غير واضع
قال المرزوقي في شرح هذا البيت من « الحماسة » : « مسسنا » يجوز أن يكون بمعنى أصبنا واختبرنا لأن المس باليد يقصد به الاختبار . ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا اهـ . فالمعنى : أن الكتاب لا يباشر نقل ما يحتوي عليه لتبليغه إلا الملائكة .
والمقصود من هذا أن القرآن ليس كما يزعم المشركون قول كاهن فإنهم يزعمون أن الكاهن يتلقى من الجن والشياطين ما يسترِقونه من أخبار السماء بزعمهم ، ولا هو قول شاعر إذ كانوا يزعمون أن لكل شاعر شيطاناً يملي عليه الشعر ، ولا هو أساطير الأولين ، لأنهم يعنون بها الحكايات المكذوبة التي يَتلهى بها أهلُ الأسمار ، فقال الله : إن هذا القرآن مطابق لما عند الله الذي لا يشاهده إلا الملائكة المطهرون .